لم يكن الشعب التركي وحده على قدم وساق ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو الماضي، فخروج الشعب التركي إلى الشوارع في تلك الليلة لم يكن فقط لتقرير مصير هذه البلاد و مواطنيها وحدهم فحسب، بل كان يحمل بين طياته تقرير مصير الملايين من غير الأتراك، اختاروا تركيا ملجأً وبلدًا للمهجر وللحماية من مصيرهم في بلادهم الأم.
اتخذت تركيا موقفًا واضحًا وصريحًا منذ تبعات أزمات الربيع العربي منذ بدايتها مرورًا بالثورة السورية وتحولها إلى حرب دموية، وصولًا إلى الانقلاب العسكري في مصر وما تبعها من تطورات الأزمات السياسية في العراق، فكان الباب مفتوحًا لإيواء اللاجئين والهاربين من المصير الدموي المُنتظرهم في بلادهم، كما كانت حليفًا للهاربين من الأحكام العسكرية الظالمة، فقررت إيوائهم وتسهيل إجراءات إقاماتهم داخل حدود الأراضي التركية، بل وسهلت لهم إجراءات الدراسة والعمل كذلك.
لم يُرضي الموقف التركي الرسمي تجاه قضايا الربيع العربي كثيرًا من الأطراف التركية، وبالأخص المُعارضة منها، كما لم يكن محل رضا بين كثير من صفوف الشعب، وبخاصة القوميين منهم، تأزمت العلاقة بين السوريين في تركيا وبين الأتراك في بعض الأحيان، ووصلت لذروتها في عديد من الحوادث سمع عنها بعضنا في وسائل الإعلام التركية، كما وصل الأمر إلى حملات إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي شهدت إقبالًا بين أوساط المعارضين للرئيس التركي وحزبه “العدالة والتنمية” لمعارضة تواجد الملايين من اللاجئين على الأراضي التركية.
لم يخطر على بال السوريين المتواجدين في تركيا قط أن سيأتي يوم يحتاجون فيه للهروب من البلد والبحث عن ملجأ آخر لهم، كما لم يخطر ببال المصريين الهاربين من ظلم الحكم العسكري أنهم سيضطرهم الوضع التركي من العودة إلى مصير أسود ينتظرهم حالما تخطو أرجلهم خطواتها الأولى على الأراضي المصرية
على الرغم من احتدام الموقف بين الأتراك المعارضين للحزب الحاكم، واستخدامهم مسألة اللاجئين حُجة بيّنة لمعارضة الحزب بزعمهم لفشل سياسته الخارجية التي أدت إلى تواجد الملايين من اللاجئين، تحديدًا العرب منهم، على الأراضي التركية، وتنافسهم مع الأتراك أنفسهم على المقاعد الدراسية و وظائف العمل الشاغرة، إلا أن ذلك لم يُقلق تلك الأعداد من اللاجئين والمهاجرين إلى البلاد، وذلك لمساندة الإدارة الرسمية والجهات الحكومية المسئولة في البلد لموقفهم ورغبتهم في مساعدتهم وحمايتهم من الظلم المدقع في بلادهم.
لم يُرضي الموقف التركي الرسمي تجاه قضايا الربيع العربي كثيرًا من الأطراف التركية، وبالأخص المُعارضة منها، كما لم يكن محل رضا بين كثير من صفوف الشعب، وبخاصة القوميين منهم
لم يخطر على بال السوريين المتواجدين في تركيا قط أن سيأتي يوم يحتاجون فيه للهروب من البلد والبحث عن ملجأ آخر لهم، كما لم يخطر ببال المصريين الهاربين من ظلم الحكم العسكري أنهم سيضطرهم الوضع التركي من العودة إلى مصير أسود ينتظرهم حالما تخطو أرجلهم خطواتها الأولى على الأراضي المصرية، فكان الوضع مسالمًا لهم ولغيرهم من الجنسيات الأخرى كالعراقيّين والفلسطينيين والليبيين وغيرهم، ولكن كل شيء تغير في الساعات الأولى من ليل الخامس عشر من تموز/يوليو، حينما خرج المتمردين أتباع جماعة فتح الله غولن لمحاولة السيطرة على منافذ مدينة إسطنبول، والسيطرة على الإعلام التركي الرسمي.
انقلاب ثاني.. مرة أخرى
يعد هذا الانقلاب العسكري الثاني الذي أشهده في حياتي بعد الانقلاب العسكري في مصر، هكذا بدأ معنا “محمد جمال” مصري طالب للدراسات العليا في مدينة إسطنبول حديثه لنون بوست عن وقع ذكرى ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا عليه، وكمواطن مصري فتلك تعد الذكرى الثانية له ليشهد انقلابًا عسكريًا، لم يكن “محمد” طالبًا في شهوره الأولى أثناء إقامته في تركيا، إلا أنه وجد من الأتراك تسهيلًا في المعاملات للحصول على إقامة سياحية للمصريين الهاربين من ظلم الانقلاب العسكري في مصر.
واحد من الأتراك سأله إن كان سوريًا أم لا، فأخبره بأنه مصري، فكان رد التركي له بأنهم اليوم يحررون بلادهم ليقوموا بحمايتهم أيضًا، فلا داع للقلق، حيث أخبره الرجل بأن تركيا لن تصبح مثل مصر
حينما بدأت الأخبار والصور تتسرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي عن تدبير محاولة للانقلاب العسكري في تركيا، لم يصدق البعض في البداية، لم يخطر في بال أي أحد من الأجانب مجيء مثل هذا اليوم في تركيا، في متابعة لحديث “محمد جمال” مع نون بوست يقول لنا أنه كان في أكثر المناطق المزدحمة في إسطنبول في ذلك الوقت وهو ميدان “شيرين إيفلير” حيث هو أقرب المناطق للمتوجهين من خط المترو نحو المطار ومن المطار.
كان الوضع غامضًا ومرتبكًآ في البداية كما يتابع “محمد جمال”، إلا أن كل شيء بات واضحًا بعد خروج الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” متحدثًا إلى الجماهير ليخرجوا مدافعين عن كل شبر من أرض وطنهم أمام المرتدين والمغيرين على ديموقراطية بلادهم، شهد حينها “محمد” الأتراك من مختلف فئات الشعب التركي في مسيرات تتجه لتحرير مطار “أتاتورك” الذي كان قد استولى عليه المنشقين عن الجيش التركي، يقول “محمد” لنون بوست أن تركيا أحسنت في أداء واجبها تجاهه وتجاه المصريين، ولهذا قرر أن يكون جزءًا من تلك المسيرة نحو مطار “أتاتورك”، ذلك لأنه لم يرغب أن يحل بتركيا نفس المصير الذي حل ببلاده بعد الانقلاب العسكري.
لم يرد أن يُظهر “محمد” لمن حوله من الأتراك أنه عربي، خوفًا من ردة فعل الأتراك حيال ذلك لكونهم متشككين في كل أجنبي حولهم، إلا أن واحدًا من الأتراك سأله إن كان سوريًا أم لا، فأخبره بأنه مصري، فكان رد التركي له بأنهم اليوم يحررون بلادهم ليقوموا بحمايتهم أيضًا، فلا داع للقلق، حيث أخبره الرجل بأن تركيا لن تصبح مثل مصر.
ما بين المغرب وسوريا و تركيا
توقف جسر البسفور عن العمل في ليلة الانقلاب جعل الزوجين يعودان لمنزلهما سيرًا على الأقدام
تعمل “صفية عمري” من المغرب وزوجها “محمد الهندي” من سوريا في مجال الإنتاج في مدينة إسطنبول، وحينما سأل نون بوست “صفية” عن ذكرى ليلة محاولة الانقلاب بالنسبة إليها أخبرتنا بأن الأمر كان صعب التصديق في البداية حيال معرفتنا بالخبر، حتى صار الأمر حقيقة حينما وجد كلاهما أفراد عائلتهم تتصل بهم بدون توقف للإطمئنان عليهم، حينها كان خبر الانقلاب حقيقيًا بالفعل.
قرر الزوجان التحرك من الجانب الأوروبي إلى الجانب الآسيوي حيث منزلهم قرب الساعة الحادية عشر، وذلك لأن كل أوراق إثبات هويتهم هناك، كانت الحركة مازلت عادية ولكن قلقة في الشوارع، ولكن الاحتمالات كلها كانت تدور في بال “صفية”، فزوجها سوري، وبلدها المغرب تمنعه من الدخول، فماذا يكون الحل لو تم ترحيلهم، ماذا لو نجح الانقلاب و طالبوا برحيل السوريين من تركيا!
كان أكثر ما يُقلق “صفية” هو مصيرها مع زوجها إذا رُحل السوريين، فكانت تحاول تسجيل وتوثيق زواجها في المغرب لكنها لم تفلح، فدار في بالها الكثير من الاحتمالات، منها الاختباء داخل تركيا إلى أن تهدأ الأمور، أو الهرب عبر الحدود إلى بلد آخر، حيث تتابع لنا في حديثها مع نون بوست أن تركيا أصبحت قطعة منها وإسطنبول لا يغادرها غير أحمق أو مضطر، فهي وجدت على أرضها الحب والمغامرة، فهي لا تظن أن يكون الإنسان قادرًا على أن يترك البلد التي وجد فيها الحب لأول مرة.
سار الزوجين على أصوات الطائرات من فوقهم ووصلوا إلى بيتهم مشيًا على الأقدام، فلم تكن هناك وسيلة لتقلهم، هدأت الأوضاع، وبدأت التكبيرات تخرج من كل مساجد البلد لتنذر ببداية انفراج الأزمة، إلى أن طلع الصبح وانفرج الهم.
الاحتمالات كلها كانت تدور في بال “صفية”، فزوجها سوري، وبلدها المغرب تمنعه من الدخول، فماذا يكون الحل لو تم ترحيلهم، ماذا لو نجح الانقلاب و طالبوا برحيل السوريين من تركيا!
داعمًا لتركيا خارج البلاد
“محمد طاهري” في احتفالات إسطنبول أمس بمرور سنة على محاولة الانقلاب الفاشلة
“محمد طاهري” يعمل في القناة التركية TRT WORLD في مقرها في إسطنبول، إلا أنه في ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو كان خارج تركيا في بلده الأم “مقدونيا” في العاصمة “سكوبيا”، يخبرنا “محمد” أثناء حديثنا معه بأنه يدين بالولاء للحكومة التركية وبالأخص حكومة “رجب طيب أردوغان”، ذلك لأنها كانت حليفًا وصذيقًا لمسلمي دول البلقان، وكانت الراعي الرسمي لمساندتهم بالمدارس والمستشفيات والمنظمات غير الربحية وغير الحكومية، كما كان الحال بالنسبة لجماعة فتح الله غولن، فهي معروفة في دول البلقان، بل تكاد تكون لها السيطرة أكثر من الحكومة التركية، وخصوصًا في آلبانيا وفي البوسنة.
يتابع “محمد” في حديثه لنون بوست قائلًا بأن ليلة الانقلاب الفاشل هي محاولة للانقلاب على الديمقراطية، وعلى إرادة الشعوب، بل هي محاولة لإعادة الشعب التركي للوراء في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث كان للجيش السيطرة المطلقة على إرادة الشعب.
يقول “محمد طاهري” لنون بوست بأنه يرى أن محاولة الانقلاب تلك لم تكن فقط على النظام الديمقراطي في تركيا، بل كانت بمثابة سقوطًا للعالم المسلم في العراق وفلسطين وسوريا و مصر، فلم تكن دول البقان وحدها لتتأثر، ولهذا قرر المسلمون في مقدونيا في العاصمة سكوبيا ومعهم “محمد” للخروج والتظاهر في شوارع العاصمة دعمًا للديمقراطية التركية مناهضين للانقلاب وللقائمين عليه.
من خلال حديث نون بوست مع مجموعة من العراقيين والسوريين والفلسطينيين، يكاد يتفق جميعهم على أن نظرتهم تغيرت للشعب التركي بعد تلك الليلة، فزاد احترامهم لهم بعد خروجهم للدفاع عن وطنهم أمام محاولة الاعتداء على ديمقراطيتهم، فبعد أن فكر الأغلبية من اللاجئين والهاربين من تركيا في بلاد قد تستقبلهم مثل ماليزيا والسودان كخيار أول للمصريين والسوريين، عادت الأمور إلى طبيعتها خلال ست ساعات منذ بداية الأزمة وحتى انفراجها.