لا تغيب أزمة اللاجئين السوريين في لبنان عن المشهد لبُرهة، حتى تعود بإجراءات وآليات جديدة تضع العديد من إشارات الاستفهام حولها، لا سيما أن الحكومة اللبنانية سعت منذ تدفق اللاجئين السوريين إليها إلى تكريس حالة من عدم الاستقرار لدى اللاجئين وإبقائهم في ظروف صعبة بغية دفعهم للعودة إلى سوريا أو الهجرة إلى بلد ثالث.
وقد رافق تلك الظروف المأساوية تصاعد الخطاب الشعبوي لدى بعض الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة، التي تسعى إلى اختصار المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الموجودة في لبنان أصلًا قبل عام 2011، بالوجود السوري والآثار المرتبطة به.
تسليم بيانات اللاجئين السوريين
من الإجراءات الجديدة الناقمة على الوجود السوري في لبنان، تسلّمُ الأمن العام اللبناني قاعدة البيانات الخاصة باللاجئين السوريين على أراضيه من مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ففي تصريحات صحفية منتصف ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، قالت الناطقة باسم مفوضية اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد: “تمت مشاركة البيانات الحيوية الأساسية مع حكومة لبنان دفعة واحدة”، مدعية أن “البيانات لا تتضمن معلومات أو بيانات حساسة يشاركها اللاجئون مع المفوضية”.
وأشارت إلى أن “الحكومة اللبنانية التزمت بعدم استخدام أي بيانات يتم مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي، وأنها ملتزمة بمبدأ عدم الإعادة القسرية وموجباته بحسب القانون الدولي”.
خطوة تسليم بيانات اللاجئين السوريين جاءت بعد طلب الحكومة اللبنانية من المفوضية الأممية نهاية عام 2022 الحصول على البيانات بحجة “تنظيم الوجود السوري” في لبنان، إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن تسليمها إلا في أغسطس/آب 2023 بعد العديد من النقاشات وعوائق الشدّ والجذب، لا سيما الخوف من تسليمها لطرف ثالث، قبل أن يتم التسليم مطلع الشهر الجاري.
تريد الحكومة اللبنانية تحت تلك الحجة تصنيف اللاجئين ومعرفة أسباب نزوحهم والمناطق التي نزحوا منها، ما يعني تحديد من بات بإمكانه العودة إلى بلده أو من تسقط عنه صفة اللجوء ومن لا يحق له من هؤلاء تلقي مساعدات أممية.
وكان عدد من النواب في البرلمان اللبناني، قد تقدموا في يوليو/تموز الفائت، بعريضة إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، طالبوا فيها بـ”اتخاذ قرار عاجل بنزع صفة اللجوء عن السوريين الموجودين في لبنان”، وعزت العريضة الإجراء المطلوب وقتها إلى “انتفاء الأسباب والشروط والمبررات، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لإعادتهم إلى ديارهم”.
وكمحاولة لشيطنة الوجود السوري في لبنان وتحمليه الأزمات التي تعصف بلبنان، اتهم رئيس “التيار الوطني الحر” في لبنان، جبران باسيل، المقرب من رأس النظام بشار الأسد، الدول الغربية، بالعمل على تثبيت اللاجئين السوريين في لبنان عبر مفوضية الأمم المتحدة التي قال إنها “تمول بقاءهم”، واصفًا السلوك الدولي بأنه بات أقرب إلى “المؤامرة على لبنان وسوريا، ومصدر خطر على وجود لبنان”.
مخاوف اللاجئين السوريين
تشير الحكومة اللبنانية إلى أن رغبتها في الحصول على بيانات اللاجئين السوريين هي للحؤول دون التسبب بمشاكل إدارية وأمنية قد تحصل في المستقبل، لا سيما فيما يتعلق بتسجيل الولادات وعدم تحوّلهم إلى مكتومي قيد.
وعقب الانتهاء من المفاوضات بشأن اتفاق تسليم البيانات مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، صرح وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عبدالله بو حبيب، أن الاتفاق “يخدم مصلحة الطرفين، اللبناني والأممي، والدول المانحة، لجهة عدم استفادة الأشخاص الذين يستغلون هذه التقديمات بصورة غير قانونية، ويحرمون أشخاصًا أحق منهم بهذه التقديمات من الوصول إليها”، معتبرًا أن هذا الأمر “حق سيادي للبنان، كحق سائر الدول بمعرفة هوية الأشخاص الموجودين على أراضيها”.
بالمقابل فإن اللاجئين السوريين، لا سيما المنشقين والمقاتلين المعارضين، يتخوفون من وصول بياناتهم وأماكن إقاماتهم إلى أجهزة النظام الأمنية أو إلى أحزاب وجهات لبنانية موالية للنظام، خاصة أن الحكومة اللبنانية تهيمن على قراراتها ومفاصل أجهزتها الأمنية ميليشيا حزب الله اللبناني، ما يعني تعريض حياتهم للخطر من حيث تسليهم للنظام أو التصفية أو ابتزازهم ماليًا.
ولا تشمل ملفات اللاجئين السوريين في لبنان البيانات الشخصية العادية كأماكن المواليد والسكن الحاليّ ورقم الهاتف وعدد الأفراد فحسب، بل تحتوي على معلومات خطيرة كدوافع اللجوء إلى لبنان، وأسباب طلب الحماية، والانتهاكات التي تعرض لها السوريون في سوريا خلال فترة الحرب، وأسماء الضباط والأشخاص الذين ارتكبوا المجازر، بالإضافة إلى معلومات حساسة متعلقة بالوضع الأمني والقطع العسكرية وأسماء الضباط والميليشيات التي شاركت في حصار وقتل السوريين والتي يمكن أن تؤخذ من المنشقين العسكريين.
مفوضية اللاجئين كانت قد لفتت في بيان لها، أغسطس/آب الفائت، إلى التوصل لاتفاقية تتوافق مع المعايير الدولية لحماية البيانات، والتزام الحكومة اللبنانية بعدم استخدام أي بيانات يتم مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي، مضيفة أن الحكومة اللبنانية أعادت تأكيد التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسرية والتزاماتها بموجب القانون الدولي والمحلي.
تضييق خانق متزايد
خلال مؤتمر صحفي، في سبتمبر/أيلول المنصرم، أشار جورج عدوان، رئيس لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب اللبناني، إلى وجود نية للحكومة بسنّ قوانين لتشديد العقوبات على كل من يوظف أو يأوي سوريا ليس لديه أوراق رسمية في لبنان، منتقدًا في الوقت ذاته تصريحات قالها سامويل ويربيرغ، المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية بـ”أن الظروف غير مواتية لعودة السوريين إلى بلدهم”.
وقال عدوان: “سنقوم بالتشديد على أي مختار أو موظف رسمي يعطي إفادة كاذبة أو أي أوراق تسمح بالحصول على أوراق رسمية، وهذه كلها سوف تخرج باقتراحات قوانين سريعة لتشديد العقوبات”، وتابع “يجب أن يتوقف التمويل الذي يعطى للاجئين السوريين في لبنان، ويجب أن يتحرك القضاء والأجهزة الأمنية والحكومة والعمل على لجنة دائمة يومية لمتابعة التفاصيل التي ستقرّ لكي يعود السوري إلى بلده”.
ولا يخفى على أحد أن بيروت تنظر إلى اللاجئين السوريين كـ”ورقة ابتزاز” لتحصيل مزيد من الأموال الدولية، كما تفعل تركيا وتضغط بين الحين والآخر مهددة بفتح حدودها نحو أوروبا، لهذا تستمر القوى الأمنية والجيش اللبناني بحملات لتوقيف عدد من اللاجئين، ومداهمة تجمعاتهم السكنية بحجة عدم امتلاكهم المستندات القانونية المطلوبة، ثم ترحيلهم نحو الجانب السوري حيث الأجهزة الأمنية التي تستلمهم.
سوريا ما بين التعافي ورفض إعادة اللاجئين
في مقابلة بثتها قناة “سكاي نيوز عربية” أغسطس/آب الفائت، قال رئيس النظام بشار الأسد، إن البنى التحتية المدمرة بفعل سنوات الحرب تشكل التحدي الأبرز الذي يعيق عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم، متسائلًا: “كيف يمكن للاجئ أن يعود من دون ماء ولا كهرباء ولا مدارس لأبنائه ولا صحة للعلاج؟ هذه أساسيات الحياة”.
ويمكن استشفاف رغبة الأسد الواضحة من خطابه بالحصول على تمويل لإعادة الإعمار، وهو ما ترفضه دول الغرب جملةً وتفصيلًا قبل تحقيق انتقال سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254.
بالمقابل، فإن النظام يتعرض لضغط بإعادة اللاجئين السوريين، لا سيما أن الضغط كان قد أخذ منحى تصاعديًا، بعد وصف الوجود السوري بـ”الاحتلال”، وارتفاع الأصوات المنادية بحمل السلاح لحماية المسيحيين من اللاجئين، فقد دعا السياسي المسيحي المقرب من نظام الأسد جوزيف أبو فاضل في سبتمبر/أيلول 2023 “المسيحيين للتسلح وتطويق مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان”، كما حذّرت النائبة غادة أيوب، من تحويل النزوح السوري إلى “توطين”.
فيما رأى حزب القوات اللبنانية في بيان له، أن الإمكانية متوافرة لعودة السوريين الموجودين في لبنان بعد توقف المعارك الحربية على مجمل الأراضي السورية وبعد الفرز الواضح بين مناطق خاضعة للنظام السوري أو لحلفائه ومناطق خاضعة للمعارضين، مشيرًا إلى أنه “لا يمكن للشعب اللبناني انتظار الحل السياسي في سوريا للبدء بإعادة السوريين إلى بلادهم، فالبنى التحتية معدومة والوضع السياسي والاقتصادي والمعيشي والديمغرافي يرقى إلى أزمة لبنانية وجودية كيانية حقيقية”.
بالمقابل فإن لبنان ما زال يشهد توافدًا للسوريين الهاربين من الأوضاع الاقتصادية المزرية والتدهور الأمني والتجنيد الإجباري، عبر الحدود وبمساعدة الأجهزة الأمنية نفسها التي باتت ترى في عمليات التهريب مصدرًا مهمًا للتمويل، فيما يضع الوافدون الوصول إلى أوروبا عبر البحر نصب أعينهم أو الانطلاق من المطار نحو دول أخرى.
وحسب تقرير لمركز جسور للدراسات، فإن عودة اللاجئين إلى سوريا، وإن كانت تبدو معقدة للغاية، إلا أن بعض الخطوات الأساسية من طرف حلفاء النظام يمكن أن تُساهم في عودة اللاجئين بشكل ملحوظ، خاصة أن عشرات الآلاف منهم لم يشارك في أي عمل معارض تقريبًا، ومن أهم هذه الخطوات:
- تقديم ضمانات بعدم الملاحقة الأمنية، من حلفاء النظام إلى جانب جهة دولية موثوقة، بحيث يمكن لهذه اللجنة متابعة الحالات الفردية، والتدخل للإفراج عن أي شخص يتم اعتقاله من العائدين.
- تمكين الجهات الدولية، وخاصة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، من زيارة العائدين داخل سوريا، بغية التأكد من أوضاعهم المعيشية هناك بعد العودة، وتمكين هذه الجهات من التواصل مع العائدين بحرية، سواء عبر الزيارات المباشرة أم وسائل الاتصال.
- قيام الميليشيات التابعة لإيران بإخلاء المنازل والمناطق التي ينتمي إليها كثير من اللاجئين السوريين في لبنان، وخاصة في القلمون والقصير وغيرها، لأن تحويل هذه المناطق إلى مستعمرات عسكرية طائفية مفرّغة من أهلها سيمنع اللاجئين بالضرورة من العودة، وسيدفع العائدين لسكن الخيام مرة أخرى، لكن تحت سطوة أجهزة النظام.
ختامًا، يبدو أن الأمم المتحدة تسعى لاختبار مدى التزام بيروت بهذه البيانات من جهة، ومراقبة آلية تعامل نظام الأسد وأجهزته مع اللاجئين السوريين، ومدى جديته فيما لو بدأت بيروت بممارسة ضغوطات واسعة لإعادة عدد من السوريين، لا سيما أن الأمم المتحدة باتت بحاجة لتوجيه اهتماماتها ومصاريفها نحو دول أخرى تعاني حروبًا دمويةً، في ظل الركود السياسي الذي يلازم المسألة السورية منذ سنوات، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية والعدوان الإسرائيلي على غزة.