شهد مجلس الحرب الإسرائيلي (الكابينت) خلافات عاصفة خلال الساعات الماضية، انقسامات حادة بين أعضائه، تباين شديد في وجهات النظر فيما يتعلق بسير الحرب ومستقبلها، وسط تخبط واضح للجيش الذي يعاني من ارتباكات شديدة ميدانيًا أسفرت عن سقوط العشرات من ضباطه وجنوده.
وكان أداء المقاومة المفاجئ بعد 85 يومًا من القتال كلمة السر في هذا التخبط والإرباك الذي مُني به جيش الاحتلال الذي فقد منذ بدء العملية البرية في غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي نحو 174 قتيلًا بين ضابط وجندي، وأكثر من 936 مصابًا، فيما ارتفع العدد الإجمالي المعلن لقتلاه منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 502 عسكريًا، وسط تشكيك كبير بصحة هذه الأرقام من قبل أوساط إسرائيلية عدة تحدث عن أعداد أكبر بكثير تصل للمستشفيات.
وتتصاعد مخاوف رئيس الحكومة العبرية، بنيامين نتنياهو، من انهيار حكومته جراء هذا التوتر المتزايد يومًا تلو الآخر، في ظل موجة ضغوط عاتية يتعرض لها في الداخل والخارج جراء فشل سياساته العسكرية في تحقيق أي من الأهداف المعلنة للحرب التي شارفت على نهاية شهرها الثالث.
خلافات داخل مجلس الحرب
يمكن استعراض أبرز ملامح الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي من خلال عدة مؤشرات تكشف حجم الانقسام البيّن في المواقف:
– الخلاف بين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت من جانب، ووزير الدفاع السابق، بيني غانتس، ورئيس الأركان السابق، وغادي أيزنكوت، بشأن إبرام صفقة لتبادل الأسرى، حيث يرى الفريق الأول ضرورة استمرار الحرب وعدم الرضوخ لأي صفقات، فيما يتمسك الفريق الثاني بضرورة إبرامها مهما كان الثمن.
– التباين النسبي بين نتنياهو وغالانت حول سير الحرب ومجرياتها، وهو التباين الذي ظهر للعلن بعد أسبوع واحد فقط من الحرب، وتعاظم بشكل كبير يومًا بعد الآخر، وصولًا إلى خروج كل منهما بمفرده في أحد المؤتمرات الصحفية، حيث يرفض وزير الدفاع اتهامات رئيس الحكومة بشأن تقصيره في الحيلولة دون وقوع عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
– يميل نتنياهو وفريقه إلى موقف اليمين المتطرف برئاسة وزيري المالية سموتيرتش، والأمن القومي بن غفير، فيما يتعلق بالتشديد على مواصلة الحرب وإخضاع قطاع غزة لسلطة الاحتلال، في مقابل الموقف الأمريكي الذي يرى ضرورة أن يكون للسلطة الفلسطينية دور في مستقبل القطاع بعد الحرب، وهو الأمر الذي يرفضه اليمين المتطرف.
خلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي حول شكل العمليات العسكرية القادم.. التفاصيل مع مراسل TRT عربي من القدس pic.twitter.com/JBonDIiZXy
— TRT عربي (@TRTArabi) December 26, 2023
– يحاول نتنياهو الحفاظ على ائتلاف حكومته واستمرار دعم اليمين المتطرف من خلال الرضوخ لسرديته حتى لو كانت على حساب الكثير من التيارات السياسية اليمينية في الداخل ومواقف الحلفاء في الخارج، إيمانًا منه بأن اليمين المتطرف إذا تخلى عن الحكومة فإن ذلك يعني اللجوء إلى انتخابات مبكرة لاختيار رئيس جديد للحكومة، وعلى الأرجح ستحيل نتنياهو إلى التقاعد.
– ويتعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ فترة طويلة إلى ضغوط من الرئيس الأمريكي جو بايدن، والجنرالات الإسرائيليين داخل الحكومة، وحلفاء دولة الاحتلال الغربيين والعرب لصياغة رؤية ما بعد الحرب لغزة، ورغم المماطلة فإنه حدد في الأخير الخميس 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 لمناقشة سيناريوهات “اليوم التالي” في غزة خلال اجتماع مجلس الحرب، لكن قبل 10 دقائق فقط من الاجتماع شطب الموضوع من جدول الأعمال، حسبما كشف موقع “المونيتور”.
– كانت القناة الـ12 الإسرائيلية قد كشفت في تقرير لها منع نتنياهو رئيس الموساد ديفيد برنيع ورئيس الشاباك رونين بار من المشاركة في اجتماع أمني وصف بـ”الحساس”، يضم رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، ترسيخًا لحالة التباين والتوتر داخل المجلس.
– نتيجة لذلك أجل نتنياهو مناقشة مسألة غزة ما بعد الحرب، حتى لا يثير حفيظة الفريق الآخر بقيادة غانتس وأيزنكوت، حفاظًا على تماسك مجلس الحرب وعدم تعميق الصدام بين أعضائه بما يهدد باستقالة الجنرالين.
تغير في الخطط العسكرية
بالتزامن مع تصاعد الانقسامات داخل مجلس الحرب، اضطر جيش الاحتلال إلى إجراء حزم من التغييرات التكتيكية في الميدان، حيث أعاد تموضعه في أكثر من مكان، وانسحب من مناطق محددة، وأعاد تشكيل قواته القتالية أكثر من مرة خلال الأيام الماضية.
ووفق ما ذكرته إذاعة الجيش الإسرائيلي فقد أعلن الاحتلال انضمام لواء سابع للقتال في معارك خان يونس جنوبي غزة، وذلك بعد أيام قليلة من سحب لواء غولاني الأقدم والأكثر شهرة ومشاركة في العمليات القتالية طيلة السنوات الماضية.
الحسابات الخاطئة في التوغل تواجه مقاومة شرسة، ماذا حقق الجيش الإسرائيلي من أهداف في البعد العسكري؟.. اللواء فايز الدويري: يد القسام لا تزال العليا في أرض المعركة#حرب_غزة
pic.twitter.com/0HdGFc0WJ5— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) December 28, 2023
كما دفع الاحتلال بالعديد من اللواءات المظلية وتكثيف عمليات القصف الجوي والمدفعي على حساب التوغل البري، من أجل تعزيز قواته المتمركزة في شمال القطاع ووسطه وجنوبه، وذلك بعد الفشل في تحقيق أي اختراق بشأن الأهداف الثلاث المعلنة (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان عدم تشكيل غزة أي تهديد للأمن الإسرائيلي).
يضاف لذلك ما أعلنه الكيان المحتل بشأن الحديث عن الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب التي تشير إلى تقليص العمليات البرية وإعادة تموضع وحدات الجيش والانسحاب من بعض المناطق التي توغل فيها جنود الاحتلال، رغم عدم نجاحه – بعد 85 يومًا – في تحقيق أي إنجاز عسكري خلال المرحلتين السابقتين، وهو الإعلان الذي فُسر على أنه محاولة للهروب من هذا المستنقع قبل تكبد المزيد من الخسائر على أيدي المقاومة.
أداء المقاومة كلمة السر
يرى الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري أن أداء المقاومة العملياتي هو السبب الأبرز وراء التغير الملحوظ في الخطط العسكرية لجيش الاحتلال، لافتًا في تحليل له على قناة “الجزيرة” إلى أن فشل جيش الاحتلال التقدم ميدانيًا كان وراء استدعاءه لبعض اللواءات العسكرية النظامية الإضافية كما هو الحال في مخيم البريج وسط غزة.
ويرى الدويري أن فشل جيش الاحتلال على مدار 3 أيام في التقدم داخل المخيم دفعه للاستعانة بلواءين مظليين لمساعدته في المهمة التي فشل فيها حتى الآن، كما هو الحال في معركة خان يونس والمنطقة الشرقية في مجملها والتي بدأت قبل أسابيع من معركة البريج، حيث لم يحقق الاحتلال أي إنجاز يفضي إلى تطوير عملياته الميدانية.
وأوضح الخبير الإستراتيجي أن جيش الاحتلال دفع بفرقة 36 تجاه البريج والنصيرات، من أجل إرباك قوى المقاومة ودفعها على تحريك عناصرها من خان يونس تجاه تلك المناطق، من أجل تمهيد الطريق له للدخول إلى تلك المخيمات، لكن أداء المقاومة المتوازن وتوزيع قواتها على أكثر من اتجاه وتكبيدها للخسائر الفادحة في صفوف الإسرائيليين، أفشل خطط الجيش المحتل في تحقيق أهدافه.
بجانب ما قاله الدويري فإن إدارة حماس وبقية فصائل المقاومة للمعركة منذ يومها الأول وحتى الاقتراب من نهاية شهرها الثالث أحدثت حالة من الارتباك والمفاجأة للكيان المحتل، سياسيًا وعسكريًا، هذا بخلاف الحرب النفسية والإعلامية التي أجادت المقاومة شنها على دولة الاحتلال بورقتي الأسرى وتوثيق العمليات بالصوت والصورة، وهي الحرب التي زادت من ضغوط الداخل الإسرائيلي وفضحت مزاعم الكابينت بشأن الانتصارات الزائفة التي يتشدق بها جنرالاته صباحًا ومساءً.
ويرى المنصفون من النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية أن هزيمة حماس والقضاء عليها هدف بعيد المنال، ولا يمكن لجيش الاحتلال تحقيقه في الوقت الراهن على الأقل، وهو ما ذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، الذي وصف في مقال بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية احتمالات القضاء على المقاومة الفلسطينية بالـ”معدومة”.
تغطية صحفية | عضو الكنيست السابق ميكي روزنطال: «الجمهور الإسرائيلي فقد صبره، وستندلع في الأسابيع القادمة مظاهرات تطالب بإقالة نتنياهو» pic.twitter.com/9RKuxzz1H2
— شبكة رصد (@RassdNewsN) December 30, 2023
واعتبر رئيس الحكومة العبرية السابق أن التدمير الكامل لحماس “مجرد أمنيات غير قابلة للتطبيق العسكري”، مشككًا في القدرات الاستخباراتية للكيان المحتل، التي كان من نتائجها عملية طوفان الأقصى التي فضحت هشاشة تلك الاستخبارات وعجزها عن الكشف عن منظومة الأنفاق الهائلة للمقاومة.
وتوقع أولمرت أيامًا صعبة قادمة، وتزايد عدد الجنود الإسرائيليين المتوقع سقوطهم بأيدي المقاومة، متسائلًا: “ماذا علينا أن نفعل؟ منوًها أنه قد حان الوقت لأن تعلن “إسرائيل” استعدادها لإنهاء القتال، وتابع “نعم، أنهوا القتال، ليس هدنة ولا ليومين أو ثلاثة أو أربعة أيام، وإنما نهاية القتال”.
وتكشف التطورات الميدانية بعد 85 يومًا من الحرب، أن المقاومة – رغم قدراتها المحدودة – نجحت في إجهاض أحلام جيش الاحتلال، وفضحت هشاشته الدعائية، وحطمت جدران أسطورته المزعومة، كما صدقت وعدها حين حولت غزة إلى فخ كبير للكيان المحتل، عسكريًا وسياسيًا، يدفع فيه ساعة تلو الأخرى أثمانًا لم يكن يتوقعها، وهو ما يفسر حالة السعار والانتقام بحق النساء والأطفال العزل، فهو أقصى ما يمكن للمحتل أن يحققه من إنجازات.