منذ يومين تناقلت وكالات الأخبار خبر وفاة عالمة الرياضيات مريم ميرزاخاني، واستقبل العالم هذا الخبر بحزن كبير، آسفًا على نهاية مشوار حياتها مبكرًا عن عمر يناهز 40 عامًا، بسبب انتشار سرطان الثدي إلى نخاع العظام مستسلمة ميرزاخاني لخباثة هذا المرض في مستشفى بكاليفورنيا. ويذكر أنها كانت عالمة شابة وزوجة الأستاذ التشيكي في جامعة ستانفورد، جان فوندراك، ولديها منه ابنة واحدة اسمها آناهيتا.
تقول مريم: “البحث في مجال الرياضيات مثل كتابة رواية ما، تجد هناك شخصيات مختلفة وعليك أن تتعرف كل واحدة منهم عن قرب، الأشياء تتطور وإذا نظرت مرة أخرى على شخصية ما ستجدها مختلفة كليًا عما كنت تعتقده” هكذا عبرت مريم عن شغفها بعالم الأرقام والمعادلات الحسابية بعد أن كانت تحلم أن تكون كاتبة في سنوات الطفولة.
ومن ثم وصفت عملها في حقل الرياضيات أنه أشبه بأن تضل طريقك في غابة، ثم تحاول استخدام كل ما يمكنك جمعه من معرفة لإيجاد حيل جديدة، وإذا ما حالفك الحظ فقد تجد سبيلًا للخروج.
يشكلن النساء نحو 40% من الطلاب الجامعيين الذين يدرسون الرياضيات في المملكة المتحدة، غير أن هذه النسبة تنخفض عند مستوى الدكتوراه
وفي لقاء مع إحدى القنوات التليفزيونية قالت ميرزاخاني “رغم أن البعض يرى أن هذا المجال مقتصر على الرجال، فالنساء ساهمن في الرياضيات على مدى قرون ومنذ القدم”، وأشارت إلى أن النساء يشكلن نحو 40% من الطلاب الجامعيين الذين يدرسون الرياضيات في المملكة المتحدة، غير أن هذه النسبة تنخفض عند مستوى الدكتوراه وما بعدها.
بداية الحلم
مريم ميرزاخاني من مواليد مايو 1977 في طهران وهي أستاذة في الرياضيات منذ أول سبتمبر 2008 في جامعة ستانفورد، وتشمل اهتماماتها البحثية الهندسة الزائدية ونظرية إرجوديك والهندسة القطعية والمعاملية والربطية، إذ قالت الجامعة إن عمل مريم شمل دراسة علم التشفير والفيزياء النظرية التي تبحث كيفية بداية الكون.
كانت مريم الإيرانية الأولى التي حازت على ميداليتين ذهبيتين لعامين متتاليين من الأولمبياد العالمي.
حصلت ميرزاخاني على الاعتراف الدولي وهي في المرحلة الثانوية بعد تلقي الميداليات الذهبية في كل من أولمبياد الرياضيات الدولي في هونج كونج عام 1994 وهي بعمر 17 سنة، وسجلت 41 نقطة من 42، لتحتل المرتبة الـ23 مع خمسة من المشاركين الآخرين، وفي الأولمبياد الدولي للرياضيات في كندا عام 1995 حصلت على الدرجة الكاملة 42 نقطة من أصل 42، لتحتل مريم المرتبة الأولى مع 14 شخصًا من المشاركين الآخرين، وكانت مريم الإيرانية الأولى التي حازت على ميداليتين ذهبيتين لعامين متتاليين من الأولمبياد العالمي.
وكانت ميرزاخاني قد تعرضت في عام 1998 لحادث مروري، حيث شاركت مع عدد من الطلبة بمسابقات طلابية للرياضيات في مدينة أهواز، ولدى عودتها إلى طهران سقطت الحافلة التي كانت تقلها مع الطلبة، ولقي على إثرها 6 من طلبة النخبة في الرياضيات حتفهم، إلا أن مريم ميرزاخاني كانت من بين الناجين.
درست مريم الثانوية في مدرسة فازنجين والتحقت بالمنظمة الوطنية لتنمية المواهب الاستثنائية في العاصمة طهران، وحصلت على بكالوريس في الرياضيات من جامعة شريف التكنولوجية عام 1999.
ثم رحلت عن طهران لتدرس في جامعة هارفرد وتحصل على الدكتوراه عام 2004، تحت إشراف أستاذ الرياضيات في جامعة هارفرد، كورتيس مكمولن، والحاصل على ميدالية فيلدز مسبقًا، والذي قال عن تلميذته “لديها طموح لا يقهر عندما يتعلق الأمر بالرياضيات”.
بحسب جامعة ستانفورد التي درست فيها ميرزاخاني، فإنها المرأة الوحيدة التي حصلت على ميدالية فيلدز نظرًا لعملها في فرعي الهندسة المعقدة والنظم الديناميكية، وهذه الجائزة بقيت حكرًا على الرجال لمدة 78 عامًا، وكانت تقدم كل أربع سنوات لتكريم المبدعين في مجال الرياضيات تحت سن الأربعين، وذلك تشجيعًا للشباب الباحثين للمساهمة في حقل الرياضيات وتقديم إنجازات فريدة من نوعها، كما أن هذه الجائزة منحت لـ14 شخصًا فقط منذ بدئها عام 1936، وتعد أرفع جائزة تكريمية يمكن أن يحصل عليها عالم الرياضيات، فهي تعادل جائزة نوبل في أهميتها وتميزها.
حتى اليوم تعطي مريم انطباع فتاة في السابعة عشر من عمرها متحمسة تمامًا تجاه الرياضيات حولها
بجانب هذه النجاحات، تم تقديرها من قبل مجلة “بابيولار ساينس” الأمريكية في الدورة الرابعة لأفضل 10 موهوبين لامعين، وكتبت “يو إس أي توداي” أن هذه القائمة تشمل 10 أشخاص من الباحثين والنخب الشابة المساهمة في المجالات الإبداعية.
وتقول مريم عن إنجازاتها في هذا المجال: “عليك أن تبذل الوقت والجهد لترى روعة وجمال الرياضيات”، ويصفها أستاذ في جامعة باريس ديدرو، أنطون زوريخ “حتى اليوم تعطي مريم انطباع فتاة في السابعة عشر من عمرها متحمسة تمامًا تجاه الرياضيات حولها”.
رحيل مريم يوجع شخصيات علمية وعالمية
عند علم الحكومة الإيرانية بأخبار تدهور صحة العالمة، أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، فخر إيران وشعبها بالكامل بالعالمة الإيرانية ميزراخاني وأمنياتهم لها بالشفاء العاجل، وعبر عن نيتهم تقديم المساعدات اللازمة لتحسين صحتها، مضيفًا “ساحة العلم والإنسانية تحتاج إلى هذه النابغة الإيرانية المبدعة، وساحات العلم تنتظر عودتها بفارغ الصبر”.
وفي 13 من هذا الشهر، نشر المدير بوكالة الفضاء الأميركية الإيراني، فيروز نادري، منشور على صفحة فيسبوك وصورة للعالمة قائلًا: “إنها شخص منعزل جدًا، لكن ارسلوا لها طاقة وأفكارًا إيجابية”، وهذه إشارة إلى حاجتها إلى دعم معنوي بسبب تفاقم وضعها الصحي.
لكن ولسوء الحظ، تصدر خبر وفاة العالمة الشابة ميرزاخاني عناوين الصحف الإيرانية والعالمية صباح يوم السبت، وامتلأت شبكات التواصل الاجتماعي بمنشورات التعازي والندم على فقدان “العقل الجميل” على حد وصف فيروز نادري.
سببت أنباء وفاة العبقرية الإيرانية الشابة وأستاذة الرياضيات مريم ميرزاخاني ضربة موجعة لكل الإيرانيين
كما عبر رئيس المجلس البلدي في طهران، مهدي جمران، عن حزنه بسماع هذا الخبر المؤسف، وفي نفس الوقت أشاد بإسهامات ميرزاخاني التي ستذكرها إيران بفخر وشموخ على حد وصفه، مضيفًا أنها نموذج مثالي للإبداع والنبوغ.
وبدوره نشر الرئيس حسن روحاني في صحيفة طهران تايمز الإيرانية “الرحيل المؤسف لمريم ميرزاخاني، الإيرانية البارزة وعالمة الرياضيات المشهورة عالميًا، شيء يُدمي القلب”، كما ودعها وزير الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف قائلًا: “كانت أنباء وفاة العبقرية الإيرانية الشابة وأستاذة الرياضيات مريم ميرزاخاني ضربة موجعة لي ولكل الإيرانيين ممن يفخرون بعلمائهم البارزين والمتميزين”.
وأضاف “تألق هذه العالمة المبدعة والمتواضعة التي رفعت اسم إيران عاليًا في الأوساط العلمية العالمية، شكل منعطفًا للعقول العبقرية في الصفوف الإيرانية في جميع المجالات الموجودة”.
ونشر رئيس البرلمان الإيراني، علي لارجاني، على حسابه في إنستجرام صورة قديمة لمريم، ناعيًا إياها بقوله إن فقدانها سبب ندمًا عظيمًا في نفسه.
استثناء مريم ميزراخاني من القواعد الصارمة
من المتعارف عليه أن الصحف الإيرانية المحلية لا تنشر صور النساء الكاشفات شعر رؤوسهن انصياعًا للقواعد الصارمة التي تحكم البلاد، إذ يقول ديغان “عندما أصبحت ميرزاخاني في عام 2014 أول امرأة على الإطلاق تحصل على ميدالية فيلدز، رسمت الصحف الإيرانية غطاء حول رأسها بينما نشرت صحف أخرى مجرد رسم هيكلي لوجهها”، لكن هذه المرة نشرت الصحف الإيرانية صور ميزراخاني وهي لا ترتدي غطاء الرأس المفروض على النساء الإيرانيات.
تأثير ميزراخاني سيتسمر في التأثير في آلاف النساء الذين ألهمتهم لدراسة الرياضيات والعلوم
ويقول ديغان إن ميرزاخاني متزوجة من رجل أجنبي وإيران لا تعترف بزواج امرأة إيرانية بغير مسلم، مما يجعل أمر الزيارة صعبًا ومعقدًا، الأمر الذي جعل بعض أعضاء البرلمان يطالبون بالإسراع في تعديل القانون حتى تتمكن أسرة ميزراخاني من زيارة إيران.
وفي إشارة إلى استمرار وجود ميرزاخاني العلمي قال رئيس جامعة ستانفورد، مارك تيسيير لافين: “تأثير ميرزاخاني سيتسمر في التأثير في آلاف النساء الذين ألهمتهم لدراسة الرياضيات والعلوم”.