تعيش آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل، صراعًا حقيقيًا على البقاء، تكاد تنحصر بهجة الناس في الحصول على غالون واحد من المياه الصالحة للشرب، التي يقطعون مسافة طويلة لتعبئتها، أو في وصول التيار الكهربائي لساعة واحدة في اليوم، أو في تمكّنهم من تعبئة بضع غالونات من المياه المخصصة للنظافة والطهي.
أصبحت طوابير الانتظار جزءًا من حياة سكّان القطاع الذين يصطفون في طوابير طويلة منذ الفجر كي يحصلوا على بعض المياه ويعودوا لأطفالهم وعوائلهم العطشى ببضعة لترات، لا تكفي إلا ليومٍ واحد، فيما يظل تدبير اليوم التالي مجهولًا متروكًا للحظ إن تمكنوا من النجاة من الصواريخ ليلًا.
كان يقضي المعلم الأربعيني، كرم المصري، وقته في تدريس طلابه، أما اليوم يقف في طابور بين عشرات آخرين، يمتد لساعات، ينتظرون دورهم لملء زجاجات مياه كبيرة وصغيرة، أملًا في الحصول على مياه. ولا يملك هؤلاء رفاهية الاختيار، أكانت المياه صالحة للشرب أم مالحة.
يقول المصري لـ”نون بوست”، منذ نزوحه مع زوجته وأطفاله الثلاثة ووالديه من شمال غزة نحو مراكز الإيواء للنازحين في دير البلح وسط القطاع، والمعاناة تزداد أمامهم، وأشكال الموت تتعدد. “وأقسى ما نواجه يتمثل بنقص الغذاء والماء كذلك الدواء، أبسط مقومات الحياة، اضطر لقطع مسافة تزيد على مئات الأمتار، والوقوف على قدمي لساعات أخرى، لكي أحصل على قلن ماء يسد عطشنا، نقطره ونقسمه على مدار اليوم بيننا بنظام الحصة، أو الحصول على الغذاء والخبز”.
تتفاقم المشكلة لدى الأب لثلاثة أطفال، بسبب عدم صلاحية المياه لشرب أطفاله منها أو إعداد الحليب لطفله الرضيع، أدى ذلك لاحقًا لإصابة أطفاله على التوالي بنزلة معوية شديدة. يضيف: “إسرائيل تريد إبادتنا بالبطيء بقطع الماء والدواء والغذاء، لكي تنال منا، لكننا سنصمد ونحتمل الجوع والعطش والبرد، وسأفتش كل يوم من شروق الشمس عن كل سبل الحياة لأطفالي”.
إلى مدينة رفح حيث أكذوبة “المناطق الآمنة والمساعدات”، فالحال هناك لا يختلف عن مناطق أخرى، يقول شكري زاهر، إن مياه الآبار التي توفرها بلدية المحافظة تأتي كل أسبوعين، تكاد تملأ لترًا واحد من مياه لا تصلح للشرب، فقط للاستخدام الآدمي، لذلك نضطر لسحبها بالبكرة وهي أداة يدوية لرفع مواد البناء، لعدم توفر الوقود لتشغيل المولدات وسحبها حتى تصل لخزانات المياه الموجودة على أسطح المنازل.
أما باقي الأيام، يقول زاهر لـ”نون بوست”: “نضطر لشراء مياه ملوثة حيث يبلغ سعر الألف لتر نحو 50 دولارًا، وهي مياه مالحة غير صالحة للشرب فقط للاستخدام الآدمي، أما المياه (الحلوة) أي الصالحة للشرب، فهي باهظة الثمن، يتجاوز سعرها 100 دولار لكل ألف لتر، خاصة أن أغلب النازحين لا يملكون الأموال.
يستخدم الكثيرون مياه البحر، بديلًا للوضوء والاستحمام وغسل الملابس، وهي بالفعل ملوثة للغاية، منهم سوسن الكرد، وهي أم فلسطينية نزحت مع عائلتها المكونة من 13 فردًا، وجدت من مياه البحر أفضل الحلول وأرخصها، تحمل الغالونات وتذهب بها إلى الشاطئ ثم تحملها لمسافة تبعد كيلو مترًا وأكثر وصولًا إلى مكان نزوحها في مخيم النصيرات وسط القطاع.
وتضطر الكرد إلى تبخير المياه المالحة حتى تصلح للشرب وأحيانًا إضافة القليل من السكر ليتحمل صغارها ملوحتها. وتشير الأم الفلسطينية، إلى أن نقص العناية بالنظافة الشخصية في ظل ندرة المياه، ترك البعض يعاني من أمراض جلدية بينها مرض الجُدري.
المياه: من أداة سياسية إلى سلاح حرب
يواجه أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع الأكثر اكتظاظًا حول العالم، أزمة جفاف حقيقية ومخاطر العطش لعدم توفر مياه الشرب، حين قررت “إسرائيل” تحويل المياه من أداة سياسية لسلاح عسكري، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية في الـ9 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الحصار الشامل على غزة عبر قطع إمدادات المياه والطاقة والغذاء، في عدوانها المتواصل على غزة منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بكبسة زر، فقدت غزة أحد مصادر مياهها الأساسية التي تشتريها من شركة “مكروت” الإسرائيلية، وتستخدم بشكل مباشر لإنتاج مياه صالحة للشرب بعد خلطها بالمياه المالحة، وكذلك خطوط الكهرباء التي تساهم إلى جانب محطة توليد الكهرباء في إنتاج 41% كحد أقصى من الاحتياج اليومي المتراوح ما بين 450-600 ميغاوات.
وتعمدت الغارات الحربية والمدفعية تعميق أزمة المياه عبر قصف الخزانات الرئيسية في شمال وجنوب القطاع، واستهداف محطات التحلية وسيارات التوزيع التابعة لها، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيلها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقبل أن تستأنف بلدية جباليا إعادة تأهيل مضخة الهوابر التي تستخدم لاستخراج المياه الجوفية في منطقة بئر النعجة شمال غزة بعد تضررها في عدوان 2021، خرجت هذه المضخة عن الخدمة بشكل كامل خلال الحرب الحاليّة.
وخرجت معها كذلك محطة تحلية للمياه فيها خزان بسعة 250 ألف لتر جرّاء القصف واشتعال النيران الناجم عنه، وبئر وخزان مياه تل الزعتر الذي انفجرت مياهه لتغرق الشوارع في مدينة يجازف الناس بحياتهم من أجل الحصول على كوب مياه للشرب.
وتسبب العجز في موارد الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي في توقف عمل مضخات الآبار الجوفية، وتوقفت عن العمل بشكل كامل جميع محطات تحلية المياه، بما فيها المحطات الثلاثة الرئيسة، وهي محطة شمال غزة وخان يونس ودير البلح.
وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن نصف سكان غزة لم يتمكنوا من الوصول إلى مياه الصنبور منذ الأسبوع الأول من الحرب، الذي شهد استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية لـ6 آبار مياه و3 مضخات وخزان مياه واحد ومحطة لتحلية المياه.
ويقول المتحدث باسم بلدية غزة حسني مهنا، إن الاحتلال الإسرائيلي دمر خزانات ضخمة للمياه تغذي عشرات الأحياء مثل خزانيْ تيكا وتل الزهور في جباليا وخزان حي التنور بمدينة رفح جنوب غزة. تقام هذه الخزانات على مقربة من محطات التحلية والآبار، والتي لم تسلم من القصف أيضًا. واليوم لا تعمل في غزة أي محطة تحلية.
وأشار مهنا، إلى أن عجز المياه في غزة اليوم يتجاوز 95%، مع حرمان مناطق كاملة في الشمال من الوصول للمياه، ووصول حصة الفرد في أحسن أحوالها إلى 3 لترات من المياه في اليوم. وبلغ معدل استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في غزة قبل الحرب 82.7 لتر من المياه (21.3 لتر منها مياه عذبة)، فيما يستهلك المستوطن الإسرائيلي 7 أضعافها.
بدورها، دعت منظمات أممية “إسرائيل” إلى التوقف عن استخدام المياه كـ”سلاح حرب” في غزة. وقال المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بمجال حقوق الإنسان في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي، بيدرو أروخو أغودو: “كل ساعة تمضي في ظل منع إسرائيل توفير مياه الشرب الآمنة في قطاع غزة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، تضع سكان غزة في خطر الموت من العطش والأمراض المرتبطة بانعدام مياه الشرب الآمنة”.
وأشار أغودو إلى أنه يريد أن يذكّر “إسرائيل” بأن “منع الإمدادات اللازمة للمياه الصالحة للشرب من الدخول إلى قطاع غزة ينتهك القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان”، محذرًا من أن الجفاف والأمراض المنقولة بالمياه يتزايدوا الآن في غزة بسبب استهلاك المياه المالحة والملوثة من مصادر غير آمنة.
القطاع في خطر صحي قاتل
وفقًا لوكالة الأونروا، نحو 70% من سكان غزة يشربون الآن مياه ملوثة. كما بدأت مياه الصرف الصحي تتدفق عبر الشوارع في بعض المناطق، حيث تتأثر أنظمة التخلص من النفايات التابعة للأمم المتحدة أيضًا بنقص الوقود.
وأدخل النقص الحاد في المياه الصالحة للشرب، وسوء ظروف الصرف الصحي، قطاع غزة في خطر صحي هائل، فبدأت الأمراض تنهش أجسادهم المنهكة، مثل التهاب الكبد الوبائي والجدري والجرب والإسهال الشديد وانتشار القمل. وحذرت منظمة الصحة العالمية من خطر الانتشار السريع للأمراض المعدية والالتهابات البكتيرية بسبب نقص المياه وما يرتبط بذلك من استهلاك المياه الملوثة.
بلغة الأرقام، تم الإبلاغ عن أكثر من 33500 حالة إسهال، أكثر من نصفها كانت بين الأطفال دون سن الخامسة، وهو ما يمثل زيادة كبيرة بالنظر إلى أن المتوسط لم يكن يتجاوز ألفي حالة إصابة شهرية للأطفال الأصغر من 5 سنوات خلال عامي 2021 و2022. علمًا بأن الإسهال العنيف قد يسبب الوفاة في ظل سوء التغذية وضعف الحالة الجسمانية التي يعاني منها السكان لا سيما فئة الأطفال.
كما أُبلغ عن 8944 حالة إصابة بالجرب والقمل، و1005 حالات إصابة بجدري الماء، و12635 حالة طفح جلدي، و54866 حالة إصابة بعدوى في الجهاز التنفسي العلوي، وفقًا لأرقام الصحة العالمية.
وداخل المرافق الصحية، أدت الأضرار التي لحقت بشبكات المياه والصرف الصحي وتناقص مستلزمات التنظيف إلى استحالة الالتزام بالتدابير الأساسية للوقاية من العدوى ومكافحتها، وهذه التطورات تزيد كثيرًا من خطر العدوى الناجمة عن الإصابات الشديدة والجراحة ورعاية الجروح والولادة.
ويُعد المصابون بضعف المناعة، مثل مرضى السرطان، أكثر عرضة لخطر مضاعفات العدوى. ومع عدم كفاية معدات الحماية الشخصية، فإن العاملين في مجال الرعاية الصحية أنفسهم يمكن أن يُصابوا بالعدوى وينقلوها لمرضاهم في أثناء تقديم الرعاية لهم. وقد تعطلت إدارة النفايات الطبية في المستشفيات تعطلًا شديدًا، ما يزيد من التعرض للمواد الخطرة والعدوى.
ونقل المرصد الأورومتوسطي شهادات لأطباء عن ارتفاع في معدل الوفيات بالسكتات القلبية والإغماء في مناطق مدينة غزة وشمالها، التي تشهد تدهورًا أشد بالأزمة الإنسانية ومعدلات الجوع.
وعلى الرغم، من كل التقارير والمناشدات الحقوقية والدولية التي تبذل من أجل إنقاذ حياة المدنيين وتوفير الاحتياجات الأساسية لهم، ووقف سياسة الاحتلال اللاإنسانية والهادفة إلى استمرار حرمان السكان من حقهم في الوصول المأمون للمياه، وتشغيل المرافق الضرورية للمياه والصحة والصرف الصحي.
فإنه لليوم الـ85 على التوالي من حرب الإبادة الجماعية المستمرة على غزة، لم يتغير في الواقع المأساوي والكارثي شيء، وأولئك الذين لا يموتون على الفور من الشظايا إما سيموتون بعد أسابيع عندما لا يكون علاج الجروح ممكنًا، أو بعد أشهر عندما ينتشر الجفاف والكوليرا أو الزحار والأمراض المعدية القاتلة، أو بعد سنوات من تراكم السموم.