لم تمضِ على تصريحات قائد قوة القدس إسماعيل قاآني ساعات قليلة، التي هدد فيها القوات الأمريكية في العراق بأنها ستتلقى الرد المناسب من الفصائل العراقية إذا ما استمرت بسلوكها غير العقلاني في العراق، حتى شنت القوات الأمريكية 9 هجمات متواصلة على عدة مواقع عسكرية تابعة لكتائب “حزب الله العراقي” في منطقة ألبو كمال، على الحدود العراقية السورية، موقعة عدة إصابات في صفوف الكتائب، وكان من ضمن هذه الإصابات عناصر لبنانية أيضًا.
هجوم القوات الأمريكية جاء بعد لحظات قليلة من هجوم مزدوج شنته كتائب “حزب الله العراقي” على قاعدة أمريكية بمطار حرير في أربيل، وقاعدة الشدادي في شرق سوريا، دون الإعلان عن وقوع إصابات في صفوف القوات الأمريكية، إذ شهدت الآونة الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا بالهجمات والهجمات المضادة بين الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران والقوات الأمريكية في العراق، على إثر تصاعد الحرب في غزة، واغتيال المستشار بالحرس الثوري في سوريا اللواء رضي الموسوي، وكذلك مع قرب حلول الذكرى الثالثة لاغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني.
الكتائب تتراجع خطوة للوراء
في خطوة بدت مفاجئة، أعلنت كتائب “حزب الله العراقي” خفض التصعيد ضد المواقع والمعسكرات التي توجد فيها القوات الأمريكية بالعراق، وإيقاف التصعيد ضدها تزامنًا مع هدنة الحرب في غزة، وقال الأمين العام للكتائب أبو حسين الحميداوي، في بيان: “نعلن خفض وتيرة تصعيد العمليات على قواعد الاحتلال الأمريكي في المنطقة، وإيقافها ضد الكيان الصهيوني، لحين انتهاء مدة الهدنة، أو القتال في فلسطين وحدودها مع لبنان”، وأكد أن “المواجهات مع القوات المحتلة للعراق لن تتوقف إلا بتحريره، وهو قرار لن نحيد عنه مهما غلت التضحيات”، داعيًا العراقيين في الداخل ممن خبرتهم ساحات الجهاد إلى الالتحاق بصفوف المقاومة، وتحرير البلاد من سطوة الاحتلال.
إن خطوة الكتائب الأخيرة تشير إلى تحول كبير في إستراتيجية المواجهة مع الولايات المتحدة، خصوصًا أنها تعرضت للقسم الأكبر من الهجمات الأمريكية في العراق، بدايةً من هجمات جرف الصخر في الأسبوع الماضي، وانتهاءً بهجمات ألبو كمال الليلة الماضية، ولعل مرد هذه الخطوة يرجع بالأساس إلى عدم وجود إجماع فصائلي على استمرار المواجهة مع الولايات المتحدة، إذ شهدت العلاقات بين الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، وتحديدًا مع اندلاع الحرب في غزة، تفاوتًا واضحًا بالمواقف، بين فصيل داعم للانخراط في هذه الحرب، وآخر يدعو للترقب والإدانة، وهذا الخلاف مرده بالأساس للارتباك الذي سيطر على الموقف الإيراني العام من هذه الحرب.
إن تصريحات قاآني تشير بما لا يقبل الشك، بأن إيران لا تنظر إلى حلفائها بالمنطقة على أنهم شركاء، بل هم بالمعنى الأصح “وكلاء”، لأن الشريك لديه منظومة مصالح تحكم العلاقة مع شريكه، وأحيانًا قد لا تتفق هذه المصالح، أما “الوكيل” فينفذ ما يطلب منه دون النظر للتبعات.
فمنذ حرب غزة، حاولت إيران النأي بنفسها عن الهجمات التي تحدث في العراق، وحتى الهجمات التي يشنها الحوثيون في البحر الأحمر، لكن هذا النأي بالنفس لا يحدث عندما يتم الحديث عن النفوذ الإيراني في المنطقة، وتحديدًا على مستوى المحادثات الإيرانية مع القوى الكبرى، كشرط للعودة إلى الاتفاق النووي، وفي هذا السلوك تشكيك واضح بطبيعة العلاقة التي تربط إيران بحلفائها.
فهم “وكلاء” عندما تتطلب المصلحة الإيرانية، ولا علاقة لها بتصرفاتهم عندما تتطلب المصلحة الإيرانية أيضًا، وفي السياق العام فالأمر متعلق بالمصلحة وليس الشراكة، وهنا أصل فهم العلاقة التي تربط إيران بحلفائها في العراق، فإبقاء العلاقة ضمن المنطقة الرمادية انعكس سلبًا على موقف العراق الرسمي من الوجود الأمريكي في العراق.
موقف عراقي مرتبك
من جهة عبرت حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن حاجتها لاستمرار الدعم الأمريكي للعراق، وتحديدًا على مستوى التدريب والاستشارة، أو على مستوى الجهود المشتركة لمواجهة تهديدات تنظيم “داعش”، ومن جهة أخرى عبرت عن عدم حاجتها لوجود القوات الأمريكية في العراق، خصوصًا أن وجود هذه القوات يندرج ضمن إطار التحالف الدولي ضد “داعش” أو ما يعرف بـ”العزم الصلب”.
هذا الارتباك ورغم أنه تمت معالجته في الاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين العراق والولايات المتحدة في عام 2008، فإن تأثير الفاعل الإيراني، وعبر الفصائل المسلحة الموالية، جعل موقف الحكومة العراقية صعبًا للغاية، في إمكانية فض الاشتباك بين الفصائل والقوات الأمريكية في العراق.
وعلى خلفية الهجمات الأخيرة، قال الناطق باسم الحكومة العراقية “باسم العوادي”، بشأن المطالبات بإغلاق سفارة الولايات المتحدة في بغداد، إنه “قرار من شأنه تدمير العراق”، وذكر العوادي أن “هناك التزامات دولية كثيرة على العراق، وأي قرار يستهدف البعثات الدبلوماسية يؤثر بشكل كبير على العلاقات الخارجية العراقية”، وعدّ أن قرارًا مثل غلق السفارة الأمريكية لن يؤثر فقط على اتفاقية الإطار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن، إنما سيؤدي إلى دمار العراق بسبب الأهمية الدولية لوجودها في العراق.
معضلة الولايات المتحدة
تدرك الولايات المتحدة أن قضيتها الرئيسية في العراق تتمثل بالدور الإيراني، فقد بات العراق منذ عام 2003، حلبة رئيسة للتنافس الإستراتيجي بينها وإيران، وبذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق، واستشعرت خطورة التوسع الإيراني في العراق في مرحلة ما بعد “داعش”، وأدركت أهمية ألا يُسمح للفصائل المسلحة التي تديرها إيران بالهيمنة على المنظومة الأمنية والبنية السياسية في العراق، وجعْل العراق جزءًا من إستراتيجية إيران للهيمنة الإقليمية، ومن ذلك أن يكون جسرًا بريًا واصلًا بين إيران وسوريا فلبنان.
إضافة إلى أن إيران تستغل العراق ليكون رئة تتنفس منها اقتصاديًا، ولتخفيف أثر العقوبات الأمريكية المفروضة علىها. وإثر التصعيد الإيراني – الأمريكي على أرض العراق منذ نهاية 2020، وضعت إيران هدفًا لسياستها في العراق يرتكز على إخراج القوات الأمريكية من العراق، وبالاعتماد على حلفائها من الفصائل المسلحة، دفعت قوات التحالف الدولي، وضمنها القوات الأمريكية، إلى تقليص وجودها وإعادة التموضع في العراق أكثر من مرة.
وحسب الرؤية الأمريكية فإن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة السوداني، قد يشكل مدخلًا لدور أمريكي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصًا الالتزامات المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين المصالح الأمريكية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها في العراق.
والأكثر من ذلك كله تُدرك الولايات المتحدة أهمية الضغط على العراق لإيجاد بديل لموارد الطاقة التي تحتاج إليها بدلًا من إيران، إذ إن استمرار استيراد العراق للطاقة من إيران، حجّم كثيرًا فاعلية سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وهو ما استغلته إيران وتحاول الإبقاء عليه خلال الفترة المقبلة، عبر استغلال العلاقة الجيدة التي تربط حكومة السوداني بالسفيرة الأمريكية في بغداد “إلينا رومانوفيسكي”.
فلم تتمكن الولايات المتحدة من بناء رؤية واضحة بشأن طبيعة وجودها العسكري في العراق، خصوصًا أن هناك حساسية لدى العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، من هذا الوجود الذي تعتبره “احتلالًا أجنبيًا”، وعلى الرغم من اتجاه الإدارة الأمريكية إلى إدماج أدوارها ضمن التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش”، فإن هذا لم يمنع من استمرار التصعيد في العراق.
ولعل السبب الرئيسي في ذلك يكمن بطبيعة التأثير الإيراني على موقف الفصائل المسلحة، ولا يتعلق الأمر بطبيعة الدور الأمريكي في العراق، وهو ما يفرض على الولايات المتحدة مراجعة إستراتيجيتها حيال إيران، والفصل ما بينها وبين أدوارها في الداخل العراقي.