“هذا هو أخطر وقت يشهده اقتصاد العالم منذ عقود”، كلمات قليلة لخَّص فيها جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورجان” واقع التحديات والأزمات التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، فما لبث العالم يخرج من تداعيات أزمة كورونا حتى وقع في الأزمة الأوكرانية التي أشعلت موجة تضخمية غير مسبوقة دفعت معها معدلات الفائدة في معظم دول العالم لأعلى مستوياتها في نحو عقدين من الزمن.
بعد 20 شهرًا من اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، أصبح العالم في مواجهة أمام حرب جديدة شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة المحاصر منذ 16 عامًا، حرب قادرة على تعطيل الاقتصاد العالمي ودفعه إلى الركود إذا ما تم جر المزيد من الدول إليه، فهل ترسم الأيام الأخيرة لعام 2023 ملامح اقتصادات العالم في 2024؟
ماذا حدث في 2023؟
على مدار 12 شهرًا مضت، استطاعت الاقتصادات الكبرى التغلب إلى حد كبير على مستويات التضخم الهائلة التي سيطرت على الواقع الاقتصادي على مدار عامين، بعد أن غذّتها السيولة الكبيرة والرخيصة التي أوجدتها البنوك المركزية العالمية في إطار السياسات النقدية التحفيزية في أعقاب جائحة كورونا، وفاقمتها أزمات سلاسل الإمداد التي رفعت تكاليف الإنتاج من جهة أخرى.
وفيما استطاع الاقتصاد الأمريكي تحقيق ما سمي “الهبوط السلس” بتقليص التضخم – الذي شهد أعلى معدل منذ الثمانينيات من القرن الماضي – دون الإضرار بمستويات النمو على الأقل حتى الآن، لم يكن الاقتصاد الأوروبي قادرًا على الوصول إلى ذلك المستهدف بشكل عام، واستمرت السلطات الصينية لمحاولاتها دعم اقتصاد أنهكته الجائحة دون تحقيق أي تقدم ملموس.
واتسم عام 2023، بالتقلبات الحادة في أسعار الأصول في الدول النامية، وبقيت الاقتصادات الناشئة ترزح تحت وطأة دولار قوي أنهك عملاتها، وفاقم تكاليف ديونها، فيما تحاول السيطرة على تضخم مستورد بنسبة كبيرة عمَّقته تبعات الحرب الروسية الأوكرانية.
بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، انخفض إنتاج النفط الخام بشكل كبير، رغم احتلالها المرتبة الأولى عالميًا في الإنتاج، مما أدى إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي النفطي إلى 1.5% وسط تراجع عائدات النفط، ومع ذلك، توقّع صندوق النقد الدولي، أن تعوّض الأنشطة غير النفطية هذا التباطؤ جزئيًا في عام 2023 وسنوات لاحقة، لكنها لن تعوض تراجع نمو النفط بشكل كامل على المدى المتوسط.
ووفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023، كان متوسط النمو في منطقة الشرق الأوسط أقل من نظيره في البلدان المصدرة للنفط، ويعوقه إعدادات السياسات المتشددة والعديد من التحديات الخاصة بكل بلد، ففي العراق مثلاً، أدَّت القيود المفروضة على مبيعات العملات الأجنبية إلى إعاقة النمو، وفي مصر، واجه نمو الناتج المحلي أزمة كلفة الدين وتخفيض قيمة العملة وتدني حجم الاستثمارات والتجارة الخارجية بشكل واسع.
بعد الارتفاع المستمر في أسعار الفائدة، عاد التضخم الإجمالي والأساسي إلى متوسطاته التاريخية قبل الجائحة في العديد من الاقتصادات، ولا سيما دول مجلس التعاون الخليجي التي يتوقع أن يتراوح معدل التضخم فيها بين 2.1% و3.3% في عام 2023، وعلى النقيض من ذلك، لا يزال التضخم مرتفعًا في البلدان الأخرى المصدرة للنفط مثل الجزائر والعراق وإيران، مدفوعًا بالتأثير الواسع النطاق لانخفاض قيمة العملة.
في بلدان أخرى، يعكس تباطؤ النمو تدهور أوضاع الاقتصاد الكلي نتيجة لتأثير تقنين العملة الأجنبية والقيود المفروضة على الواردات، وفي الوقت نفسه، تدهورت الظروف الاقتصادية في البلدان منخفضة الدخل في المنطقة، حيث أدَّت الصراعات والصدمات المرتبطة بالمناخ إلى تفاقم أوجه التباطؤ الأساسي.
في الاقتصادات الكبرى، من المرجح أن يتباطأ النمو بشكل أكبر في النصف الأول من عام 2024 بسبب استمرار الظروف المالية الصعبة.
كما سجَّل هذا العام أرقامًا صادمة تعكس تبعات ما وصل إليه الاقتصاد العالمي، وعلى مستوى العالم، يعيش حاليًا حوالي 719 مليون شخص، ما يعادل 2.9% من سكان الكوكب على الأقل، بدخل يومي يعادل 2.15 دولار، يمثل الأطفال والشباب ثلثي فقراء العالم، وتمثل النساء الأغلبية في معظم المناطق، وفقًا للبنك الدولي.
وتوجد حاليًا أعلى نسب الفقر المدقع في أفريقيا جنوب الصحراء، ويعيش أيضًا 24% من سكان العالم، أي ما يعادل 1.9 مليار نسمة، في سياقات هشة تتميز بظروف فقيرة ومزرية، وحتى يوليو/تموز، كان أكثر من 45 مليون شخص في جيبوتي وموريتانيا والصومال والسودان واليمن يواجهون انعدام الأمن الغذائي، أي ما يقرب من 50% من سكان هذه البلدان مجتمعة، وبحلول عام 2030، سيعيش أكثر من فقراء العالم في ظروف هشة.
على وقع الأزمات العالمية المتلاحقة، ألقى أسوأ تصعيد مسلح تخوضه “إسرائيل” منذ 50 عامًا، بظلاله على مكاسب الرفاهية الاقتصادية التي حققتها بعض الدول على مدار العقود الماضية، ودفع العديد من البنوك والمؤسسات المالية للتحذير من مخاطر الحرب على غزة، ففي الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، قفزت أسعار الغاز في أوروبا بنحو 30%، وصعدت أسعار النفط إلى مستويات 90 دولارًا للبرميل، لكن كل المؤشرات تؤكد أن اقتصاد “إسرائيل” سيكون الخاسر الأكبر كلما طال أمد هذه الحرب.
حتى اليوم، تكبَّد الاقتصادي الإسرائيلي خسائر ناجمة عن عدوانها عى غزة، وسجلت قطاعات البناء والصناعة والزراعة والسياحة والتقنية الأضرار الأكبر نتيجة قلة العمال، وانخراط مئات آلاف الإسرائيليين في قوات الاحتياط، وبناءً عليه، يتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 2% في الربع الأخير من هذا العام، وسط غياب للحلول الاقتصادية.
فهل تكون حرب “إسرائيل” على غزة في الأسابيع الأخيرة والاشتباكات مع حزب الله في لبنان وهجمات الحوثيين على السفن وقطع طريق الملاحة البحرية في اتجاه البحر الأحمر وباب المندب، والتي أجّجت المخاوف من اشتعال أزمة تطال إمدادات الطاقة العالمية، مدخلاً لأزمات اقتصادية جديدة؟ وهل تشكل توترًا يسرّع من تفعيل اتفاقيات وتحالفات لوجيستية ترسم خارطة نقل جديدة في المنطقة والعالم؟
مخاطر منتظرة
يتراجع الاقتصاد العالمي في بعض الدول، ويتوقف في بعضها، وعندما يسير نحو الأمام، فإنه يسير بخطى بطيئة، حيث لا يزال يواجه تحديات النمو المنخفض والتضخم المرتفع، ويرجع ذلك إلى تشديد السياسة النقدية التي حدثت على مدار العامين الماضيين مع ضعف التجارة وانخفاض ثقة الأعمال والمستهلكين، إضافة إلى تآكل هوامش الأمان المالية في العديد من البلدان.
بالنظر إلى عام 2024، من المتوقع أن يظل النمو العالمي متواضعًا، مع تزايد الشعور بتأثير تشديد السياسة النقدية الضروري وضعف التجارة وانخفاض ثقة الأعمال والمستهلكين، وفقًا لأحدث تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد العالمي يتجه لتسجيل أقل معدل نمو منذ بداية الألفية (باستثناء أزمة عام 2008 وأزمة كورنا عام 2020)، حيث تتوقع وكالة “بلومبرج” نموًا بطيئًا للناتج المحلي الإجمالي العالمي بـ2.7% في عام 2024، يليه تحسن طفيف إلى 3.0% في عام 2025، مقارنة بـ3.1% في عام 2023.
من الممكن أن تتفاقم أزمة العقارات خلال العام المقبل لتصيب الاقتصاد الصيني في مقتل، بل قد يطال النظام العالمي تداعيات كارثية، رغم مساع حكومية لإنعاش ودعم القطاع المتعثر.
وفي الاقتصادات الكبرى، من المرجح أن يتباطأ النمو بشكل أكبر في النصف الأول من عام 2024 بسبب استمرار الظروف المالية الصعبة، ففي الولايات المتحدة، من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.4% قبل أن يتباطأ إلى 1.5% في عام 2024 مع توقع تخفيف السياسة النقدية، كما يُتوقع ارتفاع معدل البطالة إلى 4.4% في العام المقبل مقارنة بما يقدر أن يكون متوسطه 3.9% في الربع الأخير من 2023.
وفي حين تتفاوت توقعات المحللين حول قدرة الاقتصاد الأمريكي على الإفلات من الركود في 2024، وتحمل بعض التوقعات نظرة أكثر تشاؤمًا لاقتصاد يُتوقع أن يدخل في حالة من الركود في بداية يونيو/ حزيران 2024، ويحمل بنك “دويتش” توقعات مقاربة بازدياد الضغوط على الاقتصاد الأمريكي مع بداية 2024، نتيجة استمرار السياسة النقدية التشددية في محاربة التضخم والاستمرار في رفع معدلات الفائدة لفترة طويلة.
خلافًا للنظرة المتشائمة، رجَّح بنك “غولدمان ساكس” الأمريكي أن أداء الاقتصاد العالمي يكون أفضل مما يتوقعه الكثيرون في عام 2024 تمامًا كما حدث في عام 2023، وتوقَّع نمو الناتج العالمي بنسبة 2.6% على أساس متوسط سنوي، وهي نسبة أعلى من توقعات اقتصاديين شملهم استطلاع “بلومبرج”، ويرى البنك أن الدخل سيزداد في 2024، متأثرًا بمؤشرات انتهاء حالات رفع الفائدة، مع توقعات بتفوق نمو الأسواق الأمريكية على أقرانها في الأسواق المتقدمة مرة أخرى.
وفي حين ستستمر آسيا في تمثيل الجزء الأكبر من النمو العالمي في عام 2024 كما حدث في عام 2023، من المتوقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو التي تضررت بشدة من الحرب الروسية الأوكرانية وصدمة أسعار الطاقة، 0.9% في عام 2024، ومع ذلك، سيكون على أوروبا تقديم المزيد من الدعم العسكري والاقتصادي لتصمد في حربها مع روسيا مع عدم وجود حلول تلوح في الأفق.
هذا بالإضافة إلى توقعات بتصاعد المخاطر أمام الاقتصاد العالمي، وتشمل أزمة العقارات في الصين وتقلب أسعار النفط والغاز واستمرار معدلات التضخم المرتفعة وأعباء الديون لدى بعض الدول وصعود الدولار وخروج رؤوس الأموال من الدول النامية، وشروط التمويل الصعبة وسط ارتفاع أسعار الفائدة العالمية والمحلية نظرًا لاتجاهات التضخم، بأضافة إلى معنويات المستثمرين وتغير المناخ.
وبخلاف حالة التشاؤم فيما يتعلق بمعدلات النمو العالمي، ترسم آفاق معركة التضخم صورة أكثر تفاؤلاً مع استمرار تضخم أسعار المستهلكين في التراجع تدريجيًا لتعود نحو إلى مستويات تتفق مع أهداف البنوك المركزية في معظم الاقتصادات الكبرى بحلول نهاية عام 2025 مع اعتدال ضغوط التكلفة.
وفي غياب المزيد من الصدمات الكبيرة لأسعار المواد الغذائية والطاقة، تتوقع “بلومبرج” انخفاض التضخم العالمي إلى 5.4% في نهاية عام 2024، انخفاضًا من %6.2 في عام 2023، كما تتوقع أن يعود التضخم في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا إلى المستويات المستهدفة على أن يبلغ متوسط التضخم في البلدان المتقدمة 2.16% في 2024، مقارنة بالمستويات البالغة 7.14% في عام 2022 و4.2% في عام 2023، وفي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من المتوقع أن ينخفض تضخم أسعار المستهلك من 7.0% في عام 2023 إلى 5.2% في عام 2024 و3.8% في عام 2025.
في المقابل تبدو ضغوط الأسعار متباينة بين الأسواق الناشئة، حيث يواجه الاقتصاد الصيني انكماشًا يُتوقع أن ينخفض على إثره النمو المحلي إلى 4.7% في عام 2024، و4.2% في عام 2025، بعد نمو بمعدل 5.2% هذا العام، على خلفية الضغوط المستمرة في قطاع العقارات واستمرار ارتفاع معدلات ادخار الأسر.
ومن الممكن أن تتفاقم أزمة العقارات خلال العام المقبل لتصيب الاقتصاد الصيني في مقتل، بل قد يطال النظام العالمي تداعيات كارثية، رغم مساع حكومية لإنعاش ودعم القطاع المتعثر بإجراءات كخفض أسعار الرهن العقاري وتخفيض الضوابط وتقديم لزيد من القروض للمطورين العقاريين.
وإذا انخفضت أسعار العقارات بشكل كلي وبسرعة أكبر مما ينبغي ستواجه الأسر والبنوك الصينية أزمات متعددة مع توقعات بحدوث تضخم مالي جسيم، وتشير توقعات المحللين إلى خسارة المصارف الصينية 10% من أرباحها خلال 2024، متاثرة بمشكلات القطاع العقاري المتعثر، والذي يشكل 30% من الناتج المحلي للبلاد، ويئن تحت وطأة تعثر كبار المطورين عن سداد ديونهم.
ماذا ينتظر اقتصاد الشرق الأوسط؟
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تؤثر الاتجاهات العالمية المعاكسة والتحديات المحلية والمخاطر الجيوسياسية على الزخم الاقتصادي، وتتسم التوقعات بعدم اليقين إلى حد كبير.
وكما هو الحال في معظم دول العالم، من المتوقع أن يتباطأ النمو هذا العام في منطقة الشرق الأوسط، مدفوعًا بانخفاض إنتاج النفط في البلدان المصدرة للنفط، والتوترات التي يشهدها البحر الأحمر، وتشديد السياسات في الأسواق الناشئة والاقتصادات المتوسطة الدخل، ومزيج من الصدمات الجديدة في البلدان المنخفضة الدخل، وعوامل أخرى خاصة بكل بلد.
وعلى الرغم من مرونة الطلب المحلي وعودة السياحة تدريجيًا في بعض البلدان، ظل متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي عند 3.1% في الربع الأول من عام 2023، وفي حين تعزز النمو في الربع الأول، توقع البنك الدولي أن ينخفض نمو إجمالي الناتج المحلي للمنطقة إلى 1.9% في عام 2023 من 6% في عام 2022، في ظل أسعار النفط المنخفضة، وتشديد الأوضاع المالية العالمية، وارتفاع التضخم.
وبالنظر إلى المستقبل، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتحسن النمو في المنطقة ليرتفع إلى 3.4% في عام 2024 مع تلاشي بعض العوامل التي تؤثر على النشاط الاقتصادي الحالي، مع ذلك، لا تزال ديون القطاع العام مرتفعة في العديد من البلدان، ومن المتوقع أن يكون النمو على المدى المتوسط أقل من متوسطه التاريخي (البالغ 4%) وسط تحديات هيكلية مستمرة.
وبدأت معدلات التضخم الإجمالي في التراجع بما يتماشى مع الاتجاهات العالمية، ويتوقع أن يصل التضخم في المنطقة إلى ذروته عند 17.5% في المتوسط هذا العام، ثم يتراجع إلى 15% في عام 2024، لكنها لا تزال الأرقام مرتفعة في بعض البلدان، حيث لا تزال العوامل الخاصة بكل بلد – على سبيل المثال انخفاض قيمة العملة، والقيود المفروضة على الواردات – تزيد من الضغوط التضخمية في بعض البلدان، مما يؤدي إلى رفع متوسط التضخم في جميع أنحاء المنطقة.
وتتوقع مؤسسة “كابيتال إيكونوميس” للأبحاث الاقتصادية، ومقرها لندن، تحسن الاقتصاد في المنطقة في عام 2024، بعد التباطؤ الحاد هذا العام، هذا التحسن سينتج عن بدء تراجع دول “أوبك+” عن التخفيضات الأخيرة في إنتاج النفط، كما يسمح ارتفاع أسعار النفط لاقتصادات الخليج بالحفاظ على السياسة المالية الداعمة.
وخارج منطقة الخليج، يعاني ميزان المدفوعات في مصر من ضغوط تفرض على الدولة تخفيف قبضتها على الجنيه قريبًا للحفاظ على اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في المسار الصحيح، في حين ستكون الضغوط الخارجية التي تواجهها تونس أسوأ بشكل عام، ويُعتقد أن التخلف عن سداد الديون السيادية هو الأرجح.
وفقًا لتقرير نشرته شبكة “CNBC” الأمريكية، من المتوقع أن تتجاوز أسعار النفط المائة دولار في العام الجديد متأثرة بانخفاض المعروض من الخام في الأسواق العالمية حتى الربع الأول من 2024.
عربيًا، تكشف الطبعة الجديدة لصندوق النقد العربي أنه من المتوقع أن ينخفض معدل نمو الاقتصادات العربية في عام 2023 إلى نحو 2.2%، انخفاضًا من نحو 5.8% في عام 2022، إلا أن التقرير يتوقع انتعاشًا في عام 2024، حيث من المتوقع أن يصل النمو إلى نحو 3.3%، وتعكس هذه التوقعات المناخ الاقتصادي الأوسع وتأثير التحديات العالمية المستمرة، بما في ذلك تغيرات أسعار الفائدة وديناميكيات سوق النفط.
وفيما يتعلق بالتضخم، من المتوقع أن تشهد الدول العربية معدلاً مرتفعًا نسبيًا يبلغ 9.3% في عام 2023، متأثرًا بعوامل مختلفة مثل التقلبات في أسعار صرف العملات والطاقة وأسعار المواد الغذائية. ومع ذلك، يتوقع الصندوق انخفاض التضخم إلى حوالي 3.6% بحلول عام 2024، وتؤكد اتجاهات التضخم هذه على المشهد الاقتصادي المعقد الذي تعمل فيه الدول العربية والحاجة إلى إدارة سياسات حذرة.
إلى أين تتجه أسعار النفط في العام الجديد؟
تسيطر حالة من الحذر على توقعات سوق النفط خلال عام 2024 من قِبل المؤسسات الكبرى والبنوك الاستثمارية المعنية بالطاقة، وذلك على خلفية استمرار المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية حول العالم.
من جانبها، تبدي منظمة “أوبك” تفاؤلاً حذرًا بشأن العوامل الأساسية التي تؤثر على ديناميكيات السوق النفطية في العام المقبل. وفي تقريرها الأخير، أبقت المنظمة على توقعات نمو الطلب والمعروض النفطي من خارجها للعام المقبل دون تغيير عن تقريرها السابق في نوفمبر/ تشرين الأول الماضي.
تظل أسواق النفط تحت وطأة استمرار مخاطر التوترات الجيوسياسية في أجزاء متباعدة من العالم، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، حيث يلوح شبح الصراع في الأفق بشكل خطير.
تقديرات نمو الطلب على النفط في العام المقبل بقيت عند متوسط 2.5 مليون برميل يوميًا، وللعام الحالي عند 2.2 مليون برميل يوميًا كمعدل وسطي، كما أبقى التقرير توقعات نمو المعروض النفطي من خارج المنظمة دون تغيير لعام 2023 عند متوسط 1.8 مليون برميل و1.4 مليون برميل يوميًا للعام الحالي والمقبل على التوالي، مشيرًا إلى أن نحو 70% من النمو الذي سيأتي من الولايات المتحدة التي تستعد لإنتاج قياسي في عام 2024.
مع ذلك، وبحسب المحللين، تبقى هذه التوقعات رهينة مجموعة من العوامل المؤثرة في أسواق الخام خلال العام الجديد، من بينها توقعات تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص في الصين، وهو الأمر الذي يخفض الطلب على الخام، إلى جانب ارتفاع المخزونات في كل من الصين والهند واليابان والولايات المتحدة.
وتظل القيود المفروضة على العرض من العوامل المؤثرة مع استمرار أكبر دول تحالف “أوبك+” بالتخفيض الحالي في الإنتاج خلال عام 2024 بهدف كبح تراجع أسعار النفط مؤخرًا، ورغم أن “أوبك” لم تلزم أعضائها بتقليل الإنتاج، أعلنت دولاً خفضًا طوعيًا لإنتاجها من النفط.
قررت السعودية تخفيض إنتاجها من النفط مليون برميل يوميًا حتى “نهاية الربع الأول من عام 2024، وروسيا ما يعادل 500 ألف يوميًا خلال الفترة نفسها، إلى جانب دول أخرى في “أوبك” ليصل حجم الانخفاض إلى 2.2 مليون برميل يوميًا، وقد يؤدي ضعف النمو العالمي في عام 2024 إلى مزيد من التخفيضات من جانب “أوبك+”.
ورغم الانخفاض الذي تشهده أسعار النفط حاليًا، ثمة توقعات بأن تشهد انتعاشة في 2024، فوفقًا لتقرير نشرته شبكة “CNBC” الأمريكية، من المتوقع أن تتجاوز أسعار النفط المائة دولار في العام الجديد متأثرة بانخفاض المعروض من الخام في الأسواق العالمية حتى الربع الأول من 2024، علاوة على انسحاب أنجولا – أكبر منتج للنفط في إفريقيا- من منظمة “أوبك”، وإن كانت مستويات إنتاجها بسيطة (2% من إجمالي إنتاج أوبك+)، وربما لا تؤثر على بشكل جذري على إمدادات النفط العالمية.
ووفقًا للمحلل السياسي في بنك “USB” الأمريكي جيوفاني ستونوفو، ستستمر تأثيرات خفض الإنتاج على أسعار النفط بسبب العودة البطيئة لمستويات الإنتاج الطبيعية ما يؤدي إلى بقاء السوق متعطشة في 2024، وستسجل البلدان المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموًا أقوى في عام 2024، بسبب الزخم في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي واستقرار إنتاج النفط على نطاق واسع بعد تخفيضات الإنتاج في عام 2023، وفقًا لوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني.
كما تظل أسواق النفط تحت وطأة استمرار مخاطر التوترات الجيوسياسية في أجزاء متباعدة من العالم، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، حيث يلوح شبح الصراع في الأفق بشكل خطير، مع تساع وتيرة حرب “إسرائيل” على غزة، وما تبعها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، والتي أدَّت لاضطرابات قد تستمر شهورًا، سيما مع تأخير تسليم شحنات النفط.
وتهدد التطورات المتسارعة في المنطقة بإشعال حريق إقليمي، وفي هذا السيناريو قد ترتفع أسعار النفط إلى 150 دولارًا للبرميل، وينخفض النمو العالمي إلى 1.7%، وسيؤدي الركود الناتج عن هذه المعركة إلى خسارة العالم نحو تريليون دولار من الناتج الإجمالي العالمي.
ويمكن أن يتسبب تطور الصراع في الشرق الأوسط إلى خلق حالة شبيهة بما حدث عام 1973 عندما حظر العرب النفط عن الدول الغربية، خاصة أن اقتصاد العالم اليوم يعاني كثيرًا ولا يزال من التضخم الذي تفاقم بعد إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا في عام 2022، لذلك فإن أي حرب أخرى قادرة على أن تزلزل الاقتصاد العالمي، خاصة إذا كانت هذه الحرب تستهدف أهم إمدادات النفط في العالم.
ويُتوقع أن يشهد العالم مثل هذه التأثيرات وغيرها بناءً على تطور الصراع في غزة، ففي حال بقيت الحرب محصورة هناك، فلن يكون هناك تأثيرات اقتصادية تُذكر في ظل هذا السيناريو، وفي حال امتد الصراع إلى لبنان وسوريا، وتحولت الأمور إلى حرب بالوكالة بين إيران و”إسرائيل”، فإن التكلفة الاقتصادية ستكون أكبر، وسترتفع أسعار النفط كما حدث خلال حرب يوليو/ تموز عام 2006 بين حزب الله و”إسرائيل”، حينها قفز سعر النفط الخام بمقدار 5 دولارات للبرميل.
يبقى السيناريو الأخير الذي يحاول الجميع تجنبه من الولايات المتحدة إلى إيران، وهو سيناريو منخفض الاحتمال، لكنه قادرًا على أن يسبب ركودًا عالميًا ورفعًا لأسعار النفط بدرجات كبيرة مما يشكل ضربة قوية للاقتصاد العالمي.
هذا السيناريو يتمثل في صراع مباشر بين إيران و”إسرائيل”، وإذا ما حصل، فإن إيران قد تغلق مضيق هرمز الذي تمر عبره خمس إمدادات النفط العالمية اليومية من منطقة الخليج، بهذه الحالة يتراجع النمو العالمي بمقدار 1%، ويرتفع التضخم العالمي لمستوى 6.7% العام المقبل.
أين تستثمر في 2024؟
تراهن المؤسسات الكبرى على أن تراجع أسعار الفائدة سيدعم سوق الأسهم، ويتوقع تفوق أداء الأسهم الأوروبية على أداء الأسهم الأمريكية في النصف الأول من عام 2024، وفي الأسواق الناشئة، يتوقع أن ترتفع الأسهم بنسبة 9%.
أما في أسواق العملات، وبالرغم من إشارة توقعات عدة بأن سياسة الفيدرالي الأمريكي ستدفع الدولار للتراجع، إلا أن مؤسسات كبرى ترى أن ركود اقتصاد الدول سيساهم في استمرار قوة العملة الأمريكية.
أمَّا أبرز العملات التي سيتم مراقبتها فهي الين الياباني، وفي الأسواق الناشئة، التي تمكنت من الصمود أمام دورة رفع الفائدة ووقوة الدولارة وتباطؤ الصين، أشار استطلاع لوكالة “رويترز” إلى أن أكثر من نصف عملات الأسوق الناشئة، خاصة في آسيا، ستسجل مكاسب في 2024، ومن المتوقع أن يعوض بعضها جميع خسائره في 2023، من ضمنها اليوان الصيني الذي يُتوقع أن يرتفع للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات في عام 2024، في ظل تراجع الفارق في الفائدة.
وفي سوق العملات المشفرة، يتوقع أن تتفوق عملة “الإيثر” بالأداء على “البتكوين” بدعم من التحديثات على العملة على الرغم من أن أداء “الإيثر” كان أقل من أداء “البيتكوين” على مدار الـ 12 شهرًا الماضية، إلا أن الحذر سيبقى سيد الموقف بين المحللين الذين يعتبرون “الإيثر” أحد أقوى العملات الرمزية المميزة لعام 2024، وعلى الرغم من أنه قد لا يرتفع سعره، إلا أنهم ما زالوا يعتقدون أنه سيكون أداء أفضل من العملات الأخرى، وتحديدًا البيتكوين.
وأخيرًا والأهم للأغلبية، هو أسعار الذهب، ويتوقع أن يتفوق على بقية قطاع المعادن، فقد شهدت الثلاثة أشهر الأخيرة ارتفاعات متواصلة حتى وصل مؤخرًا إلى 2070 دولار للأوقية، ويتوقع أن يحقق الذهب أسعار قياسية جديدة في 2024.
ومنذ بداية عام 2023، ارتفعت أسعار الذهب بنسبة 4%، وذلك وسط رفع الفيدرالي الأمريكي معدلات الفائدة إلى أعلى مستوى منذ يناير/ كانون الثاني 2001، بعدما ارتفع التضخم إلى أعلى مستوى في 40 عامًا، وفي أقل من عامين رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة إلى نسبة تصل إلى 5.5%.
وتوقع المحللون لدى بنك “TD Securities” أن تصل أسعار الذهب إلى 2100 دولار للأونصة الواحدة في 2024، وهي مقابل أعلى سعر تاريخي للذهب عند 2027 كان قد حققها في عام جائحة كورونا في 2020، وتشير بعض التوقعات إلى أن يصل سعر الذهب إلى 2300 دولار للأونصة.
هذه التوقعات هي أعلى من المستويات الحالية بنسبة 26%، وجاءت مدعومة بتراجع معدلات الفائدة بدءًا من 2024، والمخاوف من حدوث ركود، وأيضًا وسط توقعات بأن يتباطأ نمو التضخم عالميًا في عام 2024، ووسط الصراعات الجيوسياسية وحالة عدم اليقين الاقتصادي التي يشهدها العالم حاليًا قد يكون المعدن الأصفر الاستثمار الرابح.