لا جديد يذكر أو قديم يعاد، هذا لسان حال غالبية الشعب المصري مع نهاية العام الحاليّ واستقبال عام جديد، فالآمال التي عقدها البعض خلال العام بشأن التحسن والخروج من عنق الزجاجة تبخرت أدراج الرياح في ظل استمرار السياسات والأدوات ذاتها، ومن ثم الوصول إلى نفس النتائج.
بل إن هذا العام شهد مزيدًا من الانحدار في بعض الملفات ذات البعد القومي، ناهيك عن استمرار الوضعية المعيشية المتدنية لغالب الشعب الذي يزيد تعداده على 100 مليون مواطن، هذا بخلاف ما أحدثته حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، حيث قلبت الطاولة وسقطت كثير من الشعارات التي طالما كان يتعامل معها المصريون على أنها ثوابت غير قابلة للتشكيك.
في هذه الجولة السريعة، وبينما يلملم عام 2023 أوراقه، معلنًا الرحيل بشكل رسمي، نلقي الضوء على أبرز ملامح الخريطة المصرية، اقتصاديًا وسياسيًا وحقوقيًا، وهي الملامح التي يتوقع أن تكون حاضرة بشكل كبير مع العام الجديد 2024.
الاقتصاد.. مزيد من الأزمات
آفة المصريين هي الاقتصاد والوضعية المعيشية المتدنية، التي تزداد قسوة عامًا تلو الآخر خلال السنوات الـ10 الماضية، غير أن العام الحاليّ 2023 وما شهده من توترات جيوسياسية واضطرابات على المستوى الإقليمي، عمق من تلك الوضعية الصعبة وزاد من الأعباء الملقاة على كاهل غالب الشعب المصري.
البداية مع العملة التي فقدت نحو أكثر من 100% من قيمتها خلال هذا العام، من 15.6 جنيه للدولار في يناير/كانون الثاني 2022 إلى نحو 31 جنيهًا للدولار بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، بالسعر الرسمي في البنوك، فيما يتجاوز سعره في السوق السوداء الـ50 جنيهًا للدولار الأمريكي الواحد، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على أسعار السلع والخدمات التي قفزت بمعدلات جنونية.
الأمر كذلك في معدلات الدين الخارجي الذي ارتفع من 162.9 مليار دولار بنهاية 2022 إلى قرابة 165 مليار دولار بنهاية 2023، ويمثل هذا الرقم نحو 40.3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ما يعني الاقتراب بشكل كبير من النسبة التي قدرها صندوق النقد الدولي لمستويات الديون التي لا يمكن السيطرة عليها والمحددة بنحو 50% من الناتج المحلي.
وسددت مصر خلال العام الحاليّ قرابة 36.9 مليار دولار أقساط وفوائد هذا الدين، تلتهم أكثر من ثلثي الموازنة العامة للدولة والمخصصة للإنفاق على الشعب، وتُطالَب الحكومة المصرية بداية من العام القادم، 2024، بسداد 29 مليار دولار، 14.5 مليار دولار في النصف الأول ومثلها في النصف الثاني من العام نفسه، قيمة أقساط وفوائد الدين الخارجي الذي يستوجب السداد تجنبًا لأي تبعات كارثية أخرى في حال التخلف.
الدين الخارجي لمصر يرتفع إلى 165.4 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2023https://t.co/KFNDfTDc1X
— مصراوي (@masrawy) July 4, 2023
وفي عام 2025 مطالبة بسداد 19.4 مليار دولار، 11.1 مليار دولار في النصف الأول و8.2 مليار دولار في النصف الثاني، وفي عام 2026 المبلغ المستحق يبلغ نحو 22.8 مليار دولار، 11.4 مليار دولار في النصف الأول ومثلها في النصف الثاني.
وكان لذلك انعكاساته السلبية على معدلات الأسعار والتضخم الذي ارتفع إلى ما يقرب من 40%، في سبتمبر/أيلول الماضي، وتعد تلك النسبة رقمًا قياسيًا جديدًا لمعدلات التضخم في مصر، قبل أن ينخفض نقطتين مئويتين، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
أسفرت تلك الوضعية الحرجة التي تكشف عن فشل كبير وواضح في السياسات الاقتصادية والنقدية المتبعة، عن تخفيض نظرة المؤسسات المالية الاقتصادية العالمية في تقييمها للاقتصاد المصري، حيث خفضت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني في أكتوبر/تشرين الأول الماضي تصنيف مصر الائتماني من B3 إلى CAA1، مع نظرة مستقبلية مستقرة.
كذلك خفضت وكالة “ستاندرد آند بورز” تصنيف مصر السيادي مع نظرة مستقبلية مستقرة، كما خفضت تصنيفها الائتماني السيادي طويل الأجل بالعملة الأجنبية والمحلية لمصر إلى “B-” من “B”، مع نظرة مستقبلية مستقرة، بينما ثبتت الوكالة التصنيف الائتماني السيادي قصير الأجل عند مستوى “B”.
وفي سياق التخفيضات المستمرة، خفضت وكالة فيتش العالمية، تصنيف مصر الائتماني بالعملة الأجنبية على المدى الطويل (IDR) إلى “-B” من “B”، مع نظرة مستقبلية مستقرة، مرجعة ذلك إلى عدة أسباب منها زيادة المخاطر التي تهدد التمويل الخارجي لمصر، وتذبذب استقرار الاقتصاد الكلي.
السيسي نحو ولاية ثالثة
أبى العام الحاليّ أن يرحل دون أن يرسخ لولاية ثالثة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث تبكير موعد الانتخابات الرئاسية التي كان مقررًا لها بداية العام الجديد، لتُجرى في النصف الأول من ديسمبر/كانون الأول 2023 وأسفرت عن فوز السيسي بفترة رئاسية جديدة إثر حصوله على 89.6% من إجمالي الأصوات الصحيحة البالغ عددها 44 مليونًا من إجمالي 67 مليونًا لهم حق التصويت، بنسبة مشاركة بلغت 66.8% وهي الأعلى في تاريخ البلاد، بحسب رئيس الهيئة العليا للانتخابات ونائب رئيس محكمة النقض حازم بدوي.
نافس السيسي في تلك الانتخابات التي وصفها البعض بـ”الهزلية” 3 مرشحين غير معروفين للشارع المصري، بل إن كثيرًا من المصريين لا يعرف حتى أسمائهم، وهم :مرشح الحزب الشعبي الجمهوري، حازم عمر، الذي حصل على 4.5% محتلًا المركز الثاني، يأتي خلفه رئيس الحزب المصري الديمقراطي، فريد زهران، الحاصل على 4%، ثم في المركز الرابع والأخير رئيس حزب الوفد، عبد السند يمامة، الذي حصل على 1.9% من إجمالي الأصوات.
وكان يفترض أن تكون الفترة الحاليّة هي الثانية والأخيرة للسيسي وفق الدستور المصري، غير أن التعديل الذي أُجري عليه في 2019 سمح له بفترة جديدة تمتد حتى 2030، وسط توقعات بتعديل آخر للدستور قبيل نهاية الفترة الحاليّة تسمح للسيسي بالبقاء في منصبه حتى إشعار آخر.
شابت تلك الانتخابات العديد من الشكوك، قبيل إجراءها أو خلالها، فضلًا عما حدث بعد إعلان النتائج، وكلها تذهب باتجاه عدم نزاهتها، وأنها كانت استفتاء على شعبية السيسي أكثر منها انتخابات تنافسية، خاصة بعد استبعاد المرشحين الجادين والإبقاء على غير المعروفين الذين استقبلهم السيسي في قصر الرئاسة لشكرهم على ما وصفه بـ”أدائهم الجيد” خلال الانتخابات.
ملفات الأمن القومي.. تعاظم التهديدات
لم تتغير مقاربات الأمن القومي المصري خلال العام الحاليّ عما كانت عليه طيلة الأعوام السابقة، وإن كانت الأمور تزداد تعقيدًا في ظل تراجع دور القاهرة وثقلها وغياب الانخراط في الكثير من الملفات الساخنة التي تهدد أمن البلاد.
على المستوى الليبي فالأمور تسير على ذات النهج، مزيد من الانقسامات دون التوصل إلى حل بشأن اختيار رئيس للبلاد، فيما تراجع الدور المصري ليبيًا خلال العام الحالي مقارنة بما كان عليه في السابق، حيث تراجع الدعم المطلق لفريق خليفة حفتر إثر تباين وجهات النظر مع حلفاء الخليج في تلك المسألة.
أما على الجانب السوداني فالأمور تزداد اشتعالًا في خاصرة مصر الجنوبية، لا سيما بعد اندلاع حرب الجنرالات في أبريل/نيسان الماضي بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي) حيث تحاول القاهرة التزام الحياد وعدم التوغل في المشهد، وإن كانت بداية الأمر مالت ناحية دعم البرهان والجيش، لتترك الساحة السودانية مسرحًا كبيرًا للعديد من القوى الإقليمية والدولية ذات الأجندات المتعددة التي قد تهدد الأمن القومي المصري.
ومن أبرز الملفات التي رفعت فيها القاهرة الراية البيضاء، معلنة فشلها في إحداث أي تحريك بها، ملف سد النهضة والأمن المائي، فبعد 10 سنوات من المباحثات والمفاوضات أعلنت القاهرة بشكل رسمي انتهاء المباحثات دون جدوى، بعد أن أتمت أديس أبابا بناء السد وانتهت من مراحل الملء الأربعة، الأمر الذي يهدد حصة مصر في مياه النيل التي تلبي نحو أكثر من 95% من احتياجات المصريين المائية.
الإبادة الجماعية في غزة.. تساؤلات عن الموقف
أثار الموقف المصري الرسمي إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة التي اندلعت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الكثير من التساؤلات والانتقادات، حيث جاء خافتًا ضعيفًا غير متناسب مع مكانة مصر الإقليمية من جانب، ومسؤولياتها الأخلاقية والسياسية تجاه القضية الفلسطينية وسكان قطاع غزة، الذين يتعرضون لإبادة جماعية ممنهجة على أيدي جيش الاحتلال، من جانب آخر.
وفيما عول البعض على القاهرة لاستخدام أوراق الضغط التي بحوزتها لإيقاف الاحتلال عن جرائمه، جاء الخطاب السياسي المصري صادمًا، حيث ركز السيسي على مسألة منع تهجير سكان القطاع إلى سيناء، غير مبالِ بما يعانون منه في الداخل، بل اقترح على حكومة نتنياهو ترحيلهم إلى صحراء النقب.
وبدلًا من دعم المقاومة كونها امتداد الأمن القومي المصري، تحدث السيسي عن فكرة تصفية حماس والجهاد، فضلًا عن الحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح كمقترح لتفعيل خيار حل الدولتين، هذا بجانب تعزيز الحصار المفروض على القطاع من خلال غلق المعبر وتعلية الجسر الخرساني الفاصل بين غزة ورفح المصرية.
وكشف الموقف المصري إزاء الحرب في غزة عن ضعف السلطة المصرية وانبطاحها، إلى جانب بقية الأنظمة العربية والإقليمية دون استثناء، أمام الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، لتسقط كل الشعارات التي رفعها الجميع بشأن دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
وعلى المستوى الحقوقي فلا جديد يذكر، مزيد من تضييق الخناق والإبقاء على المعتقلين داخل السجون بسبب آراءهم السياسية، واستمرار سياسات الترهيب، وغلق الأفق السياسي أمام الأحزاب والكيانات السياسية، فضلًا عن تكريس هيمنة الحزب الواحد والصوت الواحد في أجواء تشبه إلى حد كبير فترة الستينيات أيام ولاية جمال عبد الناصر.
وهكذا يودع المصريون هذا العام بحال ليس الأفضل، إن لم يكن أسوأ مما مضى، فيما يستقبلون عامهم الجديد بمنسوب تفاؤل أقل نسبيًا، في ضوء المؤشرات الراهنة التي تدفع الشعب المصري لأن يكون موضوعيًا في آماله وأحلامه المكبوتة بأجواء ضبابية غامضة.