“استنادًا إلى المعلومات المتوفرة لدى الولايات المتحدة، فإن إدارة ترامب ترى أن طهران تلتزم بالشروط التي ينص عليها الاتفاق النووي، مما يعني عدم فرض أي عقوبات أمريكية عليها بسبب برنامجها”، بهذه التصريحات التي أدلى بها مسؤول أمريكي مساء أمس الإثنين تقر واشنطن الإبقاء على الاتفاق النووي مع إيران لمدة 90 يومًا قادمة.
قرار ترامب الذي جاء مناقضًا تماما لما تعهد به سابقًا إبان حملته الانتخابية بـ”تمزيق” ما اعتبره “أسوأ” اتفاق تبرمه الولايات المتحدة في تاريخها على الإطلاق، يضاف إلى سجلات التراجع عن التعهدات التي قطعها الرئيس الأمريكي على نفسه منذ دخول البيت الأبيض.
العديد من علامات الاستفهام تفرض نفسها حيال هذا القرار الذي جاء عكس هوى ترامب وحلفائه في منطقة الشرق الأوسط، مما يدفع للتساؤل عن دوافع هذا القرار ومدى الضغوط التي مورست لتمديد الموافقة على الاتفاق لثلاثة أشهر قادمة، وهل هناك علاقة بين موقف ترامب وما يتعرض له بسبب ملف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأخيرًا: هل يسدل هذا القرار الستار على الصدام بين الرئيس ومؤسسات دولته بشأن هذا الملف؟
انتهاك “روح” الاتفاق
في تقرير لها كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية عن ملابسات موافقة إدارة ترامب على تمديد العمل بالاتفاق النووي الإيراني لربع عام إضافي، كأحد الشروط التي فرضها الاتفاق منذ دخوله حيز التنفيذ، في 16 من يناير/كانون الثاني 2016، حيث يتعين على الإدارة الأمريكية أن “تصادق” عليه كل 90 يومًا أمام الكونغرس، أي أن تؤكد أمام السلطة التشريعية أن طهران تحترم بنود الاتفاق.
قرار ترامب مساء أمس يأتي – بحسب الصحيفة – في الوقت الذي يرى فيه مسئولون داخل البيت الأبيض أن طهران لم تلتزم بجوهر وروح الاتفاق، غير أن هذا التقييم لا يحمل أي وزن قانوني يمكن الاعتداد به لعرقلة العمل بالاتفاق، ومن ثم لم يكن له تأثير على القرار الذي أصدره ترامب في إطار تقييمه الربع سنوي.
التناقض الواضح بين موقف الرئيس الأمريكي من طهران وتعنته إزاء اتفاقها النووي وتعهده بـ”نسفه” وقراراته على أرض الواقع والتي تجسدت بصورة واضحة في تقييم الأمس، يكشف وبصورة جلية الانقسامات العميقة والمتواصلة داخل إدارته بشأن كيفية التعامل مع قضية الأمن القومي بصفة عامة، حسبما أشارت “الغارديان”.
إدارة ترامب ترى أن طهران تلتزم بالشروط التي ينص عليها الاتفاق النووي، مما يعني عدم فرض أي عقوبات أمريكية عليها بسبب برنامجها
الالتفاف بعقوبات جديدة
في الوقت الذي أقر فيه ترامب الإبقاء على الاتفاق النووي مع إيران وما يحمله هذا القرار من دلالات بشأن امتثال طهران لبنود الاتفاق، إلا أن إدارته تسعى إلى فرض المزيد من العقوبات الإضافية التي لا علاقة لها بهذا الاتفاق، مما يشي أن قرار الأمس لم يكن “ترامبيًا” بصورة خالصة.
التصريحات الصادرة عن المسؤول الأمريكي الذي رفض ذكر اسمه كشفت عن عزم الإدارة الأمريكية فرض عقوبات جديدة على إيران، بسبب امتلاكها لبرنامجين عسكريين تسعى إلى تطويرهما بشكل دائم، أولهما خاص بالصواريخ البالستية، والثاني يتعلق بالزوارق البحرية السريعة، حيث قال: “نتوقع أن نفرض عقوبات جديدة تتصل ببرنامج إيران للصواريخ البالستية وبرنامجها للزوارق السريعة”.
المسؤول الأمريكي رغم تمديد الاتفاق وإعلان امتثال طهران لبنوده أكد أن “إيران تبقى أحد أبرز مصادر التهديد لمصالح الولايات المتحدة والاستقرار الإقليمي”، مما يعني ضرورة تطويقها بمزيد من العقوبات المفروضة عليها والتي قد تعيق تمددها في المنطقة.
يرى فيه مسؤولون داخل البيت الأبيض أن طهران لم تلتزم بجوهر الاتفاق النووي، غير أن هذا التقييم لا يحمل أي وزن قانوني يمكن الاعتداد به لعرقلة العمل بالاتفاق
طهران تلوح بالخروج
القرار الأمريكي بتمديد الاتفاق جاء عشية التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، خلال مقابلة له مع مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، في الذكرى الثانية للتوقيع على الاتفاق النووي، والتي حملت تنديدًا بموقف ترامب من طهران بصفة عامة.
ظريف أكد خلال الحوار الذي أجراه معه الصحفي الأمريكي جاكوب هيلبرون، “عدم التزام البيت الأبيض بروح الاتفاق المبرم في 2015 والذي دخل حيز التنفيذ في 2016″، ملفتًا إلى انتهاج بلاده في مواجهة ما أسماه “الإجراءات الأمريكية المناقضة للاتفاق النووي” مسارًا محددًا يهدف إلى الرجوع إلى اللجنة المشتركة للاتفاق من أجل البحث عن حلول للانتهاكات التي تمارسها واشنطن، خاصة أن للاتفاق شرعية أوروبية وأممية تتمثل في دعم مجلس الأمن والدول الموقعة عليه لبنوده واستمرارية العمل به.
قرار ترامب المناقض لتصريحاته السابقة كشف حجم الانقسامات الواضحة بين مسؤولي إدارته داخل البيت الأبيض حيال الملف الإيراني
وبسؤاله عن احتمالية خروج إيران من الاتفاق، قال وزير الخارجية: “إذا كان الخروج أحد الخيارات الممكنة للرد على التعنت الأمريكي فإن الباب مفتوح أمامنا”، محذرًا من أسلوب التهديد الذي يتبعه ترامب في تصريحاته ضد طهران، ومدى تأثيرها على منطقة الشرق الأوسط بما فيها حلفاء أمريكا أنفسهم، قائلاً: “التهديد لا يمكن أن يؤدي مطلقًا لإيجاد فهم أكثر في التعاطي مع إيران أو أي دولة أخرى، يجب أن نكون أكثر حذرًا في إرسال الرسائل، لأننا نرى أنه في الأسابيع الماضية، أدى نقل الرسالة الخاطئة في منطقتنا وخاصة بعد عقد مؤتمر الرياض، إلى ردود فعل شديدة في المنطقة، وهذا رد الفعل لم يكن فقط بين إيران والولايات المتحدة وإنما بين حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم”، مؤكدًا أن من الضروري إدراك الجميع تعقيدات المنطقة.
وزير الخارجية الإيراني لا يستبعد الخروج من الاتفاق حال تطلب الأمر ذلك
انقسامات داخل البيت الأبيض
كشف قرار ترامب المناقض لتصريحاته السابقة حجم الانقسامات الواضحة بين مسؤولي إدارته داخل البيت الأبيض حيال الملف الإيراني، كما أشارت “الغارديان” في تقريرها سالف الذكر، ففريق يرى ضرورة التزام الرئيس بتعهداته الانتخابية بنسف هذا الاتفاق، الذي يراه “الأسوأ” في تاريخ أمريكا، بينما يرى فريق آخر ضرورة الإبقاء عليه احترامًا لدولة القانون والمؤسسات والتي كان الاتفاق تحت رعايتها وبموافقتها في عهد باراك أوباما، فضلاً عن تجنب الصدام مع الدول الأوروبية الموقعة عليه، خاصة بعدما أعلنت عدم نيتها إعادة النظر في بنود الاتفاق مرة أخرى.
الصراع بين ترامب ومؤسسات دولته ليس وليد اللحظة، فمنذ اليوم الأول لتنصيبه باتت ملامح الصدام تتكشف بصورة واضحة في ظل ما ينتهجه الرجل من أفكار وسياسات ربما تتعارض بشكل كبير مع توجهات أمريكا الخارجية وفق تقديراتها السياسية والأمنية.
“نون بوست ” في تقرير له كشف عن بعض ملامح أوجه هذا الصدام بين الرئيس وإدارته، بدءًا بالصدام مع القضاء في معركتين متتاليتين، الأولى في الثالث من فبراير 2017، والثانية بعدها بستة أيام فقط، في التاسع من نفس الشهر، وذلك حين رفض القضاء القرار الذي أصدره الرئيس في السابع والعشرين من يناير الماضي بشأن حظر دخول مواطني عدد من الدول لأمريكا بدعوى حماية أمنها من الإرهاب، ورغم حكم المحكمة العليا مؤخرًا بتطبيق حظر جزئي على مواطني هذه الدول، فإن ملامح الصدام بين الرئيس والقضاء لم تنته بعد.
ثم جاء صدامه مع البرلمان، حيث هناك شبه اتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين على أن بعض ممارسات ترامب ربما تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، وهو ما كشفه رد فعل الحزبين على مناقشة الرئيس بعض القضايا الأمنية الحساسة، والمتعلقة بتجربة الصاروخ الباليسيتي الذي أطلقته كوريا الشمالية في الثالث عشر من فبراير 2017، خلال تناوله العشاء مع رئيس الوزراء الياباني شيزو آبي” بمنتجع “ماو آلا غو”.
كذلك تباين وجهات نظر إدارته حيال بعض الملفات الإقليمية والدولية، كعلاقته مع روسيا، وانتقاداته الحادة لبعض الدول الأوروبية وحلف الناتو على وجه الخصوص، كذلك الموقف من العراق والأزمة الأوكرانية، والتي تشي إلى أن ترامب يسير في وادٍ ومؤسسات دولته تسير في وادٍ آخر في كثير من القضايا.
منذ اليوم الأول لتنصيبه باتت ملامح الصدام بين ترامب وبعض مسؤولي إدارته تتكشف بصورة واضحة في ظل ما ينتهجه من سياسات تتعارض مع توجهات أمريكا الخارجية وفق تقديراتها السياسية والأمنية
هل رضخ ترامب؟
إقرار الرئيس الأمريكي بتمديد العمل بالاتفاق النووي الإيراني لثلاثة أشهر قادمة يعد في الواقع انتصارًا للفريق الذي يرى ضرورة الالتزام بهذا الاتفاق انطلاقًا من بعض السياسات الأمنية والسياسية التي تضعها مؤسسات الدولة السيادية في الاعتبار والتي يجب ألا تتأثر بأهواء الرئيس الشخصية.
وبهذا القرار يواصل ترامب مسيرة تراجعه عن تعهداته التي قطعها على نفسه في السابق، فالرجل خلال حملته الانتخابية تعهد بحزمة من الوعود شملت 282 وعدًا وقرارًا لم ينفذ منها إلا القليل في الوقت الذي تراجع عن معظمها بصورة ملفتة للنظر.
فالبداية تعود إلى قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس والذي كان أبرز الوعود التي تعهد ترامب بها، لكنه تراجع عنها وأرجأها لأجل غير مسمى خلال زيارته الأخيرة لتل أبيب قادمًا من الرياض، كذلك موقفه العدائي من كل من الصين وحلف الناتو، حيث تراجع عنهما بشكل ملحوظ، إضافة إلى فكرة بناء الجدار الفاصل بين أمريكا والمكسيك والذي نوه إلى بدء العمل به لكنه لم يحدث حتى الآن.
ثم يأتي مشروع “أوباما كير” حيث تعهد ترامب في أثناء الانتخابات بإلغاء برنامج الرعاية الصحية الذي كان أقره الرئيس السابق باراك أوباما، وقال وقتها: “سوف نفعل ذلك بسرعة كبيرة ونلغي البرنامج لأنه كارثة كبرى”، إلا أنه بعد فوزه بالانتخابات، تراجع عن تنفيذ تعهداته معلنًا أنه سيقوم فقط بإصلاح البرنامج، مع الحفاظ على معظم عناصره.
علاوة على ذلك فقد تراجع الرئيس الأمريكي عن دعمه المتواصل لموسكو والذي كان محل جدال في أثناء حملته الانتخابية، حيث غير الرجل من خطابه ولهجته الموجهة للروس، لا سيما بعد تورطه في فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية والتي ربما تكون الشعرة التي تطيح به خارج البيت الأبيض، والتي دفعته إلى التخلي عن بعض رجاله وتقليل نفوذهم داخل البيت الأبيض تجنبًا للصدام مع مؤسسات الدولة، كذا تراجعه عن بعض مواقفه القديمة.
وبقرار الأمس يختتم ترامب سلسلة التراجع عن تعهداته السابقة إلا أنه في الوقت ذاته يطرح العديد من التساؤلات عن مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية في ظل تلك الانقسامات داخل البيت الأبيض بشأن الاتفاق النووي الإيراني، وهل يعني ذلك إسدال الستار على هذا الملف أم ما زالت هناك جولات مستقبلية؟
الرجل خلال حملته الانتخابية تعهد بحزمة من الوعود شملت 282 وعدًا وقرارًا لم ينفذ منها إلا القليل في الوقت الذي تراجع عن معظمها بصورة ملفتة للنظر
هل يؤثر قرار ترامب على علاقاته بحلفائه في الشرق الأوسط؟
وماذا بعد؟
لا يخفى على أحد حجم ما يكنه ترامب من عداء واضح للجمهورية الإيرانية، إذ إنها وفق رؤيته الداعم الأول للإرهاب في العالم، فضلاً عما تلعبه من دور مؤثر في تأجيج الصراع في الشرق الأوسط في إطار سياسة تمديد نفوذها في المنطقة، وهو ما يهدد الأمن القومي لـ”إسرائيل”.
كما أن هذا القرار ربما يلقي بظلال قاتمة على الحلف الجديد الذي دشنه خلال زيارته للرياض مؤخرًا والذي يهدف في المقام الأول إلى التصدي لطهران وتحجيم دورها من خلال عرقلة تحركاتها ومناهضة جهودها هنا وهناك، فضلاً عن إثقال كاهلها بمزيد من العقوبات المفروضة عليها اقتصاديًا وسياسيًا.
وإن كان ترامب فشل أمام مؤسسات دولته – وفق ما لديها من حسابات أمنية وسياسية – في تنفيذ وعوده بشأن “نسف” هذا الاتفاق الإيراني، فإنه سيواصل جهوده للتحايل على ذلك من خلال المزيد من الضغط عليها بما لديه من صلاحيات داخلية وخارجية، إرضاءً لحلفائه الشرق أوسطيين من جانب، واتساقًا مع مواقفه السابقة من جانب آخر، ليبقى هذا الملف محل سجال بين فريقي البيت الأبيض حتى إشعار آخر قد يدفع فريقًا إلى تبني موقف الفريق الآخر بصورة شبه كاملة.