انضم العملاق توشيبا إلى البورصة في شهر مايو/أيار 1949، إيذانًا بالانتعاش الاقتصادي الذي ظهر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبحت الشركة رمزًا للإمكانات والبراعة الفكرية والصناعية اليابانية، إذ كانت توشيبا أول شركة في العالم تصنع الكمبيوتر المحمول عام 1985. ورغم عقود من النجاحات في صناعات متطورة، من البطاريات والمكونات الإلكترونية إلى الشاشات والطاقة النووية، يجد العملاق الياباني نفسه اليوم مشطوبًا من بورصة طوكيو بعد 74 عامًا تقريبًا.
كيف حدث هذا الانهيار الدراماتيكي؟
تأخذكم سطور هذا التقرير في رحلة سريعة لنتعرف على قصة شركة توشيبا، وكيف وصلت إحدى رموز البراعة اليابانية لهذا الفشل الذريع الذي يكاد ينهي مسيرتها ويطوي صفحتها.
بداية الرحلة
لا أعرف صراحة من أين أبدأ، فقد تميزت رحلة توشيبا بالنجاحات الكبيرة لتكون أحد اللاعبين الرئيسيين في قطاع التكنولوجيا بالعالم، لكن لسوء الحظ سقطت من القمة إلى نقطة متدنية وغير مسبوقة من الفشل المصحوب بسلسلة من الفضائح المالية وسوء الإدارة والأخطاء الإستراتيجية، لكن دعونا نبدأ رحلتنا منذ بداية الكارثة.
توشيبا والطاقة النووية
في عام 2006، كانت توشيبا ترى أن العالم سيتحول في نهاية الأمر إلى الطاقة النووية الآمنة بدلًا من الوقود الأحفوري، وبدت رؤية الشركة اليابانية كأنها استثمار مربح، لهذا دفعت 5 مليارات دولار للاستحواذ على حصة الأغلبية في شركة بناء المفاعلات النووية ويستينغهاوس التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة من BNFL (إحدى الشركات التابعة للحكومة البريطانية) مقابل 5.4 مليار دولار، واستعدت توشيبا لجني المليارات، إذ كانت هناك رغبة قوية من بلدان كثيرة لإنشاء المحطات والمفاعلات النووية، كما أن الحكومة الأمريكية قدمت تمويلات وتخفيضات ضريبية حتى إن تلك الفترة سُميت بـ”عصر النهضة النووية”.
لكن كانت توقعات توشيبا في غير محلها، فقد كان العالم يُلقي بظلاله بعيدًا عن هذه القوة التي لا يمكن ائتمانها بعد كارثة تشيرنوبيل ثم فوكوشيما، وحتى عندما بدأ الطلب على قطاع الطاقة النووية يرتفع، كانت متطلبات السلامة والأمان المتزايدة، أمرًا شاقًا ومرهقًا إذ فرضت الهيئات التنظيمية التزامات أكثر صرامة وتصاميم مبتكرة ومُكلفة للمفاعلات، الأمر الذي كبّد توشيبا الكثير من الخسائر جراء تلك الأسباب التي جعلت كل شيء يخرج عن نطاق سيطرتها، بما في ذلك التكاليف الإضافية والتأخيرات المرتبطة بمشاريع شركتها ويستينغهاوس في أمريكا.
حاول العملاق الياباني ضخ المزيد من السيولة الخاصة به لإنقاذ الشركة النووية لكن لم يفلح الأمر، وبعد ثلاثة أشهر، أعلنت شركة وستنجهاوس إفلاسها، ما جعل توشيبا تواجه خطر انهيار أعمالها النووية إلى جانب التزامات تزيد على 6 مليارات دولار.
ولكي تتجاوز الشركة تلك الأزمة وتنجو بحياتها، اضطرت إلى بيع بعض أقسامها التي كانت تدر عليها أرباحًا كبيرة بما في ذلك قسم السلع البيضاء (الثلاجات والتكييفات) وقسم الأنظمة الطبية.
وفي عام 2010، لم يلحق العملاق الياباني بالركب وكان منشغلًا بالاستثمار في الطاقة النووية ليفوّت على نفسه فرصة اللحاق بقطار ثورة الهواتف المحمولة الذي قادته كل من آبل ونوكيا، وعندما حاول حفظ ماء الوجه، دخل بقوة وأنفق المليارات على أجهزة التليفزيون ثلاثية الأبعاد وأقراص الدي في دي، لكن العالم كان مشغولًا بقوة بالهواتف الصغيرة الذكية التي تتيح لك تصفح الويب وتشغيل الأغاني والفيديوهات وإجراء المكالمات بكل سهولة.
الأمر لم ينته عند هذا الحد، ففي عام 2011، تعرضت اليابان لموجة تسونامي ضخمة وزلزال قوي هزّ البلاد ليذوب قلب المفاعل النووي لمحطة فوكوشيما النووية، كانت الفوضى تعم البلاد وكاد الأمر يتحول لتشيرنوبل آخر، لهذا قررت الحكومة حينها التخلي عن الطاقة النووية غير الآمنة ومنع أي نشاط لإنتاجها، وهكذا خسر العملاق الياباني غالبية رأس ماله.
تضليل المستثمرين
يمكن القول إن 2015 هو عام تضليل المستثمرين بعدما تم الكشف عن ممارسات محاسبية خاطئة تورط فيها مسؤولون تنفيذيون رفيعو المستوى وامتد الفساد إلى أقسام متعددة داخل الشركة، حيث قامت الإدارة العليا بتقديم تقارير مغلوطة على مدار سبع سنوات مع أرباح وهمية ومبالغ فيها وصلت إلى 1.59 مليار دولار، وأدى تداعيات هذا الفساد الذي ظل يطارد توشيبا لفترة طويلة، ليس إلى تغريمها فقط ملايين الدولارات، لكنه ساهم في تآكل ثقة المستثمرين بالشركة وألقى بظلاله على سمعتها التي كانت أنصع من البياض، ليكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
في أواخر عام 2017، كانت الشركة لا تزال تعاني من أزمات، لكنها استمرت في النضال وحاولت البقاء على قيد الحياة من خلال الاستثمار بقوة في قطاعي التكنولوجيا والابتكار، لكن وجدت الشركة اليابانية نفسها في مهب الريح وعليها بيع أصولها الأكثر قيمة للحصول على السيولة التي تمنحها متسعًا من الوقت.
وهكذا، وافقت على بيع قسم تصنيع شرائح الذاكرة NAND إلى كونسورتيوم (اتحاد يضم مجموعة شركات تقوده شركة باين كابيتال) في صفقة بلغت قيمتها نحو تريليوني ين (18 مليار دولار) كما نجحت في الحصول على تمويل بقيمة 5.4 مليار دولار من مستثمرين أجانب حاولوا بعدها التدخل في أهداف الشركة، الأمر الذي تسبب في حدوث صراع داخل الإدارة، ما أصابها بشلل وجعلها تحيد عن المسار الخاص بها.
وفي عام 2020، تم الكشف عن المزيد من الممارسات المحاسبية الخاطئة، إلى جانب الادعاءات المتعلقة بحوكمة الشركات وعملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بشؤون المساهمين وخداعهم.
وفي عام 2021، كشف تحقيق جديد عن وجود شُبهة تواطؤ بين شركة توشيبا ووزارة التجارة اليابانية، حيث اعتبرت الأخيرة توشيبا إحدى الأصول الإستراتيجية لليابان وحاولت خداع وقمع مصالح المستثمرين الأجانب، وسرعان ما فقد المستثمرون الثقة بالكامل في عملاق التكنولوجيا الياباني وحتى بورصة طوكيو.
ولمدة ثلاث سنوات متتالية، كان الوضع المالي للشركة سيئًا للغاية، حيث بلغ العجز من شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول 2022، نحو 84.6 مليار ين ثم أصبح 131 مليار ين في الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى مارس/آذار 2023 ومنذ أبريل/نيسان وحتى يونيو/حزيران لنفس العام، وصل العجز إلى 103.1 مليار ين.
وبعد أن فقدت الشركة الأمل في النهوض من جديد، تلقت ثمانية عروض للاستحواذ، ليتم الموافقة على عرض من كونسورتيوم (مجموعة من المستثمرين اليابانيين) بقيادة مؤسسة الاستثمار اليابانية (JIP) المدعومة من قبل الدولة.
ويمتلك المالك الجديد، حصة تصل إلى أكثر من ثلثي الشركة اليابانية وبموجب صفقة الاندماج والاستحواذ المبرمة، يتم شطب العملاق توشيبا من بورصة طوكيو بعد 74 عامًا تقريبًا ويتحول إلى ملكية خاصة مع تركيز نشاطه بشكل قوي على الخدمات الرقمية ذات هامش الربح العالي.
هل يمكن أن تنهض توشيبا؟
قد تتساءل هل ستعود توشيبا من جديد للقمة أم ستذهب إلى مقبرة التاريخ كما فعلت نوكيا وموتورولا وياهو وغيرهم؟ والإجابة تتلخص بأن عملاق التكنولوجيا مهم جدًا للحكومة اليابانية حيث توظف أكثر من 100 ألف شخص، كما أن بعض أنشطتها تعتبر بالغة الحيوية للأمن القومي، لذلك سيتم تكريس كل الجهود لمنع توشيبا من الانهيار، إذ يعد فشل الشركة بمثابة كارثة على الحكومة الياباني.
ودعونا لا ننسى السجل الحافل الذي تتمتع به شركة الاستثمار اليابانية JIP في منع انهيار الشركات الضخمة وإعادتها إلى الطريق الصحيح مرة أخرى، وخير مثال ما حدث مع شركة أجهزة الكمبيوتر المحمولة سوني فايو وشركة أدوات التصوير أوليمبوس.
أخيرًا، على الرغم من أن توشيبا هي أول من طورت معدات البث وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وأفران الميكروويف واستطاعت أن تعتلي القمة في قطاع التكنولوجيا لفترة طويلة، فإن قدرتها على التعافي ربما تكون صعبة، إذ إن سوء الإدارة وغياب الشفافية المالية بجانب الحظ السيئ تسببوا في غرق السفينة، ربما إلى الأبد.