في المئة سنة الأخيرة مرّ على مصر حدثان كبيران؛ تسبب كل واحد منهما في تغيير الحالة السياسية بعده إلى وضع غير مسبوق أثر على سلوك مصر كدولة في بنائها الداخلي وعلى المسرح الخارجي، وذلك رغم اختلاف وتشابه الأشخاص والكيانات.
كان الحدث الأول هو حركة الضباط في يوليو 1952، والثاني هو الحراك الشعبي في يناير 2011: جاء الأول بالضباط المصريين إلى الحكم لأول مرة وجاء الثاني بالمدنيين المصريين للحكم لأول مرة في تاريخ مصر الحديث. استمرت دولة الضباط إلى الآن في 2017 حتى أنها تجاوزت ما جرى في يناير 2011؛ بينما لم تستمر دولة المدنيين وربما الحقيقة أنها لم تبدأ أبدا. فأين يكمن السبب؟
أقول: السبب أن السيطرة على مفاصل الدولة أعمق من اعتلاء كراسي مناصبها الكُبرى، وأن إحكام يد الحكام على جهاز الدولة يحتاج لأكثر من وسيلة الوصول إلى الحكم ويتعدى ذلك لوسائل مادية ومعنوية تكون لازمة لبسط السيطرة بغرض البقاء في الحكم ومن ثم نقله إلى أجيال جديدة من الفئة الحاكمة تتربى على مبادئ أرساها أول الحكام الجدد.
وفي ظل دولة لم تعرف الديموقراطية ولا الشورى لفترة طويلة من تاريخها ربما تشمل طوال تاريخها الحديث صارت الديكتاتورية الفرعونية أو الأوليجاركية هي سمة نظام الحكم في مصر.. فتغيب آليات تداول السلطة لتظهر دوما على الساحة آليات السيطرة وبسط النفوذ سواء على الماديات والمعنويات الموجودة في نطاق إقليم الدولة.
بعد كل موجة تغيير تظهر فئة تسود المشهد وعلى رأس هذه الفئة يبرز اسم شخص معين؛ وعلى عاتق هذه الفئة تقع المسؤولية التاريخية: ماذا حفظوا وماذا ضيعوا. وبعد 1952 ظهرت فئة الضباط المصريين وعلى رأسهم عبد الناصر وبعد 2011 ظهرت فئة الإخوان وعلى رأسهم مرسي. «ظهور الفئة» لا يعني أنها نبتت فجأة ولكني أعبر هنا بلفظة الظهور في معنى قيادة المشهد والاشتهار بأنها أكثر الفئات حظا من كعكة الحكم.
ظل كبار جنرالات الجيش الكبار (يبلغ تعداده 468500) يساندون مبارك لما يربو على 30 عاما وكونوا ثروات طائلة نتيجة لتحكمهم في شركات مدرة لأرباح هائلة وفي مجالات واسعة المدى
أساس حقيقة الحكم أنها السيطرة على أجهزة الدولة خاصة جهازها العسكري والأمني وليس مجرد الحصول على الرتبة الرسمية لإدارتها أو تمثيلها وفق ما عرضه ﭼيمس ﭘتراس عن أحداث يناير بقوله: وفيما أن البيت الأبيض قد يتسامح في أن تطيح الحركات الاجتماعية بالحكام المستبدين بل وقد يدعمهم في ذلك مضحيا بهم. إلا أنه يحرص كل الحرص على الحفاظ على أجهزة الدولة. في حالة مصر لم يكن مبارك هو فقط الحليف الاستراتيجي الأساسي لإمبريالية الولايات المتحدة. بل كانت النخبة من القادة العسكريين هم من مضت واشنطون تتفاوض معهم باستمرار قبل الإطاحة بمبارك. وأثنائها. وفي أعقابها. كي تتأكد من أن (الانتقال) إلى الديموقراطية يضمن استمرار تبعية مصر للولايات المتحدة. وضمان أمن إسرائيل ومصالحها.
كانت العقبات الأساسية في الإطاحة بمبارك هو أن قطاعا كبيرا من أجهزة الدولة. وبخاصة قوات الأمن المركزي البالغ عددها 325000، علاوة على 60000 من منتسبي أجهزة أمنية يتبعون جميعا وزارة داخلية مبارك مباشرة. ثانيا. ظل كبار جنرالات الجيش الكبار (يبلغ تعداده 468500) يساندون مبارك لما يربو على 30 عاما وكونوا ثروات طائلة نتيجة لتحكمهم في شركات مدرة لأرباح هائلة وفي مجالات واسعة المدى. من ثم لم يكن لهم أن يدعموا أي (تحالف) شعبي بإمكانه مساءلة ميزانيتهم الاقتصادية وسلطتهم على تحديد النطاقات السياسية لأي نظام منتخب. هذا علاوة على أن القائد العام للقوات المسلحة على علاقة وثيقة بالولايات المتحدة منذ وقت طويل ومتعاون مع إسرائيل عن طيب خاطر.
وعلى أساس أن قرار السماح بالتغيير له تكلفته، فلذلك عندما تتخذه الدول الكبرى في حق دولة عالم ثالث كمصر لابد أن تكون تكلفة عدم التغيير أفدح بكثير في حق المصالح الدولية من تكلفة القدر من التغيير الذي يُسمح به.. وفي حالة 1952 أنقل شهادة محمود شاكر الحرستي المؤرخ السوري الذي عاصرها وكتب عنها أن الغرب سمح بالتغيير في 1952 لأن تكلفة عدم التغيير كانت هي سيطرة الإسلاميين والغرب لا يحبذهم بل يعاديهم فاختار إزاحة الملك ومن ثم إزاحة الإسلاميين أنفسهم بعد كشف الغطاء عنهم وإضعافهم؛ قال شاكر: “كان التنظيم الإسلامي في مصر قد نشط بشكل الأسرة في الشعبة… وبدأت «هيئة التحرير» العمل وتم إعلانها وهي حزب شعبي للجيش ومعه «منظمة الشباب».. بعض الإخوة دخلوا هيئة التحرير وأنا لم أدخل لتضييق المنزل عليَّ طول الوقت في الشعبة وغيرها، ولم يكن تشجيع من الإخوان على دخول هيئة التحرير”.
عبد الناصر لم يبدأ السيطرة على مصر من إحكام قبضته على مفاصل الدولة بعد إزاحة الملك، ولكن بدأ ذلك مبكرا عبر إحكام قبضته على تنظيم الضباط الإخوان
ثم نشأ «الحرس الوطني» وعلى رأسه كمال الدين حسين، وأغراني ما فيه حركة، فانضممت لمنظمة الشباب ثم الحرس الوطني، وفي نهاية المعسكر استدعاني الصاغ وسألني عن الدراسة والوالد، وقال: “سأعرض عليك عرضًا أن تعمل معنا، تبقى في دراستك وأنا سأرصد لك مرتبا 17 جنيها، وكان مسؤولا عن «مديرية التحرير» وهو مشروع تعمير الصحراء وأراد ضمِّي له على أن يأتيني المرقوي بعد الحرب العالمية الثانية، بل وانتقل منها إلى كثير من البلدان الإسلامية، واتخذ الأعداء كل وسيلة للحد من نشاطه.
ومن هذا المنطلق قرر الأعداء تشتيت المسلمين الملتزمين وتشريدهم، ووضع المخطط لذلك، وبدأ التنفيذ، أعطيت الإشارة للحكومة العسكرية بالهدف فلم يلبث أن وقع الخلاف بين العسكريين والتنظيم الإسلامي. وإذا كان قصد المنفذين تفريغ ما يحملون من حقد شُحنوا به، وتحقيق بعض المغانم والغرائز، وإثبات الشخصية، والمحافظة على الموقع، فإن من في الخارج كان يهدف إلى إخافة الكثيرين من المسلمين وإلقاء الرعب في نفوسهم، كي يهربوا من البلاد، ويشتت شملهم، ويُشردوا على وجوههم.
وإذا كانت المقطوعة السابقة تحققت أيضا في 2011 و2013 فها هو محمود شاكر في كتاب آخر يوضح طبيعة أداة السيطرة التي يستخدمها الغرب في حفظ مؤسسات الدولة لصالحة دوما وهم العسكر؛ قال رحمه الله: “لذا ليس غريبا أن يفكر العسكريون في كثير من الأحيان في السيطرة على مقدرات البلاد والتسلط عليها… ولكن تقف عادة في وجههم الأنظمة التي تحول دون ذلك أو تمنعهم من القيام بما يريدون… فإذا ما تضعضعت تلك الأنظمة أو تهلهلت لضعف القائمين عليها، أو لضعفها بالأصل، وقد تكون كلتا الحالتين معا، عندها يقومون لتنفيذ ما يحلمون به، ولذا فإن أكثر ما نجد تسلط هؤلاء الجهال إنما يكون في البلدان المتخلفة، أو ذات الأنظمة المرقعة، والتي لا استقرار فيها، او التي يعمل الساسة فيها لمصالحهم لإبراز أحد العسكريين كثيرا، فإذا برز لابد له أن يتحرك في مثل هذا الاتجاه مهما كانت الأنظمة”.
وعلى هذا الأساس والمقياس يمكننا أن نعرف هل سيطر العسكريون على الدولة في 1952؟ وهل سيطر المدنيون عليها في 2012؟ أم لا. وما وسائل تلك السيطرة. وسأعرض ذلك في 3 مقالات متتالية هذا أولها.
نجاحات في مواجهة إخفاقات
الصعود على أكتاف الأوفر حظا من التغيير القادم
وفق معاصرين لما قبل يوليو 1952 فإن عبد الناصر لم يبدأ السيطرة على مصر من إحكام قبضته على مفاصل الدولة بعد إزاحة الملك، ولكن بدأ ذلك مبكرا عبر إحكام قبضته على تنظيم الضباط الإخوان داخل الجيش والشرطة وهم رجالات «التنظيم الخاص» في المؤسسة العسكرية وأنقل هنا شهادة «محمد مهدي عاكف» مرشد الإخوان الأسبق وقائد العمل الفدائي في القناة لفترة ليست قصيرة قبل حركة الضباط؛ قال: [عبد الناصر كان من الإخوان وأكل في بيتنا وبيت «حسني عبد الباقي». و«كمال حسين» كان لا يتركني ولا أتركه. و«عبد الحكيم عامر» كان جاري وحبيبي.. ولا أحد منهم ينكر هذا حتى «السادات» و«خالد محي الدين».. كانوا يحجون إلى الإخوان المسلمين ويتعاملون معها لأنها «أمل الأمة» كما يقولون.
بعد نجاح الصعود على أكتاف جسد الإخوان بدأ عبد الناصر يعلو بنفسه فوق رأس هذا الجسد وبالتوازي يكوِّن جسدا آخر يتبعه ويضم إليه من استماله من الجسد القديم
الحقيقة أنه لم يكن هناك ثورة: الشعب هو الذي قام بهذه الحركة.. واقع الأمة كان ناقما على الملك ورجال الملك وعلى الأحزاب، وكانت الجامعة تنطق بهذا بصوت عال والشارع ينطق.. الذي قام بالثورة هو الشارع المصري وليس رجال الجيش ولا الإخوان.. فلما تصدر له قادة الجيش وقادوه صار وراءهم.. لو لم يكن الشعب وراء قائد الجيش لم يكونوا ليفعلوا شيئا.. أما الجيش قام بغرض تافة يتعلق بنادي الضباط وكان اسمها حركة مباركة.. ونحن مع الشعب نريد التغيير.. لكن لاأحد يعطي لنفسه أهمية خاصة، الشعب هو صاحب الأهمية.. لو لم يكن للشعب الإجماع على التغيير لم يستطع أحد أن يفعل شيئا.
أي أن عبد الناصر انتقى أوفر الفئات حظا في وراثة الملك وقرر أن يكون منها ثم قرر أن يسيطر عليها لأنها هي الوسيلة المثلى للسيطرة بعد زوال الملك.
بعد نجاح الثورة.. إغراءات وتربية جيل جديد
وبعد نجاح الصعود على أكتاف جسد الإخوان بدأ عبد الناصر يعلو بنفسه فوق رأس هذا الجسد وبالتوازي يكوِّن جسدا آخر يتبعه ويضم إليه من استماله من الجسد القديم.. فانطلق يغري رجالات الإخوان بالمناصب وانطلق ينشيء أجهزة أمنية وعسكرية في إطار شعبوي يجند بها الشباب من كافة الاتجاهات ليكونوا رجاله وصار يشتريهم بأموال ينفقها عليهم تحت ستار المشروعات القومية التي أطلقها وسحر بها أعين الناس وملأ عقولهم بالأحلام والآمال.
وفي هذا أثبت شهادة طويلة أدلى بها «إبراهيم منير» عضو مكتب لندن بجماعة الإخوان؛ يحكي فيها عن إغراءات وكيانات 1952؛ قال: “وما عشته أنا في نهاية 1952.. مجلس قيادة الثورة أعلن عن معسكرات تدريب الشباب، وكانوا 2 أو 3 على مستوى الجمهورية وكنت سريعَ الحركة مُقبلًا على أي عمل فذهبت دون استئذان من الجماعة… ولم يستنكر الإخوة في تب من مديرية التحرير! وكان المبلغ أكبر من مرتب أبي، وخريج الجامعة كان مرتبة 12 جنيها! أدار المبلغ رأسي إضافة إلى أنه كان من بين العروض يعطيني بطاقةً (أبونيه) أركب كل المواصلات مجانا داخل القاهرة”.
كان عُرض على الجماعة أن تشارك في الوزارة بـ3 وزراء، ورفضت الجماعة وكان قد حُجِّم محمد نجيب وصار عبد الناصر رئيس وزراء… كانت الثورة اختارت ناسا معينين من الإخوان للوزارة ورفض المرشد.
وقَبِل «أحمد حسن الباقوري» أن يكون وزير أوقاف فزاره الهضيبي مجاملةً حتى لا يقطع بينه وبينه لكن قال: “أن تكون وزيرا فلن تكون من الإخوان”، فقال “استقلتُ من مكتب الإرشاد، فقال “حتَّى من الجماعة”.
وبعد هذا العرض عن الكيانات والحاضنات التي ربى فيها عبد الناصر رجالاته الجدد وما استماله من كوادر الإخوان وغيرهم بإهدائهم مناصب الدولة؛ دعني أركز على رجالاته الذين رباهم في حواضنه وأني شهدت شخصيا على كثير منهم في أوائل الألفينات صاروا وكلاء وزارات كبارا في المصالح الحكومية مثل الضرائب والجمارك وكذلك رؤساء جامعات بحيث بدؤا السلم في الجهاز الإداري للدولة والجهاز التعليمي والتربوي وأصبحوا هم من يديرونه.. في وظيفة الحفظة والسدنة والكهّان الذين أبقوه في حوزة العسكر ليتجاوزوا موجة المد المدني في 2012 ويعيدوا تسليمه إلى عسكر عبد الناصر ثانية في 2013.
مرسي حين اعتلى كرسي الرئاسة في 2012 لم يع ذلك الدرس ولم يوجه مثلا بقبول دفعة ضباط متخصصيين من أبناء الثورة وناشطيها في الجيش والشرطة
وفي الحقيقة فإن تلك الخطة ذات النفس الطويل التي مارسها عبد الناصر مع الجهاز الإداري للدولة هي الخطة التي دفعت به إلى الجيش.. حيث كان هو ورجال مجلس قيادة الثورة من أوائل الضباط المصريين المقبولين في الكلية الحربية بعد معاهدة 1936 وكانوا هم بذرة السيطرة التي نبتت في الجيش من وقتها لفئة العسكر المصريين ودولة الضباط القادمة.. فكرر عبد الناصر التجربة التي يعيها جيدا وعايشها وكان هو من ثمراتها اليانعة.. كررها عن وعي وعلى نطاق واسع ليحفظ دولته التي بناها.
بينما مرسي حين اعتلى كرسي الرئاسة في 2012 لم يع ذلك الدرس ولم يوجه مثلا بقبول دفعة ضباط متخصصيين من أبناء الثورة وناشطيها في الجيش والشرطة والتي كان يمكنها إذا حصلت على تدريب كاف لمدة 6 أشهر فقط أن تحفظ سيطرته وجماعته على الحكم أمام الانقلاب عليها في 2013. هذا الدرس وعته حماس بإنشاء جهازها الأمني الخاص في غزة فور فوزها بالانتخابات وهو الجهاز الذي حماها من انقلاب دحلان وحفظ لها سيطرتها على القطاع حتى الآن في 2017 وهذا الدرس وعاه أردوغان فشهود العيان يتحدثون عن جهاز أمني متكامل رجاله يرتدون الزي المدني كان هو من يقود التظاهرات ضد انقلاب العسكر في العام الماضي حتى عادت الديموقراطية تحكم تركيا في ساعات.
ونستعرض مزيدا من النجاحات والإخفاقات في المقالة القادمة إن شاء الله.