منذ بدء الأزمة الخليجية بإقدام بعض الدول الخليجية، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، على اتخاذ بعض الإجراءات التي وصفت “بالمقاطعة” تارة، و”بالحصار” تارةً أخرى، والمواطن العربي المتابع للأحداث لا زال يقف حائراً، يبحث عن قانونية الإجراءات المتخذة، واسمها الصحيح، حصار أو مقاطعة، وفقاً للقانون الدولي.
وفقاً لقاموس القانون الدولي، تُعرف المقاطعة على أنها “رفض التعامل مع دولة ماK ويتم ذلك عبر قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيضها لأقل مستوى، وإقفال الحدود أمام هذه الدولة ومواطنيها”. وتأتي المقاطعة في إطار “الإجراءات القانونية” للدول التي ترى في دولة ما أنها تُشكل انتهاكاً لسيادتها وأمنها القومي.”
أما الحصار “فهو إحاطة دولة ما إحاطة تامة بحراً وجواً وبراً ومنع أي اتصال تجاري أو خارجي بها.” وفي إطار المواثيق الدولية والعرف القانوني، لا يحق لأي بلد إعلان “قرار الحصار”، إلا عبر قرار صادر عن مجلس الأمن.
في الحقيقة، يكاد اعتبار الإجراءات المتخذة ضد قطر “حصاراً جزئياً” أقرب للصواب القانوني؛ لأنّ الدول أحاطت قطر إحاطة كاملة براً وجواً من ناحية حدودها البرية والجوية المشتركة مع قطر، ولم تركن إلى قرار دولي في اتخاذ هذه الإجراءات.
وسواء أكانت الإجراءات “حصاراً جزئياً” أو “مقاطعة”، فإن هناك ثلة من المواد الموجودة في المواثيق الدولية، توضح أن الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل بعض الدول الخليجية ضد قطر غير صائبة من ناحية قانونية:
ـ المادة 33 من الفصل السادس للأمم المتحدة: تقضي هذه المادة “بضرورة حل أي نزاع عبر المفاوضات والتحقيق والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية”. لكن، الدول الخليجية أقدمت على إجراءاتها من دون المرور بتلك الخيارات “القانونية الشرعية” المطروحة.
ـ المادة 34 من ذات الفصل: تنص على “ضرورة إخطار مجلس الأمن بانتهاكات دولة ما، ليقوم بفحص صحة الادعاءات.” لكن، الملاحظ في مسار الأزمة الخليجية، أن الدول الخليجية اتخذت إجراءات من دون إخطار مجلس الأمن بطبيعة “انتهاكات” قطر ومدى صحتها. ولم يقف الأمر على ذلك، بل لا زالت تلك الدول، حتى الآن، مستمرة في عدم تقديم توضيحات ودلائل ملموسة تؤيد ادعاءاتها.
ـ المادة 37 من ذات الفصل أيضاً: تفرض هذه المادة على الدول “عرض أسس النزاع على مجلس الأمن، وعلى أساسه يوصي مجلس الأمن بما يراه مناسباً.” وتُعد هذه المادة قريبة إلى حدٍ ما إلى المادة 34.
ـ المادة 55 من الفصل التاسع للأمم المتحدة: تؤكد المادة المذكورة على ضرورة أن يكون هناك تعاون دولي اقتصادي واجتماعي، في سبيل أن “يشيع احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للجميع”. ويأتي طرد المواطنين القطريين الذين هم مواطنون لدولة مشتركة في إطار تعاوني إقليمي اقتصادي واجتماعي يحمل اسم “مجلس التعاون الخليجي”، بشكل مفاجئ خرقاً سافراً لهذه المادة. كما أن فرض عقوبة السجن على من يُبدي تعاطفا مع ولو بكلمة، يعد أيضاً اختراقا سافرا لهذه المادة، وغيرها من مواد رعاية حقوق الإنسان.
قطر شعرت أن مطالب دول الخليج تمس بسيادتها الإقليمية، فيمكن لها حماية حقوقها واستردادها عبر التحالفات الإقليمية، كالتحالف مع تركيh
ـ المادة 75 من الفصل الثاني عشر من ميثاق الأمم المتحدة: يشمل الفصل المذكور أسس نظام الوصاية الدولي. وعند النظر في مطالب الدول الخليجية التي قُدمت لقطر، لتنفيذها وتحقيق المصالحة، بدون مجاملة لأي أحد، نُلاحظ أنها ترمي، وبلا أدنى شك، إلى فرض نظام وصاية على قطر. فضلاً عن أن المادة 75 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أن الوصاية لا تتم إلا عبر الأمم المتحدة، وبعد انتهاء موجات استقلال الدول، بات العُرف الدولي يُحرم فرض الوصاية بشكل قاطع.
ـ المادة 7 من ميثاق المحكمة الجنائية الدولية: بالنظر إلى البند “ح” من المادة بنسختها العربية، نجد أن المادة تُحرم اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان. وينبثق حق إقامة المواطنين القطريين في السعودية والدول الخليجية الأخرى، من ميثاق “مجلس التعاون الخليجي”، بمعنى أنهم يقيمون في الدول الخليجية وكأنهم مجموعة من المواطنين. وما حدث لهم من طرد وخسائر يأتي في إطار الاضطهاد المذكور في المادة أعلاه. إلى جانب ذلك، يعتبر البند المعني فرض الحصار، سواء أكان جزئياً أو كلياً، أحد أوجه العدوان غير الشرعي.
ـ المادة 4 من ميثاق مجلس التعاون الخليجي: تحدد هذه المادة أهداف المجلس، والتي من ضمنها “تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وتعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون القائمة بين شعوبها في مختلف المجالات”. غير أن المتأمل في الإجراءات التي قامت بها بعض دول الخليج ضد قطر، يجد أنها تمثل انتهاكات صارخة بحق هذا الميثاق.
ـ المادة 9 من ذات الميثاق: تشدد هذه المادة على “ضرورة حل النزاعات والمسائل الموضوعية بالإجماع”. ربما لم يحدث اجتماع على مستوى الدول الأعضاء في المجلس قبل اتخاذ القرار الخاص بالإجراءات المشهودة، إلا أن إقدام ثلاثة دول على تنفيذ هذه الإجراءات، وامتناع دولتين، عُمان والكويت، عن تنفيذها، يمكن اعتباره مخالفةً لهذه المادة التي تفرض الإجماع.
قطر استخدمت حقها في “الحماية الدبلوماسية”، والتعاقد مع لجنة قانونية لاسترداد تلك الحقوق
ـ المادة 10 من ذات الميثاق: تنص على حل الخلافات والنزاعات بين الدول الأعضاء في إطار “هيئة تسوية النزاعات”. وفي استباق بعض الدول الخليجية لهذا الإجراء، اختراق غير قانوني.
ـ مخالفة مبدأ الشفافية الذي ينص على “ضرورة الالتزام بعدم فرض قيود غير تعريفية لتقييد الواردات إلا في حدود معينة”، بالإضافة إلى مبدأ التقييد الكمي للتجارة الذي يقضي “بإمكانية فرض قيود على التبادل التجاري بين الدول، في حين وقعت أزمة في ميزان المدفوعات، أو انخفاض جسيم في الاحتياط النقدي فقط”، واللذين يُعتبرا من أهم مبادئ ميثاق منظمة التجارة العالمية. أما الدول الخليجية فلم تلتزم بمبدأ الشفافية، وأقدمت على فرض قيود على التبادل التجاري من دون وجود أزمة في ميزان المدفوعات أو انخفاض جسيم في الاحتياط النقدي.
إذن، توضح هذه المواد هائلة الكم أن الدول الخليجية المعارضة للسياسة الخارجية لقطر، اتخذت إجراءات غير قانونية أضرت بقطر كدولة ذات سيادة، وبمواطنيها كأشخاص كانوا يعملون في السعودية في أطر قانونية متعددة.
وعلى اعتبار أن الدولة القومية هي كيان سياسي وقانوني مستقل يتألف من السيادة والشعب والإقليم الجغرافي، فذلك يعني أن الدولة القومية من حقها حماية إقليمها ومواطنيها “الشعب” وسيادتها السياسية المستقلة من أي مساس أو اعتداء. تنقسم سيادة الدولة إلى ثلاثة نقاط:
ـ السيادة الإقليمية: تعني سيادة الدولة في جوها وبرها ومياهها الإقليمية. وتُلمس من خلال حفاظ الدولة على أمنها في إقليمها، واتخاذها قرارها السياسي بشكل مستقل.
ـ السيادة المنظمية أو المؤسساتية: تُشير إلى سيادة الدولة على سفاراتها وقنصلياتها المتواجدة في الدول الأخرى.
ـ السيادة المرتبطة بالمواطنين: ترتبط بحق الدولة في حماية مواطنيها في الداخل والخارج. وتُوصف حماية المواطنين في الخارج باسم “الحماية الدبلوماسية”. فإذا كان حق الدولة في حماية إقليمها من أي اعتداء هو من الحقوق المستقرة في القانون الدولي، فإن من حقها أيضاً حماية شعبها، والدفاع عن حقوقه في الدول الأخرى.
وقد تم تأكيد حق الدولة في “الحماية الدبلوماسية”، عبر قرار المحكمة الدائمة للعدل الدولي الصادر في 30 آب/أغسطس 1924، والمتعلق بقضية “مافروماتيس”، والذي شكل نزاعاً بين “بريطانيا واليونان” في شأن قضية عقود الامتياز الممنوحة في فلسطين. نص القرار في حينها على التالي: “من المبادئ الرئيسية في القانون الدولي أن كل دولة لها الحق في حماية مواطنيها إذا لحقتهم اضرار نتيجة لما يصدر عن الدول الأخرى من أعمال تخالف أحكام القانون الدولي، وذلك إذا لم يستطيعوا الحصول علي الترضية المناسبة عن طريق الوسائل القضائية الداخلية. والدولة إذ تتبني قضية أحد مواطنيها، وتلجا في شأنها إلي الطريق الدبلوماسي أو إلي الوسائل القضائية الدولية، فإنها، في واقع الأمر، إنما تؤكد حقها هي، أي حق الدولة في أن تكفل لمواطنيها الاحترام اللازم لقواعد القانون الدولي. وإذا حدث أن تقدمت إحدى الدول، نيابة عن أحد مواطنيها، بقضية ما إلي محكمة دولية، فإن هذه الدولة وحدها هي التي تعتبر في نظر المحكمة التي ترفع إليها الدعوى الجهة المطالبة بالتعويض.
ومن جانبها، أيدت محكمة العدل الدولية في قضية “ليشتنشتاين وغواتيمالا”، 6 نيسان/أبريل 1955، ما انتهت إليه محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية “مافروماتيس”، مؤكدةً أن الحماية الدبلوماسية تعتبر حقاً من الحقوق غير المجتزأة للدولة، مشيرةً إلى أن “الحماية الدبلوماسية تُشكِل، عن طريق الوسائل القضائية، إجراءات للدفاع عن حقوق الدولة”.
وفي قضية “برشلونة للقوى المحركة”، عام 1970، أشارت محكمة العدل الدولية إلى أن “للدولة الحرية التامة في تقديرها لممارسة الحماية الدبلوماسية، ومدى نطاق هذه الحماية، ومتى ينتهي آجلها”.
وباعتبار أن قطر شعرت أن مطالب دول الخليج تمس بسيادتها الإقليمية، فيمكن لها حماية حقوقها واستردادها عبر التحالفات الإقليمية، كالتحالف مع تركيا، أو المفاوضات التي تعتبر الحل الأسرع والأقرب للتنفيذ، أو التحكيم، أو التسوية القضائية. وعلى اعتبار أن السيادة المؤسساتية لقطر لم تتعرض لانتهاك، تُلفت الأنظار نحو السيادة المرتبطة بالمواطنين التي انتهكت بشكل صارخ، نتيجة طرد المواطنين القطريين وحرمانهم من حقوقهم، الأمر الذي دفع قطر لاستخدام حقها في “الحماية الدبلوماسية”، والتعاقد مع لجنة قانونية لاسترداد تلك الحقوق.
هناك جهات عدة يمكن لقطر التوجه إليها للمطالبة بحقها في “الحماية الدبلوماسية لمواطنيها”:
ـ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: عادةً تنظر في قضايا مواطني الدول الأعضاء أو الدول المفاوضة لتصبح عضواً. لكن بتعاون قطر مع لجان حقوقية أوروبية قد تحصل على قرار توصية أو استشارة تستند عليه كوثيقة قانونية يمكن تقديمها لمحكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن بشكل مباشر، أو عبر منظمة اليونسكو، كونها منظمة مُخولة من الأمم المتحدة لتنمية المشاريع التي تصب في صالح حماية حقوق الإنسان، كما أن كونها منظمة مُخولة يُعطي القرار القضائي إمكانية أسرع وأوسع للوصول إلى مجلس الأمن ومناقشته بشكلٍ أقرب ما يكون ليصدر لصالح الدولة صاحبة القرار.
ـ محكمة العدل الدولية: تنبع صلاحية المحكمة الدولية من منح الدولتين لها الصلاحية. وتنبثق الصلاحية عن موافقة الدول المتنازعة للذهاب إلى المحكمة، أو بمقتضى شرط الاختصاص المعتمد على اتفاقية مسبقة، وفي حالة قطر يمثل ميثاق مجلس التعاون الاتفاقية المسبقة. في حين أصدرت محكمة العدل القرار، ولم تذعن الدول الجانية للقرار، تتجه الدولة صاحبة القرار إلى مجلس الأمن الذي يصدر بدوره قراراً يفرض على الدول الأخرى الإذعان، ويرفع القضية، أحياناً بشكل غير رسمي، إلى البعثات الدبلوماسية ذات النفوذ على الساحة الدولية، كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، أو اللجان المختصة لمتابعة القرار.
تتعدد سيناريوهات الرفض أو القبول بالقرارات، ولكن المحدد الأساسي لهذه السيناريوهات هو نوعية مسار التفاوض والتوافق الذي سيجمع بين الأطراف المتنازعة في الأيام المقبلة
ـ المحكمة الجنائية الدولية: خيار قد يكون غير مطروح على جدول اللجان الحقوقية القطرية، كون المحكمة الجنائية الدولية تنظر في قضايا الحرب والعدوان، بمعنى تنظر في قضايا خطيرة وتمس بشكل حساس في سمعة الدول. وإن كانت الحكمة الجنائية تنظُر في قضايا العدوان، لا يُتصور أن تصعد قطر موقفها لهذا الحد.
ـ التحكيم: يقوم التحكيم على اتفاق الطرفين رفع القضية إلى لجنة دولية قضائية يختارون قضاتها، ويمنحونهم الصلاحية للنظر في النزاع القائم.
ـ المحاكم الوطنية: وهي تلك المحاكم السعودية أو الإماراتية أو البحرينية التي تنظُر في قضايا الأجانب، والقضايا الدولية.
بعد التجاء قطر إلى المحاكم الدولية على وجه الخصوص، قد يتمخض عن ذلك الاحتمالات التالية:
1ـ كسب قطر القضايا، واضطرار الدول الخليجية الأخرى لدفع التعويضات المنصوص عليها: ظهر هذا السيناريو للسطح عام 2003، حينما قبلت تركيا بدفع تعويضات للمواطنة القبرصية اليونانية “تيتنا لوزيديو” التي رفعت دعوى، عام 1989، إلى المحكمة الأوروبية تطالب بها تركيا تعويضها عن خسائرها الشخصية، نتيجة اضطرارها للانتقال إلى الطرف الجنوبي من جزيرة قبرص، عندما تدخلت تركيا عسكرياً عام 1974. تأخرت تركيا في الاستجابة للقرار الذي صدر عام 1996، ولكنها رغبت في تنفيذه، بغية تسريع عجلة المفاوضات والتوافق.
2ـ رفض الحكومات المحاصرة للقرارات الدولية: ظهر هذا السيناريو في روسيا، حينما أصدر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، منتصف عام 2016، قراراً يرفد المحكمة الدستورية بحق رفض القرارات الصادرة عن المحاكم الدولية. وقد أقدم بوتين حينها على اتخاذ هذا القرار، بعد تلويح بعض الدول واللجان بتقديم دعاوي تستنكر التدخل الروسي في القرم وشرق أوكرانيا، وتطلب تعويضات للمتضررين.
3ـ رفض أو قبول مجلس الأمن: تنص المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، على أن “مجلس الأمن هو من يقرر ما إذا كان هناك خرق للحقوق أو إذا كان هناك عدوان”، وهنا دلالة على أنه قد تقنع الدول المحاصرة إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لرفع “الفيتو” ضد أي قرار يدينها. ولكن، ركوناً إلى الأجواء الدولية، يبدو أن الدول الخمسة تساند قطر في موقفها، نظراً لحجم المصالح المتشابكة، وقوة الدبلوماسية القطرية العامة مقارنة بالدول الأخرى.
في الختام، قد تتعدد سيناريوهات الرفض أو القبول بالقرارات، ولكن المحدد الأساسي لهذه السيناريوهات هو نوعية مسار التفاوض والتوافق الذي سيجمع بين الأطراف المتنازعة في الأيام المقبلة. فهذا المسار يُشكل مفتاح الحل، وإن كان إيجابياً حازت قطر ومواطنيها على حقوقهم، وإن كان سلبياً حُرموا من حقوقهم.