مع مطلع العام الجديد، ودّعت سوريا شيخ معارضيها وأحد أبرز مناضليها ضد الاستبداد والديكتاتورية رياض الترك، الذي يطيب لمحبيه تلقيبه بـ”مانديلا سوريا”، عن عمر ناهز الـ 93 عامًا، قضى أكثر من 20 عامًا منها في معتقلات الأسدَين، حيث نشرت ابنته نسرين الترك على صفحتها في فيسبوك، رسالة نعت فيها والدها قائلة: “وداعًا والدي الغالي رياض الترك”.
رياض الترك من مواليد مدينة حمص عام 1930، عاش سنوات طفولته الأولى في دار أيتام تابعة للجمعية الإسلامية الخيرية في حمص، درس في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وحصل على إجازة في المحاماة عام 1958.
حياته السياسية
بدأ الترك مسيرته السياسية باكرًا التي كان في أغلبها معارضًا لأنظمة الحكم في سوريا، التي تعاقبت على البلاد بعد الاستقلال عن فرنسا في منتصف أربعينيات القرن المنصرم، وكان عمره لا يتجاوز الـ 22 عامًا عندما أُلقي القبض عليه لأول مرة عام 1952 بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي، وظلَّ رهن الاعتقال لمدة عدة أشهر تعرّض خلالها للتعذيب.
وفي عام 1960 اُعتقل مرة أخرى وتعرض للتعذيب، وكان السبب هذه المرة هو معارضته الوحدة بين سوريا ومصر في أوج حركة القومية العربية التي قادها الرئيس المصري حينها جمال عبد الناصر، وذلك بحسب ما يرويه في كتاب “رياض الترك.. مانديلا سوريا” للكاتب لطفي حداد، بعد ذلك واجه السجن والتعذيب في عدة مناسبات، وغادر البلاد عند وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1963، ثم عاد عام 1965.
اُنتخب في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969 عضوًا في المكتب السياسي، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات بينه وبين الأمين العام للحزب خالد بكداش، حول العديد من القضايا الفكرية والسياسية والتنظيمية.
عارض الترك قرار الحزب الشيوعي السوري عام 1972 بالانضمام إلى الجبهة الوطنية التقدمية، وهي ائتلاف مؤلّف من منظمات متحالفة مع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، ثم انشقّ بعد عام ليشكّل الحزب الشيوعي السوري المنشق (المكتب السياسي).
كلفته مواقفه السياسية المعارضة للاستبداد والداعية إلى بناء دولة ديمقراطية 20 عامًا في معتقلات نظام الأسد (الأب والابن)، وفي عام 2005 أعلن الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، جناح رياض الترك، تغيير اسم الحزب إلى حزب الشعب الديمقراطي، وفي العام نفسه دعا الترك بشار الأسد ومجلس الوزراء إلى الاستقالة وتشكيل حكومة انتقالية.
كما كان أحد الموقعين البارزين على “إعلان دمشق” عام 2005، الذي صدر بمبادرة من مجموعات معارضة سورية للمطالبة بالتغيير الديمقراطي في سوريا، وشهد توقيع عدد من الأسماء السياسية والثقافية والأكاديمية الشهيرة حينها.
18 عامًا في سجون الأسد الأب
ويعدّ السياسي الراحل أحد أشد المعارضين للنظام خلال عهد حافظ الأسد، حيث دفع ثمن معارضته نحو 18 عامًا من عمره قضاها داخل زنزانة منفردة دون محاكمة في سجون الأسد الأب، بسبب انتقاده لنظام الأسد وحزب البعث عام 1980، وبشكل خاص الأسلوب الأمني الذي اتّبعه النظام لقمع الإسلاميين وقتها.
ونتيجة لتلك المواقف، وبسبب عضويته في الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، اُعتقل الترك وبقيَ في السجن نحو 18 عامًا دون محاكمة، حتى أُطلق سراحه عام 1998 بعد أن أنهكه المرض.
وقد عانى الترك من مشكلات صحية خطيرة، من بينها داء السكري وأمراض في القلب والكلية أثناء فترة السجن، بسبب تعمُّد النظام إهمال حالته الصحية، وفي لقاء عبر برنامج “المشهد” على شبكة “بي بي سي” عام 2020، تحدث الترك عن قضاء تلك الأعوام الـ 18 في السجن الانفرادي، قائلًا إن حافظ الأسد لم يسجنه لوجود شيء شخصي، بل ببساطة “لأنه يسجن كل من يعارضه حتى لو كان أقرب الناس إليه”.
من السجن الصغير إلى السجن الكبير
وفي 17 يناير/ كانون الثاني 2000، قال الترك في أول حوار سياسي بعد عام ونصف على إطلاق سراحه لصحيفة “الحياة”: “خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير، وعلينا جميعًا أن نسعى إلى فتح أبوابه”.
وأضاف في الحوار نفسه: “لم يبقَ للمجتمع إلا الصمت ليعبّر من خلاله عن وجوده وعن رفضه للوضع القائم، إذًا الصمت هنا موقف، لكن هذا الصمت لا يمكنه أن يدوم إلى ما لا نهاية، ولا بدَّ للمجتمع بقواه الحية من أن يفرز تعبيرات جديدة تنتمي إلى عالم البيانات والمواقف العلنية والفعل”.
وقبل يومَين من خطاب القسم الرئاسي لبشار الأسد أثناء توليه السلطة بدمشق، نشر رياض الترك في ملحق جريدة “النهار” مقالته المعنونة: “من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت”، وانتقد فيها تفصيل تعديل الدستور ليناسب عمر الرئيس الجديد.
واستمر “ابن العم”، كما يحلو لبعض السوريين أن ينادوه، في التعبير عن معارضته للاستبداد، والدعوة إلى الانتقال إلى الديمقراطية عن طريق التوافق السلمي، إذ صرّح بهذه الأفكار في محاضرته في منتدى جمال الأتاسي بحضور حشد كبير من الناس، في 5 أغسطس/ آب 2001.
بعد ذلك أُعيد اعتقاله في مطلع سبتمبر/ أيلول 2001، وبدأت محاكمته أمام محكمة أمن الدولة العليا في 28 أبريل/ نيسان 2002، في جلسة علنية حضرها عدد من الصحفيين والدبلوماسيين المعتمدين في دمشق، وانتهت المحاكمة يوم 26 يونيو/ حزيران 2002 بالحكم عليه بالسجن سنتَين ونصف السنة، بتهمة الاعتداء على الدستور وإلقاء الخطابات بقصد العصيان وإثارة الفتنة، ونشر أنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة ونفسيتها.
وأُفرج عنه لاحقًا في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، وشاعت آنذاك في دمشق تسميته بـ”مانديلا سوريا”، لتشابه الفترة التي قضاها في السجون مع فترة المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا.
شجاع سوريا
واشتهر الترك بشجاعته وصراحته في مواجهة الديكتاتورية، عندما قال في مقابلة مباشرة من دمشق مع قناة “الجزيرة”، تعليقًا على وفاة حافظ الأسد عام 2000: “مات الديكتاتور”، واشتهر أيضًا بعبارة “الولد ما بيعمر بلد” التي قالها عام 2005 منتقدًا بشار الأسد.
وعن هذه الصفات، يقول صديقه ياسر العيتي رئيس تيار سوريا الجديدة: “من خلال تجربتي معه في “إعلان دمشق”، كان شديد الالتزام بالعمل والاجتماعات رغم كل الأمراض التي كان يعاني منها وكبر سنه، إلا أنه كان حاضر الذهن شديد الذكاء، عقله عقل شاب، وكان واضحًا من خلال نشاطه أن سنوات سجنه لم تؤثر على ذكائه وإرادته”.
ويكمل العيتي حديثه لـ”نون بوست” بالقول: “كان “ابن العم” يوصف برجل المبادئ الذي أفنى حياته دفاعًا عنها، كما كان مقدامًا لا يهاب المغامرة، وكان يلفت نظر الناس حوله بتوقد ذهنه”.
ووصف ناشطون سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي الترك بـ”شجاع سوريا”، والمناضل السوري الكبير الذي سيذكره “السوريون كلما تحدثوا عن الشجاعة، وكلما داعبهم الأمل في أحلك اللحظات”.
رياض ترك والثورة السورية
بعد قيام ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، تفاءل رياض الترك بقيام الثورة السورية، حيث عبّر عن ذلك بمقال قال فيه: “نعم، سوريا الله حاميها، لأنها باقية بشعبها وجيشها ودولتها. أما الاستبداد فإلى زوال، قصر الزمن أو طال، وإن غدًا لناظره قريب”.
ومنذ انطلاقة الثورة السورية أعلن الترك تأييده للمعارضة السلمية، موضحًا أن “النظام فقد مصداقيته وعليه أن يرحل”، وقال في تصريح عام 2011: “إن ثورتنا سلمية شعبية ترفض الطائفية، والشعب السوري واحد، لا تنازل ولا تفاوض حول الهدف المتمثل بقلب النظام الطاغية”.
وكان الترك من مؤسّسي المجلس الوطني السوري، الذي تشكّل في إسطنبول ليمثل فصائل المعارضة السورية، وتولى رئاسته في فترة 2012-2014، كما كان عضوًا في المجلس الوطني الانتقالي السوري الذي تأسّس عام 2012 كحكومة مؤقتة للمناطق المحررة من سيطرة النظام السوري.
مات رياض الترك، المناضل التاريخي والأيقونة السورية الوطنية وعاشق الحرية العتيق وأحد قادة المعارضة السورية منذ زمن بعيد.
سجنه الأسد الأب ١٨ عامًا وحين مات قال على قناة الجزيرة من داخل سورية "مات الديكتاتور"، فأعاد الأسد الابن اعتقاله ومحاكمته.
كان الترك وهو عجوز ومختبئ عن الأمن… pic.twitter.com/y7rxKAvlMV— أحمد أبازيد (@abazeid89) January 1, 2024
وعن دوره في الثورة السورية، يقول ياسر العيتي إنه عند قيام الثورة استمر “إعلان دمشق” بممارسة نشاطاته في بداية الثورة مع شباب التنسيقيات، وفي عدة مناطق من سوريا.
ويضيف العيتي أنه كان للمناضل رياض ترك نشاطات كثيرة غير معلنة، حيث كان يخرج متخفيًا نحو المناطق التي انسحب منها النظام، و كان يلتقي مع الشباب المتظاهرين، ويشحذ هممهم، ويدعوهم إلى تشكيل لجان ثورية في تلك المناطق، ويؤكد لهم أن مستقبل سوريا يُصنع بسواعد الشباب الأحرار.
مغادرته سوريا
كان الترك يقيم متخفيًا في بيت صغير بإحدى ضواحي دمشق، وبعد عدة محاولات من قبل أجهزة النظام لاعتقاله، ونجاته من إحداها عندما داهمت دورية من الأمن منزلًا كان يقيم فيه، قرر الخروج من سوريا، واستطاع الوصول إلى الشمال السوري عن طريق التهريب، ومنه وصل إلى تركيا، وذلك بحسب صديقه الدكتور العيتي، وبمجرد اجتياز الحدود أخذ سفير فرنسا في أنقرة على عاتقه تنظيم انتقال رياض الترك نحو فرنسا التي توفي فيها.
وعن لحظة اجتيازه الحدود التركية السورية، يقول الترك في مقابلة أجرتها معه صحيفة “لو موند” الفرنسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2018: “بعد الخلاص من الأخطار، وبتركي وراء ظهري هذا البلد الذي لم يعد أبدًا يخصني، سلوت في البداية، ثم فارقني هذا الشعور، وما أحسست به حينئذ تختصره قصيدة للشاعر الشريف الرضي، حيث قال عند خروجه من بغداد:
ولقد مررت على ديارهم ** وطلولها بيد البلى نهبُ
فوقفت حتى ضجَّ من لغب ** نضوي ولج بعذَّلي الركبُ
وتلفّتتْ عيني فمذ خفيت ** عنها الطلول تلفّت القلبُ”.