مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ركّز الاحتلال الإسرائيلي على الترويج للهجرة القسرية، من خلال الدعوة التي أطلقها للسكان بعد الأسبوع الأول من المعركة، للنزوح إلى المنطقة الموازية لجنوب وادي غزة وسط قطاع غزة.
وفي بداية الأمر سعى الاحتلال الإسرائيلي لانتزاع ما يعرَف بصورة نصر يروّجها لجبهته الداخلية، تتمثل في فرض النزوح على سكان القطاع بالذات مدينة غزة وشمالها إلى المناطق الجنوبية، بالإضافة إلى مجموعة من الأهداف العملياتية والميدانية الأخرى التي يريد تحقيقها.
وكان واضحًا أن الاحتلال يريد تفريغ هذه الأماكن من أهلها ضمن سياسة “الأرض المحروقة”، للاستفادة من ذلك على الصعيد العملياتي المتمثل في جعل هذه المناطق خالية، وجعل فرصة اكتشاف المقاومين ميدانيًّا أسهل على قواته، وهو أمر لم يتحقق كما أراد الاحتلال.
فرغم حالة النزوح القسرية والجبرية التي جرت نحو المناطق الأخرى، إلا أن نحو 700 ألف فلسطيني ظلوا متواجدين في أماكن متعددة من القطاع، ما أسهم في إفشال جانب من مخططات الاحتلال الإسرائيلي في المرحلة الأولى والثانية من حربه المتواصلة.
عدا عن ذلك، فإن الموقف العربي المعلن من رفض تهجير الفلسطينيين واستقبالهم كان عاملًا من العوامل التي أدّت إلى فشل ما يعرف بالتهجير القسري، رغم أن المواقف العربية الخفية لم تساند المقاومة الفلسطينية، أو الفلسطينيين في غزة على الصعيد الإنساني أو اللوجستي الصحي.
ويعرف التهجير القسري بأنه إبعاد الأشخاص عن أراضيهم بشكل دائم أو مؤقت على غير إرادتهم، دون توفير الحماية القانونية أو غيرها من الوسائل الأخرى لهم، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية.
ويكون التهجير القسري إما بصورة مباشرة عبر استخدام القوة، وإما غير مباشرة عبر التهجير من خلال وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد، ولا يعتبر ما جرى جديدًا، إذ إن الفلسطينيين يتعرضون له من قبل الاحتلال الإسرائيلي، كسياسة ممنهجة تمارَس بحقّهم منذ النكبة عام 1948.
من القسري إلى الطوعي.. كيف تغير الموقف الإسرائيلي؟
كان صمود الشعب الفلسطيني في أرضه وعدم اندفاعه نحو الحدود الفاصلة بين القطاع والأراضي المصرية، أحد أوجه فشل مخطط التهجير القسري التي سعت حكومة نتنياهو لتحقيقه منذ بداية المعركة المتواصلة للشهر الرابع على التوالي، في أطول حرب تشهدها غزة.
“عند تنفيذ عمليات التهجير القسري سيكون لدينا مساحات شاسعة لإقامة المستوطنات لليهود، وأنا أؤيد الترحيل القسري للسكان، ولا أرى فيه أي شيء غير أخلاقي، وأنه ضرورة ملحّة لقيام دولة إسرائيل”، تعتبر هذه العبارة من العبارات الشهيرة لأول رئيس وزراء للاحتلال ديفيد بن غوريون، وهي تعبّر بشكل واضح عن أساس المشروع الإسرائيلي الذي يرتكز على التهجير القسري والاستيطان.
وسياسة التهجير القسري هي ركن أساسي من أركان المشروع الصهيوني في فلسطين منذ أيام الاستعمار البريطاني، إذ إن كافة الأدبيات الصهيونية في تلك الفترة كانت قائمة على أساس التهجير القسري للمواطنين الفلسطينيين من أرضهم، وجلب اليهود من كافة أرجاء العالم وتوطينهم في فلسطين قبل قيام دولة الاحتلال.
وتعتبر أعمال التهجير القسري للمدنيين من الأفعال والممارسات التي تؤسّس لجريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وانتهاكًا لاتفاقية روما لعام 1998 التي تشكّل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي أكدت على أن الترحيل والتهجير والنقل القسري للمدنيين جريمة ضدّ الإنسانية استنادًا إلى المادة رقم 7 من الاتفاقية.
إذ إن أي هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين بإبعادهم عن أماكن سكنهم أو النقل القسري لهم هو جريمة ضد الإنسانية، وأكدت المادة رقم 8 أن الترحيل والتهجير والنقل القسري للمدنيين بإصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالصراع القائم جريمة حرب.
لكن وخلال هذه الحرب، استخدم الاحتلال سلاح المجازر وعمليات الإبادة الجماعية من أجل تحقيق هدف التهجير القسري، غير أن حالة الرفض الشعبي أجبرت الحكومات العربية على التحرك لرفضه، رغم الطرح الأمريكي الواضح لجو بايدن، والذي أدّى في نهاية المطاف إلى إفشال المخطط تمامًا.
ومع استبسال المقاومة المسلحة، فإن التهجير القسري فشل من جديد، خصوصًا مع المعارك الضارية التي شهدتها مناطق واسعة من القطاع، مثل الشيخ رضوان ومخيم جباليا ومخيم الشاطئ وأحياء الزيتون والشجاعية وبيت لاهيا وبيت حانون، وما يحصل في خان يونس.
وبمحاذاة هذا الأمر، فإن الموقف الأوروبي والغربي على انحيازه للاحتلال فيما يتعلق بمجريات الحرب الميدانية، إلا أنه هو الآخر رفض الموافقة على مشاريع التهجير القسري، وهو عامل من العوامل التي أدّت إلى بحث الاحتلال عن تغيير في الموقف نحو بدائل أخرى.
اليوم بدأ الاحتلال البحث عن أدوات بديلة للتهجير، من خلال ما يعرف بالتهجير الطوعي من القطاع إلى خارجه عبر بعض الدول، لعلّ من أبرزها كندا، إلا أن هذا المخطط لا يزال في بدايته، وسط تمسك الفلسطينيين بالبقاء داخل غزة ورغبتهم المعلنة بالعودة إلى منازلهم.
تحركات رسمية وخطوات معلنة وغير معلنة
تعتبر الهجرة الطوعية شكلًا آخر للتهجير القسري، لكن بطريقة منظمة بالتعاون مع بعض الدول التي يتواجد فيها مواطنون من قطاع غزة من قبل، إذ عُبّر عن ذلك من خلال التصريحات المتتالية لعدد من وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي، مثل وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، حيث قال: “على إسرائيل أن تعمل على إيجاد الدول المستعدة على استقبال سكان غزة على أراضيها”.
هذا إلى جانب عدد آخر من وزراء وبرلمانيي الاحتلال الذين دعوا إلى تهجير المواطنين الفلسطينيين من قطاع غزة بشكل طوعي، وذلك من خلال 3 مراحل تشمل إنشاء مدن من خيام في سيناء جنوب غرب القطاع، وإنشاء ممر إنساني لمساعدة السكان، وبناء مدن في منطقة شمال سيناء.
وجاءت تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو منسجمة مع تصريحات وزرائه حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حيث أوضح أن هناك مفاوضات مع عدد من الدول لاستيعاب الفلسطينيين من قطاع غزة، الأمر الذي يعني فصلًا جديدًا من فصول النكبة والتهجير.
وتحاول حكومة الاحتلال التنصُّل من المسؤولية القانونية والأخلاقية من عملية التهجير، حيث إن الهجرة الطوعية للفلسطينيين من قطاع غزة لا تشكّل إحراجًا لدولة الاحتلال أمام المجتمع الدولي، ما يمكّن حكومة الاحتلال الإسرائيلية من إفراغ قطاع غزة من مواطنيه دون أي عملية انتقاد أو إحراج أمام المجتمع الدولي، ويجعلها تتحلل من المسؤولية القانونية والأخلاقية عن عملية التهجير تلك، لأنها قائمة على قرار “طوعي” كما تدّعي.
ومن ناحية قانونية وإنسانية، إن هذا الشكل من أشكال التهجير وإن تمَّ تغليفه بأي غلاف آخر، يشكّل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني وللقانون الدولي لحقوق الإنسان، لا سيما لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحمي المدنيين في حالات النزاع المسلح، وتؤمن حماية خاصة لهم وتدعو إلى تحييدهم عن أماكن الاشتباك والعمليات الحربية.
إنّ التهجير الفردي والجماعي الذي تقوم به دولة الاحتلال هو انتهاك جسيم للمادة رقم 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والتي تحظر الترحيل الفردي أو الجماعي بصرف النظر عن الدوافع والمبررات، ويخضع من يقوم بتلك الأعمال للمحاكمة وفقًا للاختصاص العالمي.
وفي الآونة الأخيرة تماهت بعض الدول مثل كندا مع المخططات الإسرائيلية، من خلال إعلانها عن رغبتها في السماح لأقارب المواطنين الكنديين من أصول فلسطينية والمقيمين على أراضيها ويحملون الجنسية الكندية، بقدوم أفراد عائلاتهم وتوفير كافة السبل الممكنة للمساعدة في ذلك.
إذ يعدّ هذا الموقف الكندي شكلًا من أشكال تسهيل عملية التهجير للفلسطينيين من قطاع غزة، وإن أخذ شكلًا آخر أقل حدّة، وأن دعوة رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضرورة إعادة احتلال محور صلاح الدين المعروف بـ”محور فلادلفيا” والسيطرة عليه، والذي يمتد على طول الحدود الفاصلة ما بين قطاع غزة ومصر بطول 14.3 كيلومترًا، ما هي إلا الخطوة الأولى في تنفيذ مخطط التهجير للمواطنين الفلسطينيين من قطاع غزة.
ودار الحديث مؤخرًا عن تشكيل وفد يرأسه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، من أجل إقناع دول غربية بقبول استقبال اللاجئين الفلسطينيين، غير أن بلير نفى علاقته بالأمر في ظل موقف فلسطيني واضح على المستوى الرسمي والشعبي من الهجرة.
أما شعبيًّا، فالتهجير مرفوض من الفلسطينيين، لا سيما أن ثمة إدراك أن ما يجري يستهدف تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، وأن هناك إجماعًا على أن ما يحصل ستتبعه خطوات ستشمل مناطق أخرى مثل الضفة الغربية والقدس المحتلتَين.