إن كانت المقاومة الفلسطينية هي القطب الأول في معركة الكرامة والإباء التي تخوضها ضد الكيان المحتل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن شعب غزة على وجه التحديد والشعب الفلسطيني عمومًا هو القطب الثاني في تلك المواجهة المصيرية التي أبقت القضية الفلسطينية على قيد الحياة رغم مخططات الوأد والتصفية.
وبينما يُسطر مقاتلو القسام والسرايا والجهاد وغيرها من بقية فصائل المقاومة، بأحرف من نور صفحات ناصعة البياض في مواجهة الاحتلال، هناك صفحات أخرى لا تقل إشراقًا يُسطرها الغزيون بصمودهم على قلب رجل واحد في مواجهة مخططات التهجير التي تحاول دولة الاحتلال تنفيذها على أرض الواقع.
ورغم اقتراب أعداد الشهداء والمفقودين من حاجز الـ22 ألف شهيد، منهم 9280 من الأطفال و6600 من النساء، فضلًا عن 7 آلاف في عداد المفقودين، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن ذلك لم يقلل من عزيمة الغزيين في مواصلة المعركة حتى النصر وتحرير كامل الأرض من الاحتلال.
التشبث بالحياة بين ركام الموت
إصرار على البقاء رغم انتفاء مقوماته، وتشبث بالبيت والسكن والجدران ولو باتت ركامًا، ودعم مطلق للمقاومة حتى إن كان الثمن أفواجًا من الشهداء ترتقي ساعة تلو الأخرى، حالة من الصمود تخيم على الأجواء، وسيمفونية من التحدي يعزفها سكان غزة، تُثير الكثير من التساؤلات عن هذا الثبات الذي يكشف الكثير من تفاصيل المعركة ومستقبلها.
وتداولت منصات التواصل الاجتماعي عشرات المقاطع المصورة التي تكشف محاولة سكان غزة ممارسة حياتهم العادية، رغم القصف والعمليات العسكرية الإسرائيلية التي دمرت أكثر من 60% من مباني القطاع، فيما عادت الحركة مرة أخرى لبعض الأسواق حيث الازدحام الشديد كما هو الوضع في سوق مخيم جباليا شمالي غزة.
وبينما هُدمت غالبية الشوارع التجارية فإن سكان القطاع يحاولون في حدود المتاح إحياء الحركة مرة أخرى ولو تحت أصوات الرصاص، تمسكًا بالمكان، ورفضًا لضغوط النزوح، وتجنبًا لتكرار سيناريو 1948 مجددًا، معلنين الصمود والتحدي مهما كانت الصعاب والعراقيل.
رغم القصف والعمليات العسكرية الإسرائيلية.. حركة نشطة وازدحام في سوق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة#حرب_غزة #فيديو pic.twitter.com/1SX2yQXRfb
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) January 1, 2024
لن نرحل مهما كان الثمن
“لم يعد هناك شيئًا نخسره، هُدمت بيوتنا، وتعطلت أعمالنا، وبات الموت والحياة لنا سيان، ورغم ذلك فلن نرحل، لن نترك للاحتلال بيوتنا ولو كانت رمادًا، سنتمسك بها حتى نموت بداخلها أو تحت أنقاضها”.. بهذه الكلمات جدد الصحفي الفلسطيني محمد أبو خليل التأكيد على البقاء في غزة رغم الوضع المأساوي الذي يعانيه.
أبو خليل في حديثه المقتضب لـ”نون بوست” يوضح حجم الدمار الذي حل بالقطاع، وتفاصيل الكارثة التي خيمت على سكانه، فبالكاد يُسكن جوف أبنائه بوجبة واحدة في اليوم، ويتنقل بين الساعة والأخرى من مكان إلى مكان هربًا من قاذفات وصواريخ الاحتلال التي لم تتوقف منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لكن في المقابل يشير الصحفي الفلسطيني، إلى أن الأمر الآن أصبح مختلفًا، بعد كل تلك التضحيات التي قدمها الفلسطينيون بات الرحيل والاستسلام خيارًا غير مطروح، فلا يوجد شخص داخل القطاع إلا وأصبح له ثأر عند الاحتلال، معتبرًا أن الفرار ولو بالحياة وترك غزة للكيان المحتل خيانة لمن رحلوا، ونقضًا للعهد الذي قطعه الغزيون على أنفسهم بالدفاع عن الأرض حتى الموت، وإن كان ذلك لا يعني إلقاء اللوم على من ارتأى الرحيل، فلكل شخص ظروفه وحساباته الخاصة في ظل هذا الإجرام غير المسبوق من جيش الاحتلال على حد قوله.
وعلى الجهة الأخرى، يمثل الفلسطينيون الظهير الشعبي الأكثر قوة للمقاومة ومقاتليها، فدونهم يكون التحرك العملياتي صعبًا، خاصة في ظل المخططات التي يقوم بها الاحتلال لزرع الفتنة بين المقاومة وسكان غزة، عبر المنشورات التي يلقيها عليهم ليل نهار لتشويه صورة حماس والجهاد وإغراء الفلسطينيين ماديًا للإبلاغ عن قادة الفصائل.
وتكشف مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام حجم الدعم الكبير للمقاومة من الفلسطينيين، سواء داخل سكان القطاع من خلال التأكيد على الصمود والوقوف خلف حماس والجهاد في معركة الكرامة التي يخوضاها ضد الاحتلال، أم خارجه عبر التظاهرات الداعمة كما هو الحال في المسيرات التي عمت رام الله والضفة والجليل وغيرها من المناطق الفلسطينية رغم تضييق الخناق الذي تمارسه السلطة الفلسطينية.
مخطط التهجير بشقيه الطوعي والقسري
تصاعد خطاب التهجير الإسرائيلي خلال الأيام الأخيرة بشكل كبير في ظل فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية الثلاث المعلنة بداية الحرب (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان عدم تشكيل غزة أي تهديد للداخل الإسرائيلي)، وهو ما دفعه حاليًّا للحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب.
وتتضمن تلك المرحلة تقليص الوجود العسكري وسحب بعض الألوية، وإعادة تموضع التشكيلات المقاتلة، وهو ما حدث بالفعل مؤخرًا، هذا بجانب البحث عن إستراتيجيات أخرى لتحقيق الانتصار المزعوم، من أبرزها الدفع نحو التهجير الطوعي لسكان غزة بعد فشل التهجير القسري.
وقد أعلن المتطرفان في الحكومة الإسرائيلية، وزيرا الأمن القومي والمالية: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الإثنين، 1 يناير/كانون الثاني 2024، دعمهما الكامل لـ”التهجير الطوعي للفلسطينيين” من قطاع غزة، حيث طالب بن غفير في تغريدة على حسابه على “إكس” بما أسماه ضرورة “تعزيز الحل لتشجيع هجرة سكان غزة، فهذا هو الحل الصحيح والعادل والأخلاقي والإنساني”، لافتًا إلى أن هناك دولًا حول العالم، وصفهم بـ”الشركاء”، يمكنها مساعدة الكيان المحتل في استيعاب المهاجرين.
تقارير إسرائيلية تتحدث عن طرح فكرة الوساطة على #توني_بلير بشأن ما يعرف بـ"اليوم التالي للحرب في #غزة"، فأي دور يمكن أن يقوم به بلير فيما يتعلق بمستقبل غزة؟#مسائية_DW pic.twitter.com/9YRVbFEVke
— DW عربية (@dw_arabic) January 1, 2024
الرأي ذاته شدد عليه سموتريتش خلال تصريحاته لإذاعة جيش الاحتلال حين قال: “الحل الصحيح لقطاع غزة هو تشجيع الهجرة الطوعية إلى الدول التي توافق على استقبال اللاجئين”، لافتًا إلى أن جيش الاحتلال سيكون موجودًا بصفة دائمة داخل القطاع لضمان الأمن وإقامة المستوطنات اليهودية.
وفي سياق مخطط التهجير الذي يتم على قدم وساق، ذكرت قناة “12” العبرية أن تل أبيب تنتوي تعيين رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، على رأس فريق العمل المخصص لتلك المهمة، حيث يكون وسيطًا بين “إسرائيل” وبعض الدول الغربية لإقناعها باستقبال لاجئين فلسطينيين من قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.
القناة كشفت أن بلير – سيئ السمعة فلسطينيًا – كان في زيارة سرية لدولة الاحتلال الأسبوع الماضي من أجل مناقشة حزمة من الملفات الخاصة بدعم تل أبيب، من بينها ملف التهجير، وكانت تسريبات تناقلها الإعلام العبري والعربي معًا قبل أسابيع تشير إلى جهود أمريكية لإقناع بعض البلدان العربية الحليفة لـ”إسرائيل” بالتعاون في مخطط التهجير الطوعي من خلال منح عقود عمل مجزية وتوفير حياة كريمة لمن يرغب من سكان غزة.
وأمام كل تلك المخططات يقف سكان غزة حجرًا صلبًا أمام مخطط التهجير، وغصة في حلق المحتل عبر دعم المقاومة، وإن كان من مسمى يمكن أن يوصف به العام المنقضي 2023 فهو عام الصمود والتحدي الفلسطيني، ولو كان هناك من يستحق جائزة هذا العام فهم سكان القطاع الأحق بـ”أوسكار” الثبات والجلد رغم انتفاء مقومات الحياة كافة.