تحدثت مصادر في المعارضة السورية عن اتصالات غربية وإقليمية مع روسيا، بهدف إحياء اتفاقية “إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدود سوريا الجنوبية”، وفيما نفت موسكو هذه المعلومات، لم يستبعد محللون إمكانية انخراط الطرفَين بمثل هذه المحادثات، بحال قُدمت تنازلات على جبهة أوكرانيا.
وكانت كل من روسيا والولايات المتحدة قد رعتا تفاهمًا عام 2018، يقضي بوقف تسليح فصائل المعارضة السورية جنوب البلاد، مقابل انسحاب الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني من المنطقة حتى محيط دمشق.
ورغم التزام واشنطن بتعهُّداتها بهذا الخصوص، حيث ألقت فصائل المعارضة في المنطقة السلاح، وفتحت طريق الشحن الدولي (إم-5)، كما سلّمت إدارة المعبر الحدودي بين سوريا والأردن (معبر نصيب) لحكومة نظام الأسد، إلا أن إيران حافظت على وجودها العسكري هناك، بل عززته أكثر.
ومع اندلاع الحرب الجديدة في غزة، واستخدام الجماعات المرتبطة بإيران الأراضي السورية لاستهداف مواقع تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان المحتل، عاد الحديث مجددًا حول مساعٍ لإحياء الاتفاق بضغط من تل أبيب.
نفي روسي
لكن دبلوماسي روسي نفى، خلال حديث مع صحيفة “الشرق الأوسط” التي تصدر في لندن، صحة المعطيات التي تداولتها وسائل إعلام مقرّبة من المعارضة السورية، حول انخراط أطراف إقليمية في محادثات سرّية مع واشنطن وموسكو لإحياء الاتفاق.
ونقلت مواقع مقرّبة من المعارضة السورية عن مصادر دبلوماسية، أن مباحثات متعددة الأطراف تجري حاليًّا في هذا الشأن، بهدف تجديد اتفاقية عام 2018 التي نصّت على إبعاد الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني عن حدود سوريا الجنوبية، مقابل موافقة الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية على وقف تسليح فصائل المعارضة السورية هناك، على أن تكون روسيا ضامنًا لتنفيذ الاتفاق من جهة إيران.
ووفق هذه المصادر، فإن جهات دولية وإقليمية، وتحديدًا الأردن، تخوض مباحثات مع كل من النظام السوري وروسيا من أجل العودة لتطبيق “بند إبعاد الميليشيات الإيرانية عن هضبة الجولان والحدود الأردنية”، مقابل إلغاء “إسرائيل” خططًا للتوغل في المنطقة الحدودية مع سوريا برًّا.
إلا أن صحيفة “الشرق الأوسط” نقلت عن الدبلوماسي أن اتفاق عام 2018 كان “تسوية” وُقّعت بين المعارضة والنظام السوري، ولم يكن للولايات المتحدة والغرب أي علاقة به، وأضاف أن “موسكو لم تدخل أصلًا في أي تسوية من هذا النوع لا من حيث الشكل ولا المضمون”، مشددًا على أن عناصر الاتفاق السابق كانت “قد حُددت في البيان الختامي لمؤتمر سوتشي للحوار بين النظام والمعارضة”.
وحسب المصدر، فإن الوساطة التي قامت بها موسكو حول تحديد مساحة للتحرك أمام إيران في سوريا تبعد عن الجولان مسافة 85 كيلومترًا، لم تكن نتاج تسوية مع الغرب، بل نتاج “تحرك روسي مع الشركاء في مسار أستانا، بهدف إزالة حجج واشنطن وتل أبيب، وسحب ذرائع مواصلة الاعتداءات على الأراضي السورية بحجّة الخطر الإيراني على أمن إسرائيل”.
عروض إسرائيلية
وبالفعل أكدت مصادر دبلوماسية عربية تواصل معها “نون بوست” عروضًا إسرائيلية قُدّمت لروسيا من أجل العودة للاتفاق، عقب اندلاع المواجهات الحالية في قطاع غزة ومحيطه، وقالت إن “رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تجمعه علاقة خاصة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عرض إحياء الاتفاق، مقابل تجنُّب سيناريو يطرحه مجلس الحرب في حكومة تل أبيب، ويقضي بشنّ توغُّل عسكري برّي انطلاقًا من الجولان، لإجبار الجماعات التابعة للحرس الثوري الإيراني على الخروج من المنطقة الحدودية”.
المعارضة: لا علاقة لأستانا
من جانبه، نفى عضو بارز في وفد المعارضة السورية لمفاوضات مسار أستانا، أن تكون اتفاقية عام 2018 حول الجنوب السوري قد تم التوصل إليها في إطار المسار، وأكد المصدر الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، في حديث مع “نون بوست”، أن “التفاهم المشار إليه جرى بحثه في البداية خلال إحدى جولات التفاوض التي شهدها المسار مطلع عام 2017 بالفعل، لكن المحادثات بشأنه توقفت في الجولة الرابعة، ليتم الإعلان عنه بشكل مستقل لاحقًا”.
وأضاف: “طُرح هذا الأمر علينا خلال الجولة الرابعة من مفاوضات أستانا في أبريل/ نيسان 2017، وحينها طلب قادة الجبهة الجنوبية في المعارضة العسكرية إجراء مشاورات بخصوصه مع الأردن، ثم انقطع الحديث حوله خلال الجولات التالية”.
وتابع المصدر: “في أيلول/ سبتمبر 2017، وفي جولة أستانا-7، جاء الوفد الأمريكي، وكان يرأسه مساعد وزير الخارجية حينذاك، إلى المباحثات، وأبلغ وفد المعارضة السورية أنهم اتفقوا مع الروس والأردنيين والبريطانيين والإسرائيليين على إخراج منطقة التصعيد الأولى (درعا ومحيطها) من مفاوضات مسار أستانا، بعد التوصُّل إلى اتفاق يقضي بإبعاد الإيرانيين عن الحدود الجنوبية لسوريا”.
لافروف يغازل تل أبيب
ويوم الخميس، عبّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن موقف لافت من العدوان الإسرائيلي على غزة، حين اعتبر أن موسكو وتل أبيب تقاتلان في أوكرانيا وغزة “من أجل هدف متطابق”.
ومنذ بداية الهجمات الإسرائيلية على القطاع في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عبّرت روسيا عن موقف وسطي يركّز على ضرورة وقف المعارك، كما دعمت مشاريع قرارات في مجلس الأمن من أجل ذلك، لكن لافروف قال في تصريحه الأخير إن “الأهداف العسكرية التي قدمتها روسيا في أوكرانيا وإسرائيل في غزة هي في الواقع الأهداف نفسها”.
وفي مقابلة مع وكالة “ريا نوفوستي” الناطقة بلسان الكرملين، أبدى لافروف تفهُّمًا لوضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مقابل توجيهه انتقادات لسلفه في المنصب يائير لابيد.
وأضاف: “لقد أعلن نتنياهو أنه يجب تدمير حماس بأكملها بشكل عامّ، وتجريد المنظمة من السلاح ووضع حد للتطرف بغزة.. في الواقع إن أهداف روسيا وإسرائيل من الحروب التي يتم خوضها حاليًّا تحمل الأهداف نفسها، وأهمها نزع السلاح ودحض النازية التي كانت هي أيضًا أهدافًا لروسيا التي أعلنت عنها عندما غزت أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022”.
تصريح اُعتبر لدى الكثيرين بمثابة تأكيد للمعلومات التي تحدثت عن تواصل نتنياهو مع موسكو، بغرض إقناعها لتطبيق اتفاقية عام 2018 حول الوجود العسكري الإيراني جنوب سوريا.
وبينما توترت العلاقات بين روسيا و”إسرائيل” مع بداية الحرب في أوكرانيا، بسبب اصطفاف الحكومة السابقة في تل أبيب إلى جانب الغرب بشكل كامل، فإن الطرفَين يأملان أن يستفيدا من العلاقة الشخصية التي تجمع كلًّا من نتنياهو وبوتين لأجل تحقيق مصالح مشتركة.
إلا أن لافروف شدّد على أن رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يتواصل مع روسيا مؤخرًا، وقال: “لا أعرف كيف يفسّر نتنياهو الوضع الآن، لكن رغم الانتقادات من جميع أنحاء العالم، ورغم أنه وجد نفسه في وضع معقّد، فإنه لا يسمح لنفسه بالحديث عن روسيا”.
روسيا سعيدة
لكن كل ما سبق يعتبَر بمثابة مؤشرات قوية على إعادة إحياء الاتفاق، ويؤكد الحديث حول اتصالات تجري بهذا الخصوص حسب المتابعين، حيث يرى الخبير في الشأن الروسي نصر اليوسف، أن “هذه فرصة ثمينة بالنسبة إلى موسكو لتخفيف الضغوط الغربية عليها فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية وتداعياتها”.
ويقول في حديث مع “نون بوست”: “دائمًا هناك فرق بين التصريحات والحقيقة، فروسيا وبما يتعلق بالحرب في غزة، تدعو باستمرار إلى التهدئة بل وقف المعارك، لكن في واقع الأمر فإن موسكو سعيدة جدًّا بهذه الحرب، وتتمنى أن تتوسع قدر الإمكان”.
ويشير اليوسف هنا إلى أن اندلاع المواجهات بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية في غزة أثار جدلًا واسعًا داخل الولايات المتحدة، بخصوص الدفعة التالية من الدعم المخصّص لأوكرانيا، حتى أن السجال حولها اندلع بين البيت الأبيض والكونغرس، وهذا سبب كافٍ لتكون روسيا سعيدة بذلك.
لكنه يستبعد في الوقت نفسه أن تنخرط موسكو في أي محادثات حول الوجود العسكري الإيراني جنوب سوريا، ما لم تقدم الولايات المتحدة والغرب تنازلات على الجبهة الأواكرانية، تشمل على الأقل خفض المساعدات لكييف، وتقليص العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا منذ اندلاع الحرب هناك في فبراير/ شباط 2022.
ويضيف: “من دون ذلك لا أعتقد أن الروس سيضغطون على الإيرانيين بالمجّان، لأنه وبشكل عام الوضع بسوريا مريح جدًّا بالنسبة إلى موسكو حاليًّا، فمن جهة هي تسيطر على نظام الأسد بشكل كامل، كما تهيمن على ما أسماها لافروف قبل أعوام بـ”سوريا المفيدة” الممتدة من دمشق إلى طرطوس، كما أن لديها الورقة الإيرانية التي تضغط بها على “إسرائيل” لكي تضغط بدورها على واشنطن وأوروبا بخصوص الحرب في أوكرانيا وما ترتّب عن هذه الحرب، لذلك لن تكون مستعجلة على أي شيء قبل الحصول على ما تريد من الغرب، وإن كان بالحد الأدنى”.
الموقف الأردني
حتى الآن لم يصدر أي تعليق رسمي من المملكة الأردنية حول التسريبات التي تحدثت عن محاولات إحياء اتفاقية عام 2018، لكنّ مسؤولين سابقين ومحللين أردنيين تواصل معهم “نون بوست”، أكدوا أن بلادهم معنيّة مباشرة بالوجود العسكري الإيراني جنوب سوريا، بسبب ازدياد مخاطر تهريب المخدرات والسلاح من قبل الميليشيات التابعة للحرس الثوري.
وبينما قال الوزير السابق في الحكومة الأردنية، سميح المعايطة، إنه لا علم له بوجود مثل هذه المحادثات، شدد المحلل السياسي عامر سبايلة على أن “من حق بلاده القيام بكل ما يجب للحفاظ على أمنها ووضع حدٍّ للمخاطر القادمة من سوريا”.
وأضاف في حديث مع “نون بوست”: “الأردن حاليًّا يدعم أي جهود تؤدي إلى ضمان أمن حدوده مع سوريا، لكن لا أعتقد أن الحديث عن تجديد تفاهم عام 2018 سيكون ذا فاعلية الآن بعد فشله خلال السنوات الماضية، وعلى أي حال قيادة المملكة تضع كل الخيارات لمواجهة مخاطر ميليشيات التهريب على الطاولة، بما في ذلك الخيار العسكري، حيث لجأت القوات المسلحة إلى استهداف مواقع هذه الميليشيات على الأراضي السورية”.
على مدار السنوات الثلاث الماضية، فشلت اتفاقية عام 2018 بإبعاد الميليشيات التابعة للحرس الثوري في سوريا عن الحدود مع الأردن وهضبة الجولان المحتلة، لكن مع اندلاع المواجهات في غزة ومحيطها، عاد الحديث بقوة حول ضرورة تطبيق هذا البند “لتجنُّب توسع الحرب”، الأمر الذي ترى فيه روسيا فرصة سانحة للحصول على مقايضة من الغرب تتعلق بجبهة أوكرانيا، إلا أنه من الواضح أن القليلين متفائلون بإمكانية إحياء هذه الاتفاقية.