بشكلٍ مفاجئٍ اختفت وحدات الجيش السوداني بعد ظهر 18 ديسمبر/كانون الأول، من مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، لتفسح المجال لقوات الدعم السريع حيث عَبَر عناصرها جسر “حنتوب” بمنتهى السهولة من دون أي محاولة صد، وكانوا يوثقون تلك اللحظات بفيديوهات مباشرة كأنهم في رحلة ترفيهية أو رحلة صيد.
مليشيا الدعم السريع تنشر فيدوهات لها اليوم من كبري حنتوب #مافي_مليشيا_بتحكم_دولة pic.twitter.com/aoYP6dseq2
— طــــه ود حنـــان (@6a7a_hussein) December 18, 2023
وسرعان ما أحكمت الدعم السريع سيطرتها على المدينة ذات الأهمية الإستراتيجية، إذ لم تجد مقاومة تُذكر عدا من قلة من عناصر المخابرات العامة وبعض المتطوعين الذين رفضوا الانسحاب وفضّلوا القتال لآخر لحظة في حياتهم.
أحدث سقوط ود مدني في قبضة الدعم السريع صدمةً للشارع السوداني ودفع قيادة الجيش إلى إعلان الشروع في التحقيق مع قادة القوات المنسحبة من عاصمة ولاية الجزيرة التي تبعد نحو 190 كيلومترًا جنوبًا من الخرطوم.
الأهمية الإستراتيجية لود مدني
مدينة ود مدني تمثل قلب السودان النابض، ففي محيطها يمتد مشروع الجزيرة الزراعي العملاق (أكبر مشروع زراعي مروي في إفريقيا بمساحة تُقدر بنحو 2.2 مليون فدان) والسيطرة على جسرها الواقع على الضفة الشرقية النيل الأزرق “جسر حنتوب” يعني إحكام الخناق على ولايات شرق البلاد، خصوصًا مدينة بورتسودان التي باتت مقرًا مؤقتًا للحكومة السودانية، لذا فإن سيطرة الدعم السريع عليها يعد تطورًا نوعيًا في القتال مع الجيش السوداني.
كما أصبحت ود مدني ذات أهمية تجارية كبيرة بعد اندلاع الحرب في الخرطوم، حيث نقل مئات التجار أعمالهم إليها، وصارت مركزًا للواردات وتوزيع البضائع إلى بقية ولايات السودان، إلى جانب أنها أصبحت مقرًا مؤقتًا لكثير من الجامعات الحكومية والخاصة التي كانت موجودة في الخرطوم، بعد أن نزح إليها مئات الآلاف من سكان العاصمة.
وموقع ولاية الجزيرة فريد للغاية، ليس كأيّ ولاية سودانية أخرى، فهي تمثل حلقة وصل بين جميع ولايات البلاد تقريبًا، إذ تعد المركز الرئيس لربط ولايات النيل الأبيض وكردفان ودارفور غربًا، وسنار والنيل الأزرق جنوبًا، والقضارف وكسلا وبورتسودان شرقًا، ونهر النيل والشمالية والخرطوم شمالًا.
وتضم المدينة أكبر مستودعات للوقود بعد الخرطوم، وكانت تعمل على تغذية وسط وغرب السودان، بعد خروج مستودعات ولاية الخرطوم عن الخدمة نتيجة الحرب المشتعلة منذ 15 أبريل/نيسان 2023.
دلالات سيطرة الدعم السريع على ود مدني
سقوط ولاية الجزيرة بما في ذلك عاصمتها ود مدني في قبضة الدعم السريع، يدل على انتقال الحرب في السودان إلى مرحلة بالغة الخطورة، بسبب موقعها الإستراتيجي الذي سبق شرحه، إضافة إلى احتضانها أحد أكبر المشاريع الزراعية في العالم العربي وإفريقيا، ما يعني التأثير المباشر على الأمن الاقتصادي للبلاد بعد أن نهب عناصر المليشيا أصول مشروع الجزيرة مثل المركبات وآلات الحصاد ومحاصيل القمح والذرة.
🔴عمليات نهب واسعة تطال مشروع الجزيرة،
📌 محافظ مشروع الجزيرة عمر مرزوق:، إن جميع مدخلات مشروع الجزيرة الزراعي، قد سرقت ونهبت بواسطة الدعم السريع بعد دخولها لمقر إدارة المشروع بمنطقة بركات جنوبي الجزيرة.
📌 عمر مرزوق: ان هذا الوضع ينذر بمجاعة كُبري بالبلاد .#المقاومة_الشعبية pic.twitter.com/LMByjWoEZw
— fyroz (@fyroz123_) December 26, 2023
كل الشواهد تدل على أن انسحاب قوات الجيش تم نتيجة خيانة كبرى بسبب توازن القوى على الأرض، بحسب المدون ياسر مصطفى الذي يؤكد لـ”نون بوست” أن الجيش السوداني لم يكن يعاني من أي نقص في الذخيرة أو السلاح في ود مدني، موضحًا أن تعزيزات عسكرية ضخمة وصلت إلى المدينة خلال الأيام التي سبقت السقوط من بينها لواء مدرع كامل.
انسحاب بتوجيهات عليا
يعتبر مصطفى – الذي يتابع حسابه على منصة “إكس” أكثر من 55 ألف – أن بيان قيادة الجيش عن إقالة قائد الفرقة الأولى في ود مدني اللواء أحمد الطيب وإحالته للتحقيق بشأن الانسحاب ما هو إلا محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، لافتًا إلى أن قائد الفرقة لم يكن لينسحب لولا صدور توجيهات عليا من رئاسة الأركان.
وردًا على سؤال “نون بوست” عن تقارير إعلامية لبعض القنوات الإخبارية تفيد بوجود خطة للجيش لاستعادة ود مدني من قبضة الدعم السريع، قللّ مصطفى من أهمية تلك الأنباء، معتبرًا أن الجيش ليس حريصًا على ود مدني وولاية الجزيرة ككل، وإلا لما انسحب منها في الأساس.
كانت وسائل إعلام – بينها القناة التاسعة التركية وقناة العربية – قد ذكرت أن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وقيادات من الجيش وضعوا خطة لتحريك فرق من الجيش للدخول تدريجيًا إلى ولاية الجزيرة، وكان من المقرر البدء في تنفيذها بعد 48 ساعة من دخول قوات الدعم السريع إلى ود مدني، لكن الخطة – بحسب المصادر – تأخرت دون ذكر الأسباب، وما زالت القوات التي تحركت من ولايتي سنار والقضارف على حدود الولاية، بحسب مصادر القناتين.
أموال إماراتية أنفقت لإخراج وحدات الجيش
كشفت ريماز محمد – أكاديمية وصحفية سودانية مقربة من دوائر صنع القرار – أن هناك أموالًا إماراتية ضخمة، أُنفقت سرًا لإخراج تشكيلات الجيش من عدة وحدات عسكرية، وأضافت في حديثها لـ”نون بوست” أنها تجزم بأن الجنرال البرهان لا يصلح لقيادة الجيش، واستطردت بالقول: “البرهان يميل للمفاوضات أكثر من الحسم العسكري، سيعول على المفاوضات السعودية الأمريكية ومنظمة الإيغاد، وربما تدخل قطر كميسر ولإعادة الإعمار مثلًا”.
وعن استعادة ود مدني، قالت ريماز إنها لا تتوقع أن يتحرك البرهان في القريب، خصوصًا بعد إعادة تموضع المليشيا في المدينة، لكن استدركت مضيفة “هناك لاعب جديد في الساحة السودانية حاليًا “المقاومة الشعبية”، لو انتظمت المدن والقرى ربما نشهد انهيارًا كبيرًا وسريعًا للمليشيا، انهيار يعجل بزوالها”.
بشأن تصاعد الدعوات لعزل الجنرال البرهان عن قيادة الجيش، علقت لـ”نون بوست” بقولها: “ذلك الشيء الصحيح الذي يفترض أن يحدث، لكن بعض ضباط الجيش وحتى الإسلاميين منهم مع قناعتهم بضرورة إبعاد البرهان، يعتقدون أنه أصبح رمزًا للجيش في مقابل حميدتي كرمز للمليشيا، وذهابه قد يعطي دفعة معنوية للمليشيا وجنودها، خصوصًا أنّ الجيش بذل الكثير لإخراجه من حصاره في القيادة العامة”.
وأردفت ريماز محمد قائلة: “لا يجب التعويل كثيرًا على عزله.. لكن سنظل نمارس الضغوط وتوجيه الرأي العام لتوضيح فشله، حتى يكون قرار إبعاده مسنودًا على قبول عام لدى الجمهور، بشكل يصل لدرجة الاحتفال عند استقالته أو إقالته”.
انتقادات علنية لإدارة البرهان للمعركة
كان العديد من عناصر القوات المسلحة السودانية وداعميها قد وجهوا انتقادات لاذعة للطريقة التي يقود بها الجنرال البرهان المعركة ضد الدعم السريع، مثل الملازم أول (متقاعد) محمد صديق ابراهيم الذي أعلن في آخر يوم من العام 2023 عن بداية الانتفاضة الشعبية المسلحة ضد مليشيا الدعم السريع، داعيًا كل قادر على حمل السلاح للانضمام إلى القتال.
ملازم أول معاش والمجاهد في سبيل الحق.. البطل محمد صديق ابراهيم يعلن بداية الانتفاضة الشعبية المسلحة ضد مليشيا الدعم السريع.
1\يناير\2024م
الرهيفة تنقد pic.twitter.com/6b9P6MkPO2
— ذوالكــفـل ® (@HkZuk) December 31, 2023
يُذكر أن الملازم أول محمد صديق يتمتع بشعبية جارفة وسط جيل الشباب بسبب انحيازه المبكر للمتظاهرين المطالبين بإسقاط الرئيس السابق عمر البشير أمام بوابات القيادة العامة للقوات المسلحة عام 2019، قبل أن يتم إحالته للتقاعد عام 2020 بذريعة “مخالفته قوانين ولوائح القوات المسلحة”.
أخيرًا، ما بعد السقوط الغامض لود مدني ليس كما قبلها، فقد بلغ الغضب الشعبي ذروته من أداء القوات المسلحة في الحرب الدائرة، وارتفعت الأصوات المطالبة بعزل القائد العام، كما انتظمت دعوات الاستنفار و”المقاومة الشعبية” في معظم أنحاء البلاد للتصدي لفظائع الدعم السريع، وفي الوقت نفسه يترقب البعض اللقاء المتوقع بين قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في جيبوتي هذا الأسبوع.