بعد 6 سنوات ونيّف من انطلاق الثورة السورية، بدأت تظهر دلائل أو إشارات لما يصفه البعض بأنها مرحلة تصفية الثورة، والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى صياغة مشروع مستقبلي لتقسيم سوريا بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من الرقة ودير الزور.
ظهرت هذه الإشارات على السطح خلال اليومين الماضيين، بعد إلغاء ترامب لبرنامج التسليح للمعارضة السورية المعتدلة الذي يُشك أصلا في فاعيليته، وكلام السفير الأمريكي السابق روبرت فورد مع صحيفة الشرق الأوسط حول خيارات الإدارة الأمريكية الجديدة الضيقة، ومن ثم العلاقة الوطيدة بين روسيا وأمريكا الذي مهد لها ترامب والتي تجلت في اتفاق الجنوب لوقف إطلاق النار، بالإضافة إلى أمور أخرى.
ترامب ينسحب من سوريا
نقلت صحيفة “واشنطن بوست” قبل يومين أن الرئيس الأمريكي، ترامب، قرر إغلاق البرنامج السري لوكالة الاستخبارات المركزية لتسليح المعارضة السورية، وهو ما يشير إلى تغير جذري في السياسة الأمريكية بسوريا. وأوضحت الصحيفة الأمريكية، استنادًا إلى مسؤولين في الحكومة الأمريكية، أن “الإغلاق النهائي لهذا البرنامج السري يعكس اهتمام ترامب بإيجاد سبل للعمل المشترك مع روسيا، التي تعتبر هذا البرنامج المناهض للأسد ضربًا لمصالحها”.
المخابرات العسكرية التركية معلومات تفصيلية عن أسماء ومواقع 10 قواعد عسكرية أمريكية، يفترض أن تكون سرية، منتشرة في شمال سوريا.
في الواقع تمثل الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة السورية عبر خطين، الأول هو برنامج “السي آي إيه” الذي يهتم بتدريب ودعم فصائل المعارضة المعتدلة التي تقاتل النظام السوري بأموال سعودية وإماراتية بإشراف وقرار أمريكي، علمًا أن البرنامج واجه فشلا ذريعًا من ناحية تدريب المعارضة المعتدلة الذي لم يلتحق فيه الكثير وواجه انتقادات كثيرة من قبل المؤسسات الأمريكية حول نجاعة استمراره، أما فيما يخص الأسلحة فلم يقدم للفصائل الأسلحة النوعية التي كانت المعارضة تطالب بها وعلى رأسها، مضادات للطيران، وهو ما شكل انتكاسة للمعارضة. وقد تم إنهاء برنامج تدريب ودعم المعارضة السورية المعتدلة من قبل الرئيس الأميركي أوباما في تشرين الأول من عام 2015.
كما تعتبر الـ”سي آي إيه” الجهة الأميركية الفاعلة في غرفة “الموك” الموجودة في الأردن، والمسؤولة عن دعم العديد من فصائل المعارضة في الجنوب السوري، والتي تشكو دائمًا من قلة الدعم وعدم تضمنه أسلحة ثقيلة ومضادات دروع، كالتي تقدمها وزارة الدفاع الأميركية “لقوات سورية الديمقراطية”. ومن المتوقع أن يتم قطع الدعم بأشكاله لفصائل الجيش الحر في الجنوب التي وقّعت هدنة بشكل منفرد بحسب اتفاق الجنوب، إذ لم يعد هناك حاجة لهذا الدعم كما يشير لذلك أحد قادة الفصائل في الجنوب.
في حين أن الخط الثاني لدعم فصائل المعارضة السورية كان عبر برنامج وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون، ويهدف لدعم الأكراد وبعض الفصائل المعارضة ضد تنظيم الدولة، لمنع تقدمه واستعادة المناطق التي يستولي عليها.
فصائل المعارضة السورية
البرنامج السري المزعوم التابع لـ”سي آي إيه” لم يكن على درجة كبيرة من الجدية لدعم المعارضة، وقال مراقبون أنه لم يتم دعم الفصائل بالسلاح عبر هذا البرنامج، كما يحصل الآن مع دعم القوات الكردية بالسلاح المتوسط والمعدات والدعم اللوجستي لتحرير مدينة الرقة من داعش.
في حوار لسفير واشنطن السابق في سوريا روبرت فورد مع صحيفة الشرق الأوسط قام به إبراهيم الحميدي، أشار فيه أنه في يونيو/حزيران ويوليو/تموز من العام 2013 تحدث السفير إلى وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، على ضرورة دعم المعارضة المعتدلة بالسلاح ويذكر السفير أن الوزيرة وافقت بدون جهد كبير لوضع حد لجبهة النصرة، ودعم المعتدلين بالسلاح والمساعدات لدعم المواطنين للضغط على النظام ويقبل ببيان جنيف.
موقف نتنياهو من رفضه لاتفاق وقف إطلاق النار،يفسر على أنه يريد الضغط على كل من الولايات المتحدة وروسيا لقبول قرار إسرائيل بفرض سيادتها على الجولان.
وقالت كلينتون في اجتماعها مع فورد أنه بدعم المعارضة بالسلاح “سيكون لنا نفوذ أكثر على المعارضة لقبول حل تفاوضي سياسي”. ويتابع السفير أن أوباما رفض توصية كلينتون وتم وضعها في الدرج. إلا أن أوباما وافق في فترة تسلم جون كيري لحقيبة الخارجية في العام 2013 فيما عُرف وقتها ببرنامج “السي آي إيه السري” مع الأخذ بعين الاعتبار أن المساعدات التي أقرها أوباما للمعارضة هي مساعدات غير قاتلة بمعنى غذاء واتصالات ودواء ولباس، مع استثناء دعمهم بالسلاح.
ويتابع فورد كلامه، أن تسليح المعارضة وفق ذلك البرنامج كان في سبتمبر/أيلول 2013 بعد استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية. بعد ذلك التاريخ أقر أوباما إجراءات إضافية، إلا أن تلك الإجراءات لم تكن تتضمن أسلحة فتاكة بإمكانها تغيير مجريات الأحداث على الأرض لصالح المعارضة، فيما اقتصرت على أسلحة خفيفة وحسب، كما يقول السفير.
المفاجئة!، أن واشنطن لم تكن تريد تغيير النظام بل كانت تحاول إجباره للذهاب إلى حل تفاوضي، وبسبب الدعم الإيراني المستمر للأسد ومن ثم دخول روسيا على الخط في العام 2015 تعقدت الأوضاع في سوريا، وبدأ موقف واشنطن يضعف مع مرور الوقت.
وقد أشارت صحيفة “واشنطن بوست” في تقريرها حول إلغاء برنامج الـ”سي آي إيه” أن هذا البرنامج شكل “عنصرًا محوريًا في السياسة، التي بدأتها إدارة أوباما عام 2013 للضغط على الأسد من أجل تنحيته”، لكنها أضافت أنه حتى أنصار الرئيس أوباما “وضعوا مدى فعاليته قيد الشك منذ نشر روسيا قواتها منذ سنتين في سوريا”.
قرار إلغاء برنامج السي آي إيه يعد تنازلا كبيرًا لروسيا واعتبر البعض أن بوتين قد انتصر في سوريا
واليوم وبسبب الأخطاء الأمريكية في عهد أوباما تجاه سوريا والتواجد الروسي والإيراني هناك، صار جل إرادة الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب هو تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، إلا أن فورد أشار في ختام حواره مع صحيفة الشرق الأوسط: أن اللعبة انتهت، تأخروا كثيرًا، أوباما لم يترك لإدارة ترامب الكثير من الخيارات لتحقيق هدفها.
فتأخر الإدارة الأمريكية عن اتخاذ إجراءات حاسمة في الوقت المناسب، أدى إلى تشبث إيران بسوريا لحماية الهلال الشيعي، وتدخل روسيا في سوريا عسكريا لدعم الأسد والحفاظ على مصالحها هناك، وأضحى بسبب هذا، مسار جنيف المدوعوم أمريكيًا، فاشلًا، بسبب الدعم الإيراني والروسي للنظام السوري، وتمكن روسيا من نقل ثقل المفاوضات إلى أستانة على حساب مسار جنيف.
روبرت فورد سفير واشنطن السابق في سوريا
على الرغم أن البرنامج لم يكن ذا تأثير كبير على المعارضة السورية، إلا أن إلغاءه يحمل رمزية مهمة، إذ يرى مسؤولون أمريكيون، أن ترامب يحاول التقرب أكثر من روسيا وإعطائها مفاتيح الحل هناك، ويتماهى هذا مع تركيز ترامب على عقد مفاوضات مع روسيا مؤخرًا حول اتفاقات بشأن إعلان هدنات محددة في مناطق بسوريا.
إذ تم إعلان التوصل عقب لقاء بين بوتين وترامب في قمة العشرين بهامبورغ، على اتفاق حول إقامة نظام لوقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا يشمل محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وتقع هذه المناطق على حدود سوريا مع الأردن والعراق وتنشط فيها منذ وقت طويل، فصائل سورية معارضة مدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
فورد يشير أن اللعبة انتهت في سوريا، الإدارة الأمريكية تأخرت كثيرًا، أوباما لم يترك لإدارة ترامب الكثير من الخيارات لتحقيق هدفها.
وتقول “واشنطن بوست” أن إلغاء برنامج تسليح المعارضة لم يدخل ضمن شروط هذا الاتفاق، التي بدأت المفاوضات حولها قبيل لقاء ترامب وبوتين بفترة بعيدة.
وأشار محللون إن هذا القرار يعد تنازلا كبيرًا، لروسيا وقال أحد المسؤولين الأمريكيين للصحيفة الأمريكية: إن القرار حيوي واعتبر أن “بوتين قد انتصر في سوريا”. وقال إيلان غولدنبيرغ، المسؤول السابق في إدارة أوباما ومدير برنامج الأمن في الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد حول هذا القرار “هذه الخطوة، على ما يبدو، إيماءة للسير باتجاه الواقع، إن هذا القرار مهم جدًا من أجل المنطقة فقد انتصر بوتين في سوريا”.
“إسرائيل” تهاجم اتفاق الجنوب وتركيا تفضح أمريكا الشمال
بعد التوصل لاتفاق الجنوب بين كل من روسيا وأمركيا والأردن، ومباركة ومشاركة من قبل “إسرائيل”، عاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التهجم على الاتفاق، للحصول على جزء أكبر من الكعكة السورية قبل انتهاء التوزيع، حيث تشير تقارير إسرائيلية أن نتنياهو يتطلع للحصول على اعتراف دولي في الجولان.
المثير للانتباه هنا ما كتبه محللون إسرائيليون حول اعتراض نتتياهو على خطة الجنوب عبر ممارسة ضغط على إدارة ترامب، أن نتنياهو يتجاهل هامش المناورة المتاح للولايات المتحدة في سوريا مقارنة بالدور الروسي الفاعل والقادر على التحرك بحرية وثقل أكبر.
إذ أشارت صحيفة إسرائيلية إلى أن روسيا خاضت مواجهة مع إيران من أجل تأمين المصالح الإسرائيلية، حيث ذكرت أن الإيرانيين رفضوا في البداية أن تتولى قوة شرطة روسية مهمة مراقبة وقف إطلاق النار في المنطقة، لكنهم عادوا وقبلوا “إملاءات” موسكو، على أمل أن تتمكن طهران من تأمين مصالحها في منطقة إدلب، والتي ستشرع باتصالات قريبًا بشأن تدشين منطقة حزام أمني في محيطها.
البرنامج السري المزعوم التابع لـ”سي آي إيه” لم يكن على درجة كبيرة من الجدية لدعم المعارضة، ولم يتم دعم الفصائل بالسلاح، كما يحصل الآن مع دعم القوات الكردية بالسلاح المتوسط والمعدات والدعم اللوجستي لتحرير مدينة الرقة من داعش.
وحدات حماية الشعب الكردية
مراقبون أشاروا أن موقف نتنياهو يهدف إلى إقناع القوى الدولية التي تؤثر على الأمور في سوريا بقبول إسرائيل كطرف فاعل في تحديد مسارات الحل السياسي والعسكري، وذلك بخلاف بسياسة “النأي بالنفس” التي طبقتها “إسرائيل” حيال سوريا حتى الآن، والقائمة على الحرص على تأمين المصالح الاستراتيجية والأمنية إلى جانب عدم التدخل المباشر في الحراك السياسي والأمني داخل سوريا.
إلى جانب أنه لا يمكن استبعاد أن يكون هدف نتنياهو من رفضه لاتفاق وقف إطلاق النار، الضغط على كل من الولايات المتحدة وروسيا لقبول قرار إسرائيل بفرض سيادتها على الجولان، وهو القرار الذي اتخذته دولة الاحتلال الإسرائيلي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ولم يحظ بتأييد دولي. وقد سبق أن دعا وزراء في حكومة نتنياهو، لا سيما بعد صعود ترامب للحكم، إلى إقناع واشنطن بتوظيف تدخلها في سوريا من أجل دفع بقية الفرقاء الدوليين لقبول السيادة الإسرائيلية على الجولان.
أما فيما يخص تركيا فقد سرّبت مخابراتها العسكرية معلومات تفصيلية عن أسماء ومواقع 10 قواعد عسكرية أمريكية، يفترض أن تكون سرية، منتشرة في شمال سوريا، وذلك في خطوة من شأنها تعميق أزمة العلاقات المتبادلة بين أنقرة وواشنطن، جراء الدعم الأمريكي لقوات كردية تعتبرها تركيا “إرهابية” وانفصالية.
حيث نشرت وكالة “الأناضول” الرسمية، باللغتين التركية والإنجليزية، تفاصيل ذات طابع سري عن 10 قواعد عسكرية أمريكية منتشرة في المنطقة الموصوفة بأنها تحت حكم ذاتي كردي بشمال سوريا، تمتد حوالي 200 ميل. وتضمنت تلك المعلومات أعداد العسكريين الأمريكيين في بعض القواعد، مع إشارات إلى وجود قوات خاصة فرنسية.
ومن شأن هذه المعلومات أن توتر العلاقات أكثر بين واشنطن وأنقرة بالأخص بعد اعتبار متحدث باسم القوات المركزية الأمريكية، أن تسريب تركيا لأسماء القواعد العسكرية الأمريكية أمر “بالغ الخطورة”.
الإغلاق النهائي لهذا البرنامج السري يعكس اهتمام ترامب بإيجاد سبل للعمل المشترك مع روسيا، التي تعتبر هذا البرنامج المناهض للأسد ضربًا لمصالحها
يترافق كل هذا مع اشتعال الجبهة في الشمال بين حركة أحرار الشام الإسلامية إحدى أكبر فصائل الجيش الحر في الشمال، وهيئة تحرير الشام، إذ وصفت المواجهات بأنها الأوسع جغرافيا والأكثر شراسة من سابقاتها. توقيت هذه المعركة يتزامن مع اتفاق خفض التصعيد الذي يعتبر كامل محافظة إدلب ومحيطها التي تسيطر عليها المعارضة هي المنطقة الأولى بين المناطق الأربعة، ويشير مراقبون أن هذا الاقتتال سيكون له دور في تحديد مصير الشمال السوري بالأخص أن كلام يدور حول إمكانية دعم تركيا لفصائل الجيش الحر ضد الهيئة.
كل ما سبق يشير إلى تغييرات جذرية في الصراع بسوريا، يتغير بعضها برؤية أمريكية واستراتيجية جديدة تقتضي تسليم روسيا لإدارة ملف الصراع في سوريا وفق ما تراه في أستانة، قد يكون الخاسر الأكبر فيها هي المعارضة التي سترغم على القبول بأنصاف حلول لم تكن تقبلها في الماضي، أبرزها بقاء بشار الأسد في السلطة في المرحلة المقبلة، وربما تحمل تلك التغييرات في الشهور المقبلة خطط تقسيم سوريا بشكل أكثر وضوحًا عمّا سبق، إلى مناطق نفوذ إيرانية وروسية وأمريكية وتركية.