في المقالة السابقة تعرضت لحدثين كبيرين مرا بمصر، ولجماعتين ظهرتا على رأس السلطة ولو ظاهريا.. حركة الضباط يوليو 1952 وثورة يناير 2011 وصعد الضباط مع الأولى وتولى الإخوان السلطة الإسمية في الثانية.. وخضت في وسيلتين من وسائل السيطرة على مفاصل الدولة قارنت فيها أداء الضباط بأداء الإخوان في الحالتين.. وفي هذه المقالة أطرح مزيدًا من الوسائل..
نجاحات في مواجهة إخفاقات:
(3) تطهير مؤسسات الدولة:
ومقارنة لما لم يفعله مرسي من إزاحة رجالات العسكر عن المناصب؛ حتى أن المشير طنطاوي الذي أشيع أنه تم عزله بقرار من مرسي لصالح تعيين السيسي مكانه وزيرا للدفاع ظهر في 2014 جنبا إلى جنب جوار السيسي مما يعني أن طنطاوي لم يُعزل بقرار قاهر من مرسي ولكن باتفاق أن يحل السيسي محله وأن الرجلين على وفاق تام وأن ما جرى للمدنيين من إقصاء وانقلاب عليهم بعد ذلك كان خطة مبيتة بين الرجلين طنطاوي والسيسي.
ولأن عبد الناصر كان أكثر وعيا بطبيعة العسكريين فإنه سارع بإقصاء من يراهم خطرا على مستقبل بقائه وبقاء دولته وحُكمه كما شهد بذلك فريد عبد الخالق عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان والصديق الشخصي السابق لعبد الناصر؛ قال: [فصل عبد الناصر عشرات الضباط المشتبه انتماءهم للإخوان، نقل ضباط الجيش، طلب قوائم بطلاب الإخوان لحرمانهم من دخول الجامعات.. وأدرك الإخوان أنه يدبر لهم أمرًا.. لكن لم يتخذوا إجراء.. حصل الإخوان على تقرير سري في 11 أغسطس 1954 أعدته المخابرات الحربية والبوليس السري لكن لم يستفيدوا منه.. ومحمود عبد الحليم وصف هذا بـ(الغفلة والبله)! كان الوضع ضبابيا ومأساويًّا وقال حسن العشماوي أن قيادات الإخوان كانوا (أبعد ما يكونون عن حقيقة المعركة)..] ().
(4) العزل السياسي للمناهضين:
ولأن السيطرة على الجهاز السياسي للدولة في غياب الديموقراطية تحتاج قمع التشغيب ومن ثم وأد الرأي الآخر فقد صدر «قانون العزل السياسي»! ومرة أخرى كان عبد الناصر أكثر وعيا من غرمائه الذين لم يستفيدوا من تجربته بعد 60 سنة فتدخلوا هم لمنع صدور قانون العزل السياسي أثناء سيطرتهم على البرلمان! وكذلك استضاف مرسي كثيرين ممن حقهم العزل وعرض عليهم مناصبا تأليفا لهم ثم رأيناهم في سياق الانقلاب عليه بعد ذلك لم يرتضوا الاتفاق معه لكن أحبوا الاتفاق عليه.
قال عبد الخالق عن عزل عبد الناصر لغرمائه: [1957.. والذين خرجوا كان قد صدر قرار عام بإقصاء كل موظف عن وظيفته «قانون العزل السياسي» فتحول الإخوان بعد أن كانوا ذوي أعمال ومحترمين وكنت في دار الكتب فصلنا كما فصل غيري وانقطعت الأرزاق وكان عندنا بيوت وأولاد] ().
مكر الثعالب ذلك الذي ميز سياسات عبد الناصر والعسكر من بعده إلا أن مرسي وفئته لم يمكروا كما ينبغي للسياسة أن تكون
(5) اتهامات ومكائد:
وكما أن الجهاز الإعلامي للدولة في 2011 قد تم توجيهه تماما ضد المعارضين لمبارك وفي 2012 تم تسليطه على المؤيدين لمرسي فقد كانت الآلة الإعلامية لعبد الناصر مسلطة بكل بهتان وزور على رأس معارضيه خاصا الذين نبت من بينهم وصعد على أكتافهم وحاك لهم المكيدة تلو المكيدة وأشهرها مسرحية محاولة اغتياله في المنشية التي يحكي عنها عبد الخالق قائلًا: [واختراق الجماعات ظاهرة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها.. ومحمود عبد اللطيف الذي أطلق على عبد الناصر كان معروفا لدى عبد الناصر منذ سنة 1951.. وكان من أكفأ رجال النظام الخاص وعبد الناصر كان يكلفه بعمليات خاصة ضد الانجليز في بورسعيد، وكان مشهورا بدقة إصابته ورغم ذلك لم يصب عبد الناصر.. كانت تمثيلية مُدَبَّرة! بقية العملية وتنفيذها كان تمثيلية واضحة ورديئة مليئة بنقاط الضعف] ().
ورغم مكر الثعالب ذلك الذي ميز سياسات عبد الناصر والعسكر من بعده إلا أن مرسي وفئته لم يمكروا كما ينبغي للسياسة أن تكون؛ ولو أرادوا لم يحتاجوا لتلفيق التهم فالجرائم موجودة والضحايا يشهدون لكن يبدو أن الفِكر المهادِن هو العامل هنا وأن التسامح في غير موضعه وحسن الظن في غير محلة –دعني أسميه الغفلة- هو الذي حجز مرسي عن مكر مشروع في عالم الدهاء.
(6) الإسراع باستئصال الخصوم:
العجيب أنه كما قدم العسكر للإخوان فرصة المحاسبة على طبق من ذهب بقتلهم 1500 شاب في أحداث يناير 2011 ولم يستغل الإخوان هذه الفرصة فإنه قد كان للإخوان فرصة تاريخية قبلها بـ60 سنة أيضا على طبق من ذهب كانت لتكون سلاحا في يدهم يستئصلون به العسكر دونما أدنى عناء وكان الاستئصال ليكون حينها جراحيا نظيفا في وقته قبل استفحال السرطان الذي تعانيه مصر الآن بعد 70 عاما من المرض المزمن؛ وهنا يحكي أيضا فريد عبد الخالق قائلًا: [1954.. وقدم نجيب استقالته وعاد وقامت مظاهرة في 28 فبراير وذهبت لقصر عابدين وكان على رأسها وكيل الجماعة عبد القادر عودة ومحمد مالك وإبراهيم كروم الذي كان من أشهر فتوات القاهرة وكانوا يحملون قمصانا ملوثة بالدماء لزملائهم، قامت بغرض إبعاد الضباط وعودة الحياة النيابية ونجيب لم ينجح في صرف المظاهرة وقام عودة وخطب وطلب منهم الانصراف فانصرفوا، وهذه مأساة تاريخية…
بعد المظاهرة بيومين اعتقل عبد القادر عودة وكروم ومالك والفراي ووجه لهم عبد الناصر تهمة محاولة قلب نظام الحكم، وأتاني كروم يبكي (بعد أن اقتربنا من إزالة العسكر عن الحكم قام عودة وضيَّع الثمرة!) وكان ثائرًا.. وكنت أتعجب من صحة موقف الرجل البسيط على القاضي المثقف…
الإخوان دوما مخترقة ويسهل تحريكها من الداخل وإشعال النعرات داخلها والثورات.. وكان لعبد الناصر قوة إشعال جذوة الخلافات
25 مارس أجبر الضباط على الالتزام بالعودة إلى الثكنات أفرج عن الإخوان والهضيبي زار عبد الناصر في بيته مهنئًا له وعاد نجيب إلى الحكم لكن صلاحيات الحاكم العسكري ذهبت لعبد الناصر…
بعد 4 أيام انطلقت هتافات (يسقط الدستور، تسقط الديموقراطية، يسقط المتعلمين) وخرجت مظاهرات انتهكت مجلس الدولة وضُرِب «السنهوري» بالحذاء.. وهناك درس من هذا لأن هذا قد يتكرر مع الإخوان وغيرهم من الجماعات: أن الجماعات لا تنتظر أن يُجهز الظالم على المظلوم!] ().
العجيب أنه في كلتا الحالتين ينكص الإخوان عن انتهاز الفرصة المشروعة في القضاء على العسكر فيتنبه العسكر لخطورة الإخوان التي لم يتنبهوا أنفسهم لها ويبادرون بالقضاء عليهم قبل أن يظهر فيهم من يعي قوة السلاح الذي في يده.. يبادرهم العسكر بالذبح مرة في إعدامات 1954 ومرة في مذابح 2013.. وما هذا السلاح إلا التأييد الشعبي الذي يكون دومًا قصير العمر ولا يمكن استخدامه إلا مفاجأة وفي غفلة من الخصم.. مرة واحدة أولا أبدًا!
(7) فرّق تسُد ثم لطِّخ بوصمة اللاشرعية:
ومع المكائد والهجوم الإعلامي لابد من ضرب البيت من الداخل حتى لا تقوم للخصم السياسي قومة.. لم يستطع الإخوان رغم طول وجودهم أن يخترقوا المؤسسة العسكرية والأمنية على مدار 85 سنة إلا الاختراق أيام الملك وهذا الكيان الخلوي داخل الجيش والشرطة استولى عليه عبد الناصر.. لكن الإخوان دوما مخترقة ويسهل تحريكها من الداخل وإشعال النعرات داخلها والثورات.. وكان لعبد الناصر قوة إشعال جذوة الخلافات.. وهنا يحكي مهدي عاكف قائلًا: [ولما فشلوا في شق الحركة مع السندي وفرقته، ثم في الهيئة التأسيسية المكونة من 125 كان منهم 50 مع عبد الناصر، وأجرت الإخوان انتخابات للهيئة التأسيسية لجوءًا إلى الشورى.. ويوم إعلان النتيجة حُلَّت الإخوان ووضعنا إلى السجن…
وكانت حادثة خطيرة هي قتل «سيد فايز» وبعض الناس اتهموا السندي وبعضهم اتهموا النظام وعلى رأسه السادات ولكن لا نعرف الحقيقة حتى اليوم، وكان فايز مسؤول النظام الخاص في القاهرة وحدث خلاف بينه وبين السندي. وأنا أبرأ إلى الله من أن يكون السندي قتله ويحدث هذا بين الإخوان.. لكنها مؤامرة من النظام ضد الإخوان ليضربوا الإخوان ببعض.. وظل التحقيق في القضية حتى 1965 لم يستطيعوا تحديد من القاتل.] (). محاولات إشعال الفتنة تعددت ولما لم تنجح إلا في انشقاقات جانبية ولم تصب القلب في مقتل كان قرار الحل ليصبح عمل الخصوم غير قانوني وبالتالي يجوز فيهم ما يجوز في المجرمين وما جريمتهم إلا مخالفة حكم الفرد.
ونستعرض مزيدا من النجاحات والإخفاقات في المقالة القادمة إن شاء الله..