بينما كان من المنتظر إقدام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على إجراء تعديلات حكومية عقب عودته إلى الحزب مباشرة، عملًا بالمواد الدستورية التي تم الاستفتاء عليها شعبيًا في 16 من نيسان/أبريل والتي قضت بالسماح للرئيس بالعودة إلى قيادة الحزب، تأخرت التعديلات، وحصلت يوم الأربعاء 19 من تموز/يوليو.
أسفرت التعديلات عن تعيين 6 وزراء جدد، وفصل 6، وتغيير 5 لمناصبهم، وفي ضوء ذلك، ما دلالات توقيت وحيثيات هذه التعديلات؟
قبل كل شيء، لا بد من الإشارة إلى أن التعديلات تخاطب الداخل أكثر من الخارج، والدليل على ذلك تزامنها مع بدء الحديث عن التحضيرات للانتخابات البلدية التي قد تُجرى عام 2018 أو قد تؤجل وتتوازى مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي من المزمع إجراؤها مطلع عام 2019.
وفي سياق الإشارة إلى برنامج الإصلاحات السياسية والاقتصادية التنموية الذي حددت مدته بـ180 يومًا، يتضح الهدف من إجراء التعديلات في الوقت الحالي بشكل أكبر، ذلك الهدف الذي يتجلى في المسعى الحكومي لإثبات نجاعة النظام الرئاسي للمواطنين الأتراك والاستمرار في كسب دعم الداعمين واستقطاب المترددين الراغبين في الدعم ولكن يريدون إجراءات تقنعهم بذلك.
أظهرت نتائج الاستفتاء أن عددًا كبيرًا من الشباب لم يصوت لصالحه، لذا رأت الحكومة التركية، على ما يبدو، ضرورةً معالجة هذا الأمر
وبما أن البرنامج كان الهدف منه إعداد الأرضية المناسبة الداعمة للحملات الانتخابية الخاصة بحزب العدالة والتنمية، لوحظ أن الحزب اعتمد في تحقيق هدفه على ثلاثة معايير أساسية في صياغة تعديلاته:
ـ التوازن الإقليمي أو المناطقي: ولا شك في أن هذا المعيار كان يُشكل أمرًا مهمًا لمعالجة حالة الشرخ الإقليمي الواضحة التي ظهرت إبان عملية الاستفتاء، حيث مالت نسبة التصويت في عدة مدن كبرى وبعض المدن المهمة لصالح “لا”، فكان لا بد من صياغة تعديلات تضم وزراء من المدن الكبرى كأنقرة وبورصة وسامسون وغازي عنتاب وشانلي أورفا وأضنة، وهذا ما تم.
ـ الإخلاص والولاء: يشكل هذا المعيار أهمية قصوى لمرحلة الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وبالتالي العودة على حزب العدالة والتنمية بالتأييد الشعبي الجيد للعمليات الانتخابية، أيضًا، يحمل بين طياته أهمية كبيرة لعملية محاربة عناصر “جماعة غولن” المتغلغلين داخل مؤسسات الدولة.
ـ السن: أظهرت نتائج الاستفتاء أن عددًا كبيرًا من الشباب لم يصوت لصالحه، لذا رأت الحكومة التركية، على ما يبدو، ضرورةً معالجة هذا الأمر عبر الإبقاء على الوزراء الشباب، وتعيين وجوهًا شابة جديدة كان أبرزها وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية جوليدا ساري أر أوغلو.
ويبدو من سياق التعديلات وتوقيتها، أن حزب العدالة والتنمية اعتمد في تحقيقها على استراتيجيتين أساسيتين:
1ـ استراتيجية “شعب بعقل سمكة”: هذه الاستراتيجية ليست خاصة بحزب العدالة والتنمية فقط، بل استراتيجية تتبعها جميع الأحزاب السياسية حول العالم، بهدف التغطية على حدث سياسي سلبي ما، وإبداله بأحداث إيجابية أخرى تساهم في ذلك، وكون المواطن مُعرض لمئات الأحداث السياسية المتتابعة بشكل يومي، يحمل، قسرًا، عقل السمكة الذي يزداد نسيانًا مع تسليط الحكومة الضوء على حدث آخر، والترويج له بشكل فعال، ويمكن سرد هدف حزب العدالة والتنمية من الاعتماد على هذه الاستراتيجية في الأهداف التالية:
ـ استقطاب القاعدة القومية بشكل أكبر عبر إخراج توغرول توركيش الذي انضم إلى حزب العدالة والتنمية عام 2015، منفصلًا عن حزب الحركة القومية الذي رفض في حينه تأسيس حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية الذي كان، عقب انتخابات أول تشرين الثاني/نوفمبر، بحاجة لشريك سياسي يشكل معه هذه الحكومة.
تقارب حزب العدالة والتنمية من حزب الحركة القومية، ورغبته في الإبقاء على هذا التقارب وتطويره في الانتخابات القادمة والإبقاء على القاعدة القومية التي تؤيده ولكنها تعارض ضمه توركيش، أديا، على الأرجح، إلى دفعه نحو إخراج توركيش.
سعى الحزب إلى مواجهة الصدمة التي قد تصيب قاعدته القومية التي تؤيده نكايةً بزعيم حزب الحركة القومية
ـ استقطاب المحافظين عبر ضم الوزير في حكومة نجم الدين أربكان، زعيم حزب السعادة الأسبق، أحمد داميرجان الذي تولى حقيبة الصحة، وإبعاد وزير الثقافة والسياحة نابي أفجي، الذي قاد عملية التطبيع الثقافي والتعليمي والسياحي مع “إسرائيل”، في ظل وجود حالة من التراشق الإعلامي بين المحافظين ومسؤولي حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان، حول آلية التقارب المتبعة.
عارض المحافظون آلية التقارب، ووصفوها “بالمهينة”، وردًا على ذلك، هاجمهم الرئيس أردوغان، متسائلًا: “هل أخذوا الإذن من حكومته للذهاب إلى غزة عام 2009″؟ الأمر الذي فسره طيف كبير من المحافظين على أنه تنصل واضح من حزب العدالة والتنمية عن حقوقهم ومبادئهم المساندة للقضية الفلسطينية، فكان لا بد من معالجة الأمر.
ـ استقطاب العلمانيين المؤيدين لخاصية الشمولية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية، والتي تراجع عنها قليلًا إبان الحملة الترويجية للتعديلات الدستورية، وظهر ذلك جليًا في تعيين جوليدا أر أوغلو ـ ذات الخلفية العلمانية ـ وزيرة للعمل والشؤون الاجتماعية.
معالجة حالة الشرخ الشعبي المناطقي التي ظهرت عقب الاستفتاء
2ـ استراتيجية “مواجهة الصدمة بشكل استباقي وقائي”: تعتبر هذه الاستراتيجية ثانوية مقارنة بالاستراتيجية الأولى، وعلى ما يبدو، فإن الهدف منها مواجهة الصدمة التي قد تُحدثها الزعيمة السابقة في حزب الحركة القومية ميرال أق شنار، التي تنوي تأسيس حزب جديد ذي صبغة قومية بالتعاون مع ثلة من الزعماء الآخرين المنفصلين عن الحزب.
فعلى الأرجح، سعى الحزب إلى مواجهة الصدمة التي قد تصيب قاعدته القومية التي تؤيده نكايةً بزعيم حزب الحركة القومية دولت باهجلي، الذي يقود الحزب منذ 20 عامًا، والذي تريد هذه القاعدة منه التخلي عن القيادة.
فتشكيل أق شنار لحزب قومي قد يُفقد حزب العدالة والتنمية هذه القاعدة، لذا سعى من خلال الترويج لمشاريع تنموية جديدة والإبقاء على وزير الداخلية سليمان سويلو، المعروف بضراوته تجاه الإرهاب، وتعيين نور الدين جانيكلي، المصيغ لحالة الطوارئ الساعية إلى محاربة عناصر غولن المتغلغلة داخل مؤسسات الدولية وعناصر حزب العمال الكردستاني، وزيرًا للدفاع.
وأخيرًا، كان اللافت في التعديلات، تقريب بكر بوزداغ وزير العدالة الأسبق، إلى رئاسة الوزراء عبر تعيينه نائبًا لرئيس الوزراء، وتعيين نور الدين جانيكلي وزيرًا للدفاع، وهما اللذان صاغا حالة الطوارئ، الأمر الذي يدلل على رفع الحكومة التركية لإجراءاتها المجابهة لتغلغل جماعة غولن داخل الدولة، تعيين عبد الحميد غل الذي ساهم في صياغة التعديلات الدستورية وقاد عملية التفاوض مع حزب الحركة القومية لإقناعه بمساندة حزب العدالة والتنمية خلال عملية الاستفتاء، وبالركون إلى دوره الفعال في عملية الاستفتاء، يُستدل على أن تعيينه في هذا المنصب بالتحديد جاء في إطار مسعى الحزب لتسهيل “عملية المواءمة” التي سيتم اتباعها في إطار تحويل تركيا من دولة برلمانية إلى دولة رئاسية.
في المحصلة، يبدو أن الهدفين الأساسيين للتعديلات الحكومية يتجليان في تهيئة القاعدة الشعبية المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، والنظر في عملية تحويل نظام الدولة من برلماني إلى رئاسي.