أعادت الأنباء عن اعتزام جامعة طهران الحكومية فتح فرع لها في دمشق تسليطَ الضوء مجددًا على الغزو الثقافي الإيراني في سوريا، وهو النشاط الذي ركّزت عليه إيران لتعزيز نفوذها غير العسكري في سوريا منذ ما يزيد عن 3 عقود، من خلال افتتاح عشرات الحوزات والحسينيات والمقامات الدينية والمستشاريات الثقافية، مستغلة تواطؤ النظام والعلاقات “المتميزة” التي تجمعها به.
وليست المرة الأولى التي تفتتح فيها الجامعات الإيرانية فروعًا لها في سوريا، لكن هذه المرة قد تكون الأخطر، لأن جامعة طهران هي جزء من النظام الإيراني، باعتبارها حكومية ولا تمثل مؤسسة تعليمية مستقلة.
وأكد رئيس جامعة طهران الحكومية، محمد مقيمي، قبل أيام أن الجامعة تستعد لافتتاح فرع لها في دمشق، مضيفًا، بحسب موقع الجامعة الرسمي، أنه ناقش مع سفير بلاده في سوريا افتتاح الفرع في دمشق، معتبرًا أن مستوى علاقات بلاده العلمية والأكاديمية مع سوريا “غير مرضٍ”.
وما يبدو واضحًا أن الخطوة الإيرانية الجديدة تأتي استكمالًا للنشاط الهادف إلى اختراق التعليم العالي السوري، وخلق نخب أكاديمية متصالحة مع مشروعها، بعد أن تغلغلت سابقًا في التعليم ما قبل الجامعي، عبر الاتفاقات التي أبرمتها مع النظام السوري بخصوص المناهج الدراسية وتعديلها وطباعتها، فضلًا عن المدارس الدينية التي افتتحتها في دمشق واللاذقية وغيرها من المحافظات السورية.
وليس من اليسير تتبُّع كل أنشطة إيران الثقافية والدينية في سوريا، لكن ما يمكن الجزم به هو أن تحركات إيران في هذا المجال أوسع بكثير ممّا هو بادٍ للعيان، خاصة أن تاريخ توغل إيران الديني والثقافي في سوريا يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي.
اتفاقات ومذكرات تفاهم بالجملة
وعلى مدار العقد الماضي، وقّعت إيران نحو 14 اتفاقية تعليمية وثقافية مع حكومة النظام السوري، في مجالات التعاون العلمي والبحث العملي وإنتاج المحتوى الديني المعرّب والتبادل الطلابي وغيرها.
وقبل ذلك، بنت إيران حوزات ومقامات في مدن سورية عديدة انطلاقًا من منطقة السيدة زينب بضواحي العاصمة دمشق، وبحسب دراسة نشرها مركز حرمون للدراسات عام 2018، تحت عنوان “مؤسسات النفوذ الإيراني في سوريا وأساليب التشييع”، وصل عدد الحوزات العلمية الشيعية إلى 69 حوزة، علمًا أن سوريا كانت خالية تمامًا من أي حوزة علمية شيعية قبل عام 1976.
كذلك أسّست طهران جمعيات خيرية وأخرى للأطفال تنشط في مجال إقامة المعارض والرحلات الترفيهية للأطفال، وتحدثت الدراسة عن “نشاط غريب وغير تقليدي” مقارنة بما ينبغي أن تكون عليه جمعيات الأطفال، إذ تغسل هذه الجمعيات عقول الأطفال غسلًا منظَّمًا، عن طريق جمعهم في قاعات مجهّزة بآلات عرض، وسرد بعض القصص والأفلام حول أهمية الثأر للحسين، وتنشر صور بعض الأطفال باللباس العسكري، ويحملون علم إيران وصور الخامنئي في مسيرات ومواكب حسينية في مناسبات متعددة.
كما نوّهت الدراسة إلى استعانة إيران بشخصيات علمية ودينية متشيّعة فاعلة في مؤسسات الدولة السورية، لتحقيق مزيد من الاختراق الثقافي والتعليمي في سوريا، منهم رئيس جامعة دمشق السابق هاني مرتضى، ووزير التربية السابق علي سعد، ووزير الإعلام السابق عمران الزعبي.
إيجاد موطئ قدم
بالتوازي، قدمت إيران التسهيلات للطلاب السوريين للدراسة في جامعاتها، وزادت من المنح المجانية والبعثات للطلاب الجامعيين السوريين.
ويقول مدير مؤسسة الذاكرة السورية ومؤلف كتاب “البعث الشيعي في سوريا”، عبد الرحمن الحاج، إن المدخل الثقافي خلق لإيران موطئ قدم في سوريا لتحقيق هيمتنها وتثبيت مكاسبها الاستراتيجية في سوريا.
ويضيف لـ”نون بوست” أن إيران ركزت بشكل واضح على الجانب الديني والثقافي السوري، ووقعت اتفاقيات في عام 2019 حول “تطوير” مناهج التعليم، وهذا يتعلق بالتعليم الأساسي وما دون الجامعي، علمًا أن هذه مسألة سيادية للدول، ومع ذلك استطاعت إيران الدخول إلى المناهج التعليمية.
أما بخصوص التعليم العالي، يؤكد الحاج أن محاولات إيران الهادفة إلى التغلغل في التعليم العالي لم تبدأ بجامعة طهران الحكومية، حيث افتتحت 5 جامعات إيرانية خاصة فروعًا لها في سوريا بعد عام 2011، مثل جامعة المصطفى الدولية وآزاد/ الجامعة الإسلامية الإيرانية الحرة.
ورغم أن إيران تعتبَر من الدول غير المتقدمة في التعليم، كما يقول الحاج، إلا أنها تتخذ التعليم “وسيلة” للحصول على كوادر من خلال طلاب الجامعات، واجتذابهم بالميزات التي ستمنحها لهم.
انتقائية في الجامعات
من جانبه، يشكّك الباحث المختص بالشأن الإيراني، غداف راجح، في جدّية جامعة طهران الحكومية بافتتاح فرع في دمشق، ويقول لـ”نون بوست”: “حتى لو كان الإعلان جادًّا فإن الفرع سيكون لغرض تعليم اللغة الفارسية، ولن يتم تدريس أي أقسام طبية أو علمية فيه”.
ويرجع ذلك إلى تجنُّب إيران رفع سوية المجتمع السوري العلمية، ويدلّ على ذلك وجود جامعات إيرانية “محترمة وعلى سوية عالية من الكفاءة العلمية”، مثل جامعة شريف للتكنولوجيا، ويتساءل: “لماذا لا تفتح إيران في سوريا إلا الجامعات الدينية والأدبية؟”.
ويكمل راجح: “نسمع منذ فترة طويلة عن جامعات أخرى كان يفترض أن تفتتح فروعًا لها في سوريا، مثل جامعة تربية مدرس، غير أن كل هذه التصريحات بقيت حبرًا على ورق، وهو الأمر الذي اعترف به رئيس جامعة طهران الحكومية محمد مقيمي، حين وصف علاقات بلاده العلمية مع سوريا بـ”غير المرضية””.
ضمان الولاء لإيران
وبذلك يبدو أن هدف إيران من خلال التغلغل الديني والتعليمي، هو إيجاد شريحة متأثرة بثقافتها، و”نخب” قادرة على التأثير في الأجيال السورية القادمة، لاستدامة الولاء لها.
وهنا يقارن راجح بين مشروع روسيا “غير الديني” في سوريا ومشروع إيران “التبشيري”، ويقول: “اتجهت روسيا إلى الاستثمار العسكري والاقتصادي، أما إيران ركزت على الجانب الثقافي والاجتماعي لإنتاج مراكز قوى في سوريا، وهذه المراكز ستكون لاحقًا نقاط ارتكاز لها”.
وإلى جانب الولاء والأهداف بعيدة المدى، ساعد التوغل الديني والثقافي والتعليمي الإيراني في سوريا طهران على نشر التشيُّع، وتجنيد المقاتلين المحليين في الميليشيات التابعة لها، ما مكّنها في نهاية المطاف من بناء شريحة محلية موالية لها على الأصعدة العسكرية والسياسية والثقافية.