بعد تصدرهم قوائم الأحزاب الموالية للسلطة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وعلى رأسها حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم الذي يرأسه جمال ولد عباس، والحزب الثاني في البرلمان الحالي التجمع الوطني الديمقراطي ورئيسه أحمد أو يحيى، وفوزهم بالعديد من المقاعد المهمة في كبرى المدن الجزائرية، مما يؤكد رهان السلطة على رجال الأعمال وأصحاب المال، انقلبت الحكومة الحالية برئاسة عبد المجيد تبون عليهم وبدأت في عملية استرجاع السلطة من أصحاب المصالح حسب قول مقربين منها، فما أسباب ذلك؟
تغول المالي السياسي على السلطة
مباشرة بعد تعيينه على رأس الحكومة خلفًا لعبد المالك سلال، بدأ عبد المجيد تبون ما يصفها بالحرب على لوبيات المال، وبمناسبة عرض برنامج حكومته للمناقشة والمصادقة صرح تبون أمام نواب المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) أنه من اليوم فصاعدًا ستكون هناك حدود واضحة بين الدولة ورجال الأعمال، وسيتم التفريق بين السلطة والمال.
وأشار تبون خلال عرضه لمخطط عمل الحكومة أمام نواب المجلس الشعبي الوطني الجديد، إلى أن الجزائر بلد الحريات ومن حق أي مواطن أن يمارس السياسة أو المال، لكن بفصلهما ودون الجمع بينهما، وأنه سيتم التأكيد على هذا التفريق وليسبح بعدها كل في فلكه، وقال أيضًا: “قد يروج أننا سنصطدم بأصحاب المال، فهذا غير صحيح، بل نحن متيقنون أن الثروة لا تأتي إلا بالمؤسسات الاقتصادية، فالمال لن يتوغل في دواليب الدولة”.
أصبح نادي رجال الأعمال الذي يقوده علي حداد يتدخل بشكل لافت في صناعة القرار السياسي ووصل به الأمر إلى تعيين وزراء وولاة محافظين
تصريحات رأى فيها مراقبون انقلابًا على نفوذ اللوبي المالي الذي تغلغل بقوة في مؤسسات ومفاصل الدولة منذ الانتخابات التشريعية سنة 2012، وصار لاعبًا مهمًا في التوازنات الداخلية للسلطة، وبدا هذا الانقلاب جليًا بعد أن ألغى تبون قرارًا أصدره سلفه عبد المالك سلال في الساعات الأخيرة قبل مغادرته لقصر الحكومة، تم بموجبه إصدار قرارات استفادة لشخصيات نافذة في عالم المال والأعمال والإدارة من مزارع فلاحية حكومية تمسح 120 هكتارًا بضاحية الأندلسيات في محافظة وهران غرب البلاد، وأمر بإعادة النظر في مشروع تركيب السيارات الذي هيمن عليه منتسبو منتدى رؤساء المؤسسات.
وخلال رئاسته للحكومة الجزائرية منذ مايو 2013 عمل عبد المالك سلال على تقوية نفوذ أصحاب المال ليكونوا عونًا له، حتى أصبح نادي رجال الأعمال الذي يقوده علي حداد يتدخل بشكل لافت في صناعة القرار السياسي ووصل به الأمر إلى تعيين وزراء وولاة محافظين، كما تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية حين فتح مكتبه لاستقبال سفراء أجانب وإصدار قرارات تتجاوز أحيانًا سلطة رئيس الوزراء وتقترب من صلاحيات رئيس البلاد.
نهاية عهد نفوذ المصالح وتغول المال السياسي داخل مؤسسات الدولة؟
منذ تقلّده منصب رئيس الحكومة ما فتئ تبون يبعث برسائل لتحالف اللوبي المالي والسياسي مفادها نهاية عهد نفوذ المصالح وتغول المال السياسي داخل مؤسسات الدولة، حتى إنه استغنى عن خدمات مدير ديوان مصالح رئيس الوزراء مصطفى رحيال، الذي عين في حكومة سلال السابقة بإيعاز من رجل الأعمال النافذ علي حداد، ويعد حداد من أبرز رجال الأعمال في الجزائر، وله نفوذ كبير في الوسط السياسي والإعلامي حيث يملك مجمعًا إعلاميًا يضم قناتين تلفزيونيتين وصحيفتين، كما يدير نادي اتحاد العاصمة لكرة القدم، ويعد أحد المقربين من شقيق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، سعيد بوتفليقة، ويستفيد من الحصول على مشاريع تعبيد الطرقات بشكل مثير للتساؤل في مختلف المدن الجزائرية.
وظل حداد حتى الانتخابات التشريعية التي جرت في مايو الماضي يمثل الذراع المالية للسلطة وأحد الحلقات المهمة الدائرة بقصر المرادية، وصاحب نفوذ كبير في توجيه سياسة الحكومة وتسمية الوزراء والمسؤولين الكبار في المؤسسات الرسمية، حيث تحول مكتبه إلى وجهة شبه رسمية يستقبل فيها السفراء والوزراء والفاعلين في مختلف القطاعات الرسمية وغير الرسمية.
تحدثت تقارير إعلامية عن ملفات فساد تورط فيها وزير الصناعة السابق في حكومة سلال عبد السلام بوشوارب والذي يعتبر أحد أذرع رجال الأعمال في الحكومة
إلى جانب ذلك أقدمت الحكومة على إرسال مجموعة من الإنذارات لشركات علي حداد تتعلق بالتأخر في تنفيذ بعض مشاريع البنية التحتية التي يقومون بتنفيذها، وقبل تلك الإنذارات كانت حادثة أخرى قد أسالت الكثير من الحبر وتمثلت في رفض تبون لقاء حداد خلال معاينته لإحدى مدارس التكوين بالعاصمة، وإصداره أمرًا لمعاونيه بطرد حداد من القاعة قبل وصول رئيس الجهاز التنفيذي.
قبل ذلك كانت تقارير إعلامية قد تحدثت عن ملفات فساد تورط فيها وزير الصناعة السابق في حكومة سلال، عبد السلام بوشوارب، والذي يعتبر أحد أذرع رجال الأعمال في الحكومة، بلغت قيمتها 70 مليار دينار وأن مصالح الأمن بدأت التحقيق في القضية، بوشوارب الذي كان أحد الشخصيات المهمة في الحكومة السابقة وأثار إبعاده تساؤلات كثيرة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى إبعاد مدراء مركزيين كانوا يشتغلون معه كما تمت مراجعة بعض القرارات التي اتخذها قبل رحيله.
الحادثة التي أفاضت الكأس
حادثة رفض رئيس الحكومة مقابلة علي حداد خلال إشرافه على ندوة بمدرسة الضمان الاجتماعي في العاصمة كانت القطرة التي أفاضت الكأس، فبعدها مباشرة اجتمع ممثلو المركزية النقابية وعدة تنظيمات لأرباب العمل ليصدروا بيانًا شديد اللهجة ضد رئيس الحكومة، وجاء في بيان المنظمات أن الموقعين على العقد الوطني للنمو الاقتصادي والاجتماعي يعبرون عن قلقهم العميق بشأن المعاملة التي تعرض لها رئيس منتدى رؤساء المؤسسات.
رجل الأعمال النافذ علي حداد
واعتبرت هذه المنظمات أن من شأن تصرف رئيس الحكومة الجزائرية نسف التوافقات السابقة الموقعة بين الحكومة واتحاد العمال ومنتدى رجال الأعمال، قائلة “تصرف الوزير الأول يلحق الضرر بروح ورسالة العقد الوطني للنمو الاقتصادي والاجتماعي، في حين نحن نعيش مرحلة أساسية لتكريس ثقافة الحوار الاجتماعي بين الحكومة وشركائها الاجتماعيين“، والعقد الوطني الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر هو اتفاق ثلاثي الأطراف ينظم العلاقة بين الحكومة والنقابات وأرباب العمل، ويشرح حقوق كل طرف في تعامله مع الآخر، ويجدد كل 5 أو 6 سنوات كان آخرها في فبراير/شباط 2014.
وأضافت في بيانها “التعقل والحكمة يرغماننا في الوقت الحالي على عدم الإضرار بالإجماع الوطني، الذي تطلب الكثير من المجهودات لتحقيقه، ونبقى على اقتناع أن الحوار هو السبيل الوحيد لتحقيق وديمومة السلم والاستقرار الاجتماعي”، واعتبروا أن تصرف تبون يصعب تقبله وتجرعه، ويعتبر ضربة للميثاق الاجتماعي والاقتصادي الموقع بين الحكومة وأصحاب البيان في إطار حوار بادر به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
الأرباب والعمال.. ما الذي جمعهم؟
اللافت في هذا الصراع تحالف اتحاد العمال ومنظمات أرباب الأعمال، حيث شكلت مشاركة زعيم أكبر نقابة عمالية في الجزائر عبد المجيد سيدي السعيد، إلى جنب علي حداد في الاجتماعات الأخيرة للرد على إجراءات الحكومة، مفاجأة سياسية كبرى بالنظر إلى التناغم الذي درجت عليه قيادة اتحاد الشغل مع رئاسة الحكومات السابقة، فقد ظلت النقابة المركزية توصف بأنها يد الحكومة الجزائرية لتزكية قراراتها الاجتماعية ودعم إجراءاتها الاقتصادية.
واعتبر مراقبون دفاع نقابة العمال عن رجال الأعمال في الجزائر خرقًا للتقاليد النقابية والعمالية، كونه لأول مرة في تاريخ النقابة الموالية للسلطة يتحالف شركاء اجتماعيون مع منظمات أرباب العمل في صراعها المصلحي مع الحكومة، وتصب ولو شكليًا في صالح المكتسبات الاجتماعية والعمومية.
يؤكد متابعون للشأن السياسي الجزائري إمكانية لجوء قيادة المركزية النقابية إلى توظيف ظروف وتداعيات الأزمة الاقتصادية على الجبهة الاجتماعية، لتأليب قواعدها العمالية
وتمسك عبد المجيد سيدي سعيد، الأمين العام الذي قضى ما يقارب العقدين على رأس أكبر تنظيم نقابي تاريخي، بدعم حداد قائلًا: “من يستهدف علي حداد، فكأنما يستهدفني أنا أيضًا”، وهي اللهجة التي تنم عن تحالف مناف لتقاليد التنافر بين الشركاء الاجتماعيين وأرباب العمل، ويخفي تحالفًا مريبًا بين التناقضات، ويؤكد متابعون للشأن السياسي الجزائري إمكانية لجوء قيادة المركزية النقابية إلى توظيف ظروف وتداعيات الأزمة الاقتصادية على الجبهة الاجتماعية، لتأليب قواعدها العمالية في شكل احتجاجات وإضرابات، من أجل الضغط على الحكومة للتراجع عن توجهاتها المناوئة لمصالح رجال الأعمال.
وردًا على اجتماع رجال الأعمال والنقابات، أصدرت مصالح الوزير الأول، الأربعاء الماضي، بيانًا أكدت فيه تكريس الفصل بين السلطة السياسية والمال المدرج ضمن مخطط عمل الحكومة، وشددت على أنه لا شيء يثني إرادة الحكومة التي ستظل ملتزمة بحزم بإنجاز الأهداف الموضوعة في مخطط عملها، في إشارة إلى عدم رضوخ الجهاز التنفيذي لأصحاب المال والنقابات.
التحضير لانتخابات 2019
وإن بدا الصراع بين الحكومة من جهة ومنظمات أرباب العمل والنقابات العمالية من جهة أخرى نتيجة ما تعتبره الحكومة تغلغل المال السياسي في دواليب الدولة، فإن مراقبين يؤكدون عكس ذلك ويرون فيه صراع أجنحة تحضيرًا للانتخابات الرئاسية القادمة وخلافة عبد العزيز بوتفليقة في كرسي الرئاسة، فقد بات واضحًا أن هناك تفكير جدي في بعث روح جديدة في أسلوب الحكم، وأن الوقت قد حان لاستباق أي طارئ قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
مساع حثيثة بين أجنحة السلطة لخلافة بوتفليقة
فبعد الإطاحة بعبد المالك سلال الوزير المقرب لبوتفليقة الذي عينه في سبتمبر 2012 وزيرًا أولًا بعد أن كان يشغل خطة وزير الموارد المائية ووزير النقل بالنيابة خلفًا للوزير الأول الأسبق أحمد أويحيى (الأمين العام للتجمع الوطني الديموقراطي ثاني أكبر حزب موالٍ)، واستبعاده من منصب رئاسة الحكومة، جاء الدور الآن على أعوان سلال من رجال الأعمال.
ففي فترة ترأسه الحكومة تصاعد دور رجال الأعمال في الحياة السياسية الجزائرية بشكل لافت، خصوصًا داخل منتدى رجال الأعمال الذي يقوده علي حداد، إحدى أبرز الشخصيات المقربة من الدائرة الرئاسية، ويمنح الدستور الجزائري حصانة لنواب البرلمان طيلة المدة النيابية المحددة بـ5 سنوات قابلة للتجديد، ويخشى الجزائريون من احتمال تأثير رجال المال والأعمال على بعض مقومات اقتصاد بلادهم، في أثناء وجودهم في البرلمان، من خلال تعطيل بعض الاستثمارات أو توجيهها نحو منحى آخر، مستغلين في ذلك حصانتهم الدبلوماسية، حسب العديد من المتابعين.