بعد اشتباكات دامت لثلاثة أيام متواصلة بين قطبي الشمال السوري (حركة أحرار الشام الإسلامية (إحدى أكبر فصائل المعارضة السورية) وهيئة تحرير الشام (المشكلة من عدة فصائل تعد “فتح الشام” أو جبهة النصرة سابقًا عمودها الرئيسي)، تشهد محافظة إدلب هدوءًا ثقيلًا بعد التوصل لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار بينهما، بعدما سقط عشرات القتلى والجرحى بين الطرفين بينهم مدنيين.
وذكر الفصيلان في بيانين منفصلين أنّ “الاتفاق ينص على وقف إطلاق النار، كما يشمل إطلاق سراح الأسرى من الطرفين، والانسحاب من معبر باب الهوى وتسليمه لإدارة مدنية”، وبعد الاتفاق سيّرت هيئة “تحرير الشام” أرتالاً عسكرية جالت في المحافظة، احتفالًا بما وصفه مقاتلوها بـ”الانتصار” في المعركة.
بدأ الاقتتال بين الفصيلين يوم الأربعاء الماضي، حيث شنّت الهيئة فيه هجومًا على مواقع لأحرار الشام، كما سيطرت على كثير من المواقع التابعة للحركة، وتمكنت الهيئة من إطباق الحصار على معبر باب الهوى، على الحدود السورية التركية، أمس الجمعة واليوم السبت وسط تأكيدات من حركة أحرار الشام أنها لا تزال تمسك بالمعبر ولم تنسحب منه.
تجدد الاشتباكات
لا تزال أخبار الاشتباكات بين الهيئة والأحرار متواترة، في الوقت الذي أكدت فيه مصادر محلية أن الاشتباكات تجددت في قرى وبلدات عدّة بريف إدلب بالشمال السوري، خصوصًا القرى الحدودية مع تركيا، في ظل محاولة هيئة تحرير الشام السيطرة على معبر “باب الهوى” الذي أكدت حركة أحرار الشام استمرار سيطرتها عليه، في حين قال الناطق العسكري باسم أحرار الشام عمر خطاب، أمس الجمعة، إن اجتماعًا يجري حاليًا بين قادة من الطرفين للمناقشة والتشاور، إلا أن مسألة اتفاق وقف إطلاق النار والتوصل لاتفاق نهائي لا يزال ضبابيًا في المحافظة.
تحسست هيئة تحرير الشام أن نهايتها اقتربت مع اقتراب استحقاق تطبيق اتفاق أستانة في إدلب، لذا رأت أنسب وسيلة لتأجيله وتخريبه الانقضاض على فصائل المعارضة قبل أن يأتي الدور عليها
وكان الجانبان وافقا على مباردة لوقف القتال أطلقها بعض المشايخ ونصّت المبادرة، التي صدرت عن ثلاثة مشايخ هم: أبو محمد الصادق، عبد الرزاق المهدي، أبو حمزة المصري، على “تفويض ثلاثة أشخاص مخوّلين باتخاذ القرار نيابة عن كل فصيل، على أن يُرجّح ثلاثة مستقلين آخرون القرارات المتفق عليها بين الطرفين”، ودعت المبادرة إلى وضع رؤية ملزمة وشاملة، تراعى من خلالها الحقوق السياسية والعسكرية والمدنية للأطراف جميعًا، خلال سبعة أيام من تاريخ بدئها”.
حصيلة الاشتباكات النهائية حتى الآن بحسب مصادر محلية سيطرة تحرير الشام على “نقطة 106” المطلة على معبر باب الهوى عند الحدود السورية التركية، وباتت الهيئة تحاصر معبر باب الهوى بشكل كامل من جميع الجهات، والذي يحتوي على عدد من مقاتلي الحركة ومقاتلين تابعين لدرع الفرات المدعومة من تركيا، كما استعادت الهيئة أيضًا السيطرة على نقطة حطين، بعد سيطرة حركة أحرار الشام عليها ليومين، وأعلنت سيطرتها على بلدتي أطمة وبابسقا دون التعرض لمقرات الفصائل الأخرى فيهما.
يعد باب الهوى البوابة الرئيسية لتركيا إلى الشمال السوري وقد برزت تساؤلات عدة عن موقف تركيا من هذا الصراع وإذا كانت ستسمح بسيطرة هيئة تحرير الشام، المصنّفة إرهابية في قوائم أنقرة على المعبر، وكانت دفعة من قوات درع الفرات العاملة في ريف حلب الشمالي توجهت إلى محافظة إدلب عبر معبر باب الهوى لمساندة فصائل المعارضة ضد الهيئة، إلا أنها لم تنخرط في المعركة بعد، بانتظار الضوء الأخضر من أنقرة.
وفي تصريحات صحفية أفاد المتحدث باسم حركة أحرار الشام محمد أبو زيد، بأن “دفعة أولى من عناصر الحركة دخلوا إلى إدلب عبر الأراضي التركية، وهم نحو 150 مقاتلاً”، متوقعًا وصول دفعات أخرى.
استبعد محللون إقدام أنقرة على أي تحرك عسكري في إدلب لمواجهة توسع سيطرة تحرير الشام في إدلب، لأن لديها أولويات أخرى متعلقة بمواجهة المليشيات الكردية في الشمال السوري التي تهدد الأمن التركي بشكل مباشر
في هذه الأثناء أعلنت فصائل من الجيش السوري الحر التدخل كقوات فصل بين الجانبين، وأبدى كل من فيلق الشام وحركة نور الدين الزنكي في بيان مشترك، استعدادهما للتحرّك تجاه المعبر من أجل الفصل بين الجانبين، إلا أن الهيئة تعرضت لرتل عسكري من تلك الفصائل في قرة معارة الأتارب، ويُعتقد أن هذا السبب الرئيسي لسحب الفصيلين قوات الفصل وإصدار بيان بذلك.
انشقت نور الدين الزنكي (إحدى أكبر الفصائل المنضوية في هيئة تحرير الشام ويبلغ عدد عناصرها قرابة 8 آلاف عنصر)، عن الهيئة أول أمس الخميس بدعوى انحراف البوصلة لدى الهيئة بعد اندلاع الاشتباكات مع أحرار الشام، ورحبت أحرار الشام بانسحاب نور الدين الزنكي من الهيئة وتمنت أن تكون هذه الخطوة عودة إلى حضن الثورة بزخم وقوة، وحذرت من أن يكون هدف الهيئة تحويل إدلب إلى معقل لهم كما حصل في الرقة والموصل من قبل “داعش”.
تدخل دولي لفض النزاع
حمّل ناشطون الفصيلين مسؤولية تدخلٍ دولي محتمل في المحافظة المدرجة على بنود “تخفيف التوتر” بموجب اتفاق أستانة، برعاية تركية، روسية، إيرانية، وانعكس الغضب في مظاهرات شعبية شهدتها عدد من المناطق على غرار سراقب ومعرة النعمان في إدلب خرجت أمس الجمعة.
وترفض تركيا وجود “تحرير الشام” على حدودها، وتعتبرها إرهابية، وقد أغلقت المعبر من جهتها حتى اللحظة، في حين أفاد ناشطون أن سماء المحافظة شهدت ليلًا طلعات جوية لطائرات F16 يعتقد أنها تركية أو تابعة للتحالف، لكنها لم تشنّ أي غارات، كما لم يصدر تصريح من أنقرة أو أي تعليق رسمي عن الاقتتال أو خطواتها المقبلة.
الواقع أن هذه الاشتباكات بين الفصيلين ليست الأولى من نوعها في إدلب، إلا أنها تُعتبر الأوسع جغرافيًا، والأكثر شراسة عن سابقاتها، بما يوحي أن المعركة التي سعى الجانبان طويلاً إلى تجنبها بالسابق قد بدأت، ويشير مراقبون أن هذه المعركة قد لا تنتهي كما كان يحصل سابقًا بعقد صلح ترعاه وساطات محلية، فالظروف وسياقات اندلاع هذه الاشتبكات الآن مختلفة عن المواجهات السابقة، لكونها تأتي بالتزامن مع ترتيبات لتنفيذ اتفاقية مناطق “تخفيف التصعيد”، التي تعتبر كامل محافظة إدلب ومحيطها التي تسيطر عليها المعارضة، المنطقة الأولى بين المناطق الأربعة.
باتت الهيئة تحاصر معبر باب الهوى بشكل كامل من جميع الجهات، والذي يحتوي على عدد من مقاتلي الحركة ومقاتلين تابعين لدرع الفرت المدعومة من تركيا
بعيدًا عن الأسباب التي اندلعت الاشتباكات بسببها، يمكن رصد الاحتقان بين الفصيلين منذ أشهر، وكان متوقعًا أن يحصل عاجلاً أو آجلاً، حيث تفاقم النزاع بين الفصيلين منذ إقرار اتفاقية مناطق “تخفيف التصعيد” في محادثات “أستانة” في الأسبوع الأول من شهر مايو/أيار الماضي، الذي رفضته هيئة تحرير الشام واعتبرته خطرًا على الثورة ومؤامرة عليها تنوي الفصائل المنضوية فيه الانقضاض عليها.
ومنذ أسابيع، تبنت “حركة أحرار الشام“، رفع العلم الذي تعتبره قوى الثورة السورية رمزًا لها، فمنذ أسبوعين رفعت “أحرار الشام” هذا العلم على سارية ضخمة في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا وفي مناطق أخرى بمحافظة إدلب، وذلك ضمن خطوات عديدة اتخذتها الحركة منذ إعلانها “ميثاق الشرف الثوري” في مايو/أيار سنة 2014، وإبدالها لشعار “مشروع أمة” بـ”ثورة شعب”.
استبعد محللون أن تقدم أنقرة على أي تحرك عسكري في إدلب لمواجهة توسع سيطرة تحرير الشام في إدلب، لأن لديها أولويات أخرى متعلقة بمواجهة المليشيات الكردية في الشمال السوري التي تهدد الأمن التركي بشكل مباشر
وبعد اتفاق أستانة ذكر رئيس المكتب السياسي والعلاقات الخارجية في حركة أحرار الشام الإسلامية لبيب النحاس أن فتح الشام باتت اليوم أمام مفترق طرق إما أن تنضم للثورة أو تكون داعش جديدة تحت ذرائع شرعية واهية، وأكد بيان صادر عن الحركة في يناير/كانون الثاني الماضي أن ممارسات فتح الشام أو النصرة سابقًا، واعتداءاتها على الآخرين دون مبرر هو ما يقود “العدو” إلى تنفيذ مخططاته لعزلها وإنهاء الثورة عبر الدخول في اقتتال داخلي لا نهاية له.
وكانت اشتباكات اندلعت في 24 من يناير/كانون الثاني بين جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) من جهة وفصائل المعارضة السورية من جهة أخرى بعدما شن مقاتلو الجبهة هجومًا واسعًا ضد جيش المجاهدين والجبهة الشامية، وعلى إثر الاقتتال انقسمت الفصائل والهيئات بين من دعت لقتال الجبهة وحملتها مسؤولية الغدر بفصائل المعارضة ومن دعا لحقن الدماء والاحتكام لهيئة شرعية قضائية.
الهدوء الذي تبديه أنقرة حيال هذا الصراع يشير إلى أن أمرًا ما يتم طبخه قد يحدث في الأيام المقبلة خصوصًا إذ سيطرت هيئة تحرير الشام المنصفة “إرهابية” في تركيا على معبر باب الهوى، وإذا تمكنت من توسيع سيطرتها في إدلب وقلب الكفة في المحافظة لصالحها.
بعد الاتفاق سيّرت هيئة تحرير الشام أرتالاً عسكرية جالت في المحافظة، احتفالًا بما وصفه مقاتلوها بـ”الانتصار” في المعركة
على الأقل هذا لن يريح تركيا التي لا يمكن أن تتعامل مع هذا الفصيل، وفي الوقت الذي يشير فيه مراقبون أن أنقرة قد تتدخل لفض النزاع والقضاء على الهيئة، استبعد محللون أتراك أن تقدم أنقرة على أي تحرك عسكري في إدلب لمواجهة هذه الاحتمالات، لأن لديها أولويات أخرى متعلقة بمواجهة المليشيات الكردية في الشمال السوري التي تهدد الأمن التركي بشكل مباشر، فيما قد تقتصر تركيا على دعم حركة “أحرار الشام” والفصائل الأخرى الحليفة لها في إدلب والشمال السوري لمواجهة الهيئة.
ويضاف إلى تلك المساعي، المشاورات المستمرة مع روسيا لتطبيق اتفاق أستانة الخاص بـ”مناطق خفض التصعيد” في إدلب، والذي سيخول لتركيا في حال تم الاتفاق، إرسال قوات فصل تركية إلى إدلب، مع اعتبار أن هذا الاقتتال جاء ليُعقد المشهد على تركيا وروسيا أكثر، ويجعل من أمر إدخال قوات تركية إلى إدلب أكثر ضبابية وصعوبة، وقد يشكل من جهة أخرى، هذا النزاع حافزًا أكبر للقوى الإقليمية للتدخل والسيطرة على إدلب بحجة إعادة الاستقرار وتهديد أمن تركيا من منظمة مدرجة في قوائم “الإرهاب”.
وربما تحسست الهيئة أن نهايتها اقتربت مع اقتراب استحقاق تطبيق اتفاق أستانة في إدلب لذا رأت أنسب وسيلة لتأجيله وتخريبه الانقضاض على فصائل المعارضة قبل أن يأتي الدور عليها.