“لم يعرف الناس في البداية ما كنه هذا المبنى الضخم المهيب الذي اعتلته عبارة “بوابة المبني الشمالي”، لكنهم لم يلبثوا أن أدركوا لاحقًا أهميته في حياتهم، اختفى الحاكم القديم من المشهد، وراحت البوابة تنظم الكثير من الأمور، وتضع القيود والضوابط اللازمة لتسيير المصالح والأشغال، ثم صدر منشور رسمي أوضح اختصاصات البوابة وصلاحياتها، التي اشتملت على كل ما يمكن للمرء أن يفكر فيه”. الطابور ص41 – التنوير ط1
في المقطع السابق من رواية “الطابور” تؤسس الكاتبة بسمة عبد العزيز وبطريقة مبتسرة وتكاد تكون متعمدة، قلب عالمها القاتم “البوابة”، وتصب جام اهتمامها عليها، فلا تنشغل بإعطاء إيضاحات وافية لعالم ما قبل البوابة أو حتى كيف يبدو هذا العالم حقًا خارجًا إطار الطابور؟ نعرف أن هناك أسوار هدمت وأخرى بنيت من جديد، كذلك يتم توصيف المدن بالقطاعات مرقمة ولا نعرف عددها على وجه التحديد، وعبر تفاصيل شحيحة ومتناثرة على طول الرواية نعرف أن البوابة جاءت كنتيجة حتمية لتكاثر “الهبات” في وجه الحاكم القديم لأفعاله غير المقبولة مما هددت بتقويض نظامه.
وتلمح الكاتبة إلى أن قبل هبوط جاثوم البوابة وفي الهبة الأولى اتيح للناس فرصة للتغيير، للتخلص من قبضة الحاكم القديم إلا أنهم أضاعوها بتشتتهم، فمنهم من اهتم بحصد الغنائم فورًا، ومناطق أخرى قررت الاستمرار في هدم الأسوار، بينما ثالثة جلست تتفاوض مع الحاكم المرتاع، وانتهى الأمر برمي كل للآخر بالخيانة وتناسوا ما كان من أمر الحاكم!
جاءت البوابة كبديل ليوقف كل الهبات وببشرى بأنها ستجعل الأمور أكثر يسرًا، وستضمن الأمان والهدوء والسعادة للمواطنين”. ص 163
ولكن ما قيمة التبشير بالخير والسعادة إن كان مجيئها يحمل النكبات والعثرات للناس؟!
يحيى وهو يعد بطل الرواية لم يكن ببعيد عن هذه النكبات أيضًا، ولذلك حينما سمع بوجود إشاعات عن مجموعة صغيرة من الناس تحاول القيام بعملية منظمة للاعتراض، ورغم شكوكه في إمكانية حدوث هبة جديدة قرر النزول والمراقبة من بعيد، وفي فورة الاشتباكات بين المعارضين و”الحرس الأمني القابض” يتلقى رصاصة وينقل على إثرها إلى المشفى، وعند محاولة الطبيب طارق نزع الرصاصة يوقفه أحدهم في رعب، ويلوح له بالمادة رقم 4 بند أ الصادرة عن البوابة التي تجعله يتعرض للمساءلة القانونية بل وللسجن إذا استخرج رصاصة من مصاب دون تصريح، وبالتالي لم يجد سوى إغلاق الجرح بينما ما زالت الرصاصة مستقرة في أحشاء يحيى.
وفي مقابلة لـ”الأحداث المؤسفة” التي أقيمت في عهد السادات، تم توصيف تلك الحادثة بـ”الأحداث المشينة”.
2+2= 5
“منذ ذلك الوقت، أغلقت البوابة ولم تفتح، لكنها لم تتوقف عن إصدار القوانين والقرارات، فكر يحيى أنها لا بد ستفتح، ما من سبب يدعوها إلى أن تستمر موصدة، فقد انتهت الأحداث المشينة بتأكيد جبروت البوابة وسطوتها، إلا إذا كانت تمارس نوعًا إضافيًا من العقاب”.
بطريقة كافكاوية تغلق البوابة أبوابها، ومع ذلك ينضم الناس إلى الطابور، يمتد لمسافات طويلة حتى لا يصبح بالمقدور رؤية آخره من أوله، وينضم يحيى إليه ليحصل على تصريح باستخراج الرصاصة.
كان بوسعي يحيى التخلص من الرصاصة في مستشفي الأجواء ولكن في مقابل أن تطمس الحقيقة، أنه لا يوجد رصاص، أي محو كل الدلائل على الحادثة المشينة.
يندفع يحيى هربًا من المستشفي، وربما في عناد طفولي يحاول أن يثبت لهم أو لنفسه، لدي رصاصة في إحشائي تقتلني، وإنني دليل حي على إطلاقكم للرصاص على المواطنين.
هذا الموقف يدفع القارئ للتفكير، أي جدوى في المعاندة بينما يتحكمون في كل شيء! بل ففي الوقت الذي يقضيه يحيى في الطابور، تقوم البوابة من الجهة الأخرى بكل أذراعها الإعلامية والقمعية وبصورة أورويلية في طمس كل الحقائق، بل يصل بهم الجبروت لمصادرة كل أجهزة الأشعة من المستشفيات والعيادات ولا يكون مسموح بها إلا في الأجواء، وحينما يكتشف يحيى وأصدقاؤه ذلك يحاولون مطاردة الدليل الوحيد المتبقي له وهو الأشعة القديمة، لكنه يكون متأخرًا.
بل حتى لو حصل عليها، فإن البوابة لا تتوقف عن إضافة المزيد من العراقيل وتضمين وثيقة “شهادة المواطن الصالح” لكي يتمكن من الحصول على تصريح استخراج الرصاصة.
ما لا يعرفه يحيى أن البوابة لن تفتح أبدًا طالما ظل واقفًا في الطابور، “ربما حان الوقت لأن يكف يحيى عن المعاندة والتمسك بموقفه حتى لو شعر بإهانة التراجع والخضوع”. ص201
عندما تهتز صخرة القناعات
هل هي ديستوبيا دينية/عسكرية؟ إلى لحد كبير نعم، إذ إنه لا يمكن غير ملاحظة اعتماد البوابة “السلطة الشمولية” على دعم رجال الدين واستخدامهم في تسكين وخداع المواطنين باستخدام نصوص من الكتاب الأكمل بل والمغالاة في النفاق لهم.
تلك المصاهرة اختصتهم بمناصب وإدارات رسمية، فنجد “الشيخ الأعلى” الذي يخرج بتصريحات وحوارات في جريدة “الحق”، بالإضافة إلى لجنة الإفتاء والتبرير، ولا لوم في ذلك، ففي الطابور نتعرف إلى شخصية “ذو الجلباب” الذي يتمثل أول ظهور له في هجومه على العجوز الجنوبية، فيقول “لا يختار الهرم إلا الضالون”، وفي دروسه الدينية في الطابور فيقول بأنه لا يجوز للمواطن الصالح بأن يخفي عن أولياء أمره شيئًا، أو هجومه ضد المرأة ذات الشعر القصير إذ يجد فيها تهديد لمصالحه وتشكيك في البوابة “أنها زرعت وسط الناس نواه ملئية بالشر، تحضهم على الإكثار من الأسئلة والتفكير وكلها أمور غير محببة.
تلك العلاقة الرمزية المستخدمة في التعبير عن الصراع بين التفكير واللا تفكير والحقائق الكاذبة المريحة، تنضم إلى نسيج أكبر يعبر عن لب الرواية بأكملها، وهو “وهم الاستقلالية والتفكير الحر”، ففي الطابور نتعرف لعدد كبير من الشخصيات المحيطين بفقاعات وقناعات شخصية، سواء كانت توجد بدواخلهم نزعة التفكير والنقد مثل يحيى وناجي وأماني وإيناس وصاحبة الشعر القصير، أو على الطرف الآخر شلبي وأم مبروك، وغالبية الطابور.
فإيناس التي شككت في قصة شلبي عن ابن عمه “محفوظ” الذي يعده شهيدًا، وتخلخل من قناعاته الشخصية بدلًا من اقتناعه بالكذبة المريحة، تبدأ التغييرات تطغى عليها حينما تكتشف أن حوارها مسجل، وأن دعواتها لمقاطعة شركة المحمول البنفسجية التابعة للبوابة، وتدرك أن الطابور جذبها لمشاكل أعمق مما أوصلتها إليه، ولسانها ما هو إلا جالب للمشاكل، وتصاب بالرعب من الاختفاءات القسرية المتكررة، لذا قررت أن تنقلب على قناعاتها الشخصية وتحاول إثبات كونها مواطنة مطيعة للبوابة، وللمفارقة تقرر الانضمام لحملة جمع التبرعات للشركة البنفسجية، بل ونصح المرأة ذات شعر القصير بالتوقف عن دعوات مقاطعتها للشركة، وهي التي اختارت الهرم ذات يوم قررت قبول عرض زواج ذو الجلباب.
يتبدي لنا بوضوح شديد أن النجاح الوحيد الذي يتحقق في الطابور هو تراجع الشخوص المفكرة/المتمردة أمام زخم الطابور الأبدي، مثل إيناس أو المقاطيع وتحطيم هويتهم المتفردة، فالمقاطيع جاءوا ليفصلوا الطابور، لينبهوهم من سباتهم، لخلخلة الجسد الميت، إلا أن ما حدث أن الطابور قرر لفظهم، ومهاجمتهم لأنهم يعطلون مصالحهم ويهدفون إلى تأخير فتح البوابة، إذ إنهم يرفضون التغيير، ويستمرون في خداع أنفسهم، أن البوابة ستفتح يومًا، فهناك في الصفوف الأولى من يسمع حركة وراء الأبواب.
وتأتي الماكينة الإعلامية بعد تلك الحادثة لتوجه رسائلها لأهل الطابور والجميع، وحثت المواطنين من هذا المنطلق على عدم الانسياق وراء ما يرونه مهما كانوا واثقين من سلامة أبصارهم، فأمام صخرة القناعات يبقى الطابور مقاومًا لأي تغيير.
اللاشيء
إن كان تحول إيناس جاء على يد الطابور ومحاولاتها للتهرب من أهوال البوابة وتخوفاتها من العزلة الاجتماعية لكون صوتها ذا نغمة مختلفة، فإن أماني جاء تحويلها على يد البوابة مباشرة، ففي الوقت التي توزع فيها منشورات بعد حادثة اختفائها كانت تقضي أيامها في الظلمة واللاشيء والعدم الأكبر.
وعلى غرار وزارة الحب الأوريلية، على عكس ونستون سميث لم تخرج لتقول “أنا أحبك أيها الأخ الأكبر”، ولكنها خرجت خائفة، تتشكك في قناعاتها الشخصية، وفي توقها للوصول إلى الراحة النفسية قررت أن تصدق ما أخبروها به، أنه لم يحدث شيء، لا إصابات، لا رصاص، لا شيء، لا حادثة مشينة وما حدث مجرد خدعة متقنة لتصوير فيلم عالمي، وربما لا توجد رصاصة في إحشاء يحيى!
استسلام أماني للحقائق الكاذبة المريحة جعلها تتحرر من هم كبير، ولكن هذا الإيمان لا ينفي حقيقة وجود رصاصة في إحشاء يحيى!
وفي النهاية ترسم بسمة عبد العزيز نهاية مفتوحة إذ نرى محاولة د. طارق – الذي شعر بالندم لعدم استخراجه الرصاصة مهما كانت العواقب في بداية الأحداث – في إقناع يحيى بإجراء جراحة له بعيدًا عن عيون البوابة.
وتتركنا الكاتبة مع نهاية مفتوحة تجعل القارئ يحدد مصير يحيى بنفسه هل نجى من استخراج الرصاصة؟ أم انتهت العملية بموته.