مر القانون، لم يمر بعد، سيمر بعد تعديله، سيكون مفرغًا من مضمونه، سيكون نهاية الثورة، إلخ، هذه هي المواقف التي راجت خلال نهاية الأسبوع الثالث من شهر يوليو/جويلية في تونس عن مسار المصالحة مع رجالات النظام القديم، والسؤال الذي بدا لي أن أطرحه خلافًا لموجة الأسئلة أعلاه: هل يملك الثوريون وأنصاف الثوريين أن يمنعوا المصادقة على القانون بقوة الثورة/الشارع؟
لأن الإجابة عن هذا السؤال تبين مسارًا ومصيرًا وتنبئ عن قادم الأفعال وتكشف أن الفعل الثوري مشروط بأكثر من القول الثوري، لذلك فإنني أرى القانون يصادق عليه والفاسدون ينجون من العقاب ودولة الفساد تجدد رجالها وقوانينها وتضحك ممن يقول ثورة، حققت الثورة بعض انتصارات على المنظومة لكنها تراجعت وفشلت في الكثير، ونصف انتصار هزيمة كاملة وإن رفض القلب التسليم.
قانون المصالحة (هزيمة لثورة)
للتذكير هو مشروع قانون تقدم به رئيس الجمهورية (الدستور يمنح للرئيس المبادرة التشريعية) من أجل العفو عن رجال الأعمال الفاسدين والإداريين الذين اشتغلوا زمن بن علي واتهموا في بداية الثورة بتسهيل الفساد المالي والسياسي والمساهمة فيه، كان القانون وعدًا من الرئيس للقوة المالية الإدارية التي وقفت إلى جانبه في انتخابات 2014 وأوصلته إلى سدة الحكم مقابل مسح تاريخها الفاسد للدخول فيما يمكن وصفه بعفو عام يجب ما قبل الثورة من جرم.
تحرك الشارع بقوة في مناسبات تقديم القانون للنقاش وقادت حركة “مانيش مسامح” الشبابية أغلب التحركات وأفلحت في تعطيل مناقشة القانون بصيغته الأولى، لكن القانون لم يُسحَب، وبعد خطاب رئيس الدولة قبل رمضان (شهر مايو) تبين أن مناورة تجري لتجزئة القانون ضمن توافق الحزبين الكبيرين (النداء والنهضة)، وقدمت أخيرًا صيغة مخففة تشمل العفو عن رجال الإدارة الفاسدين دون رجال الأعمال الفاسدين.
ويبدو أن هذه الصيغة المخففة قد خففت حدة خلاف كانت كامنة بين الحزبين عن القانون، ويبدو أنها أجلت انفجار التوافق بينهما والحفاظ على حد أدنى من الاستقرار السياسي يزينه الآن رئيس الحكومة بشعارات مقاومة الفساد لكن دون نتائج حقيقية على الأرض.
لقد تبينت أسباب الفساد وهي ليست مرتبطة بالأشخاص بقدر ما هي بنية قانونية تمكن من الاحتيال بالنصوص على النصوص
سحب القانون كان يعني انفجار حزب النداء على نفسه والإبقاء على القانون كان يعني انفجار حزب النهضة إلى حزبين على الأقل، فقراء في الشارع ضد القانون وطبقة قيادية وسطى تناور للبقاء ولو على حساب (إخوتها الفقراء)، نصف حامض نصف حلو، هذه هي الصيغة الآن ولكن الشارع يبدو غير قابل بها، والشباب يتجمع الآن (الجمعة 21-7) في الشارع ضد القانون بصيغته المخففة.
الأسئلة الخاطئة في طريق إسقاط القانون
يقول الشباب في الشارع لماذا لا ينزل حزب النهضة (حزب الفقراء) بثقله لإسقاط القانون، فهو يملك الرصيد البشري الكافي؟ ويجيب أنصار الحزب عن السؤال: لم يكن الشارع معنا عندما كنا في الحكم ولذلك لن نكون معه الآن وكل يتدبر حلاً لنفسه.
وهذا السؤال خاطئ والإجابة عنه أسوأ منه، فهي تجسيد حقيقي لكيد الضرائر الأيديولوجيين الذي يحكم المشهد السياسي التونسي منذ ما قبل الثورة وتكرس بعدها حتى وصلنا إلى طرح مثل هذه الأسئلة الخاطئة.
وجه الانحراف في الأسئلة أنها موجهة إلى النتائج القائمة وليست للأسباب التي أدت إليها، مساءلة النتيجة على أنها سبب هو جدل خاطئ والسؤال الأصح والمطلوب الآن لماذا وصلنا إلى هنا (فرض القانون بالقوة) وكيف نخرج نحو أهداف الثورة مرة أخرى؟ نعم لا تزال أهداف الثورة معروفة وواضحة ولها أنصار في الشارع وفي بعض الأحزاب، غير أن الأمر يقتضي لحظة شجاعة لطرح السؤال الضروري: كيف ننقذ أهداف الثورة المؤجلة وما آليات الفعل الثوري المناسبة؟
آن أوان التقييم
آن أوان تقييم المسار الثوري منذ الـ17 من ديسمبر رغم أن كل عملية تقييم ستصدم بمرحلة التنصل من المسؤوليات، لكن اللحظة التي يعجز فيها الشارع عن محاصرة البرلمان وفرض إرادته على النواب ضمن آليات ديمقراطية تقتضي الوقوف الفعلي عند حالة العجز وتوجب الشروع في المراجعة، لأن الاستمرار في معالجة تغول المنظومة بصفوف متفرقة وأفكار بلا خطة سيؤدي إلى وضع أشد تنكيلاً بالثورة والنصوص القانونية جاهزة بعد مثل قانون تجريم الاعتداء على الأمنيين.
إخراج الشباب الذي ربته الثورة وآمن بها إلى أفق نضالي مختلف بالمرور من “الاحتجاج الحنجوري” إلى الفعل السياسي والمدني الباني للدولة في المستقبل
سلسلة الأخطاء التي أدت إلى عودة المنظومة بقوة وتمكنها من السلطة وفرض أجندة العفو عن الفساد، لا يمكن أن تكون بسبب قوتها الخاصة ولكن لأنها خبرت صفًا مناصرًا للثورة بقوة ولكنه عاجز عن التنظم عجزًا فادحًا ففرضت أجندتها.
الاستباق طريق للمراجعة
عمليات التقييم السياسي معقدة وعسيرة وقليل من الأحزاب والشخصيات السياسية في العالم من يقدم نقدًا ذاتيًا ويتحمل كلفته السياسية (وهي ليست تقاليد تونسية بأي حال) لذلك عوض الانشغال بالتقييم وتحميل المسؤوليات بين مكونات صف الثورة الذي يتظاهر الآن في الشارع، يمكن البدء من نقطة متقدمة واستباقية وهي تهيئة الأرضية القانونية والمؤسساتية لقطع الطريق على الفساد في المستقبل.
لقد تبينت أسباب الفساد وهي ليست مرتبطة بالأشخاص بقدر ما هي بنية قانونية تمكن من الاحتيال بالنصوص على النصوص وعلى مسارات التطبيق بحيث يجد الموظف العمومي (موضوع النص الخلافي الأخير) منافذ وثغرات تمكنه من نيل مكاسب شخصية دون وجه قانوني.
إن العمل المنظم على حصر بوابات الفساد القانوني التي وضعت وترسخت وأكسبها الفاسدون قيمة مقدسة كما لو أن الدولة لا تسير إلا بتلك القوانين ثم اقتراح مشاريع قوانين تتجاوز الموجود وخاصة ضمن أفق الحكم المحلي الذي تم ترسيخه في الدستور ثم السير في الشوارع لفرضها سيؤدي إلى أمور مهمة وضرورية.
الأول توحيد الأحزاب والشخصيات والمنظمات المؤمنة بالتغيير حول قضايا مستقبلية بما يجنبها الاشتباك بشأن أخطاء الماضي وعراك الضرائر بخصوص من أفسد مسار الثورة.
الثاني جر المنظومة إلى حالة من الدفاع عن نفسها عوض تمركزها الحالي في حالة هجوم مسلح بقوانينها الخاصة التي تمعشت منها طويلاً وحرصت على تطبيقها رغم الثورة وحكوماتها.
الثالث هو إخراج الشباب الذي ربته الثورة وآمن بها إلى أفق نضالي مختلف بالمرور من “الاحتجاج الحنجوري” إلى الفعل السياسي والمدني الباني للدولة في المستقبل، أي التحول من قوة احتجاج صوتي ظرفي انفعالي (توزيع اتهامات وتخوين) إلى فاعل بناء يقترح ويجادل بالمعطيات الكمية والنوعية.
سيمر القانون وسينجو اللصوص ولكن يمكن لمن آمن بالثورة أن يمنع ميلاد لصوص آخرين وهذا أهم درس يستنتج من عجز الشباب عن إسقاط القانون الحالي.