عشرون عامًا مرت على أول قرار أمريكي بوضع السودان تحت طائلة عقوبات اقتصادية شاملة بدعوى دعم الإرهاب، أضاف لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ أيام، ثلاثة أشهر أخرى.
وبعد انتظار وترقب حذر في السودان برفع كلي للعقوبات الأمريكية المفروضة عليه، تراجعت الآمال بعد قرار ترامب، مما شكل موجة من الإحباط بين أطياف الشارع السوداني التي وصفته بالمجحف.
لكن لماذا تستمر الإدارات الأمريكية في إبقاء سيف العقوبات مسلطًا على رقبة السودان ولماذا اتخذ ترامب هذا القرار؟ وهل يستحق السودان تمديد العقوبات عليه؟ وقبل كل هذا ما ملابسات فرضها أصلًا؟
تستمر الإدارات الأمريكية في إبقاء سيف العقوبات مسلطًا على رقبة السودان
مسلسل العقوبات الأمريكية
سلسلة العقوبات التي فرضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض على السودان صدرت إما بأوامر تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونجرس الأمريكي.
أخرج الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون الحلقة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 1997، وكان الحدث الدرامي فيها اتهام أمريكا للسودان بدعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار الإقليمي وانتهاك حقوق الإنسان ومنع الحريات الدينية.
بعد ذلك بسنة واحدة تحول المشهد إلى أكشن، فشنت الولايات المتحدة هجومًا صاروخيًا على مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم بدعوى تصنيعه أسلحة كيميائية، حسبما قالت الولايات المتحدة في أعقاب الهجوم على سفارتيها في العاصمة الكينية نيروبي وعاصمة تنزانيا دار السلام.
وازدادت الأحداث إثارة بفرض الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا، فظهرت مشاهد منع تبادل السلع والخدمات وتقييد المعاملات المالية وتجميد الممتلكات السودانية وعقوبات أخرى.
في نهاية فترة أوباما رفع البيت الأبيض جزئيًا بعض العقوبات لكنه أبقى السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب
لكن سبق ذلك مشهدان لا يمكن حذفهما في المونتاج، ففي 12 من أغسطس/آب 1993 أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب ردًا على استضافة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وفي عام 1996 أوقفت الولايات المتحدة عمل سفارتها في الخرطوم.
وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بدأ الطرفان تعاونًا استخباراتيًا في مكافحة الإرهاب، مما اعتبر تغيرًا إيجابيًا في العلاقات بين البلدين.
وفي أبريل/نيسان 2006 أضاف جورج بوش الابن لمسته الإبداعية بزيادة الحظر ليشمل الأنشطة النفطية والبتروكيماوية، وإدراج جهات متورطة في نزاع دارفور في قائمة العقوبات، وتضمنت تجميد أرصدة 133شخصية وشركة سودانية.
ورغم قيام السودان ببعض المحاولات لإرضاء خصمه، فإن طول أمد العقوبات أرهق البطل السوداني المترهل بالفساد الإداري، فتأثر اقتصاده وتدهورت قطاعاته المختلفة خصوصًا بعد انفصال الجنوب.
لكن ذلك لم يغير حبكة المسلسل سوى في تحولات درامية طفيفة أضافها باراك أوباما خلال 6 سنوات من الإخراج، كالإعفاء المحدود لمعدات طبية وآلات زراعية والاستفادة من تكنولوجيا الاتصالات.
وفي نهاية فترة أوباما رفع البيت الأبيض جزئيًا بعض العقوبات لكنه أبقى السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، مع بعض الاستثناءات مثل شراء المعدات العسكرية والأجهزة المتقدمة والأجهزة ذات الاستعمال المشترك.
وجاء قرار رفع العقوبات الاقتصادية وفقًا لما عُرف بـ”المسارات الخمسة”، وهي: مواصلة العمل في مكافحة الإرهاب، العمل على مكافحة جيش الرب، دفع عملية السلام في جنوب السودان، تحقيق السلام في السودان، تسهيل توفير الإغاثة للمحتاجين.
ومع قدوم المخرج الجديد للبيت الأبيض علق السودان آماله على أن يشاهد الحلقة الأخيرة، لكن بعد تمديد المفاوضات حتى أكتوبر القادم يبدو أن المسلسل ستطول حلقاته بمشاهد غير متوقعة قد تطول أو تقصر حسب رسم المشهد الأخير.
طول أمد العقوبات أرهق البطل السوداني المترهل بالفساد الإداري، فتأثر اقتصاده وتدهورت قطاعاته المختلفة
ما وراء تمديد العقوبات الأخيرة
وحمل قرار ترامب أسبابًا معلنة تضمنت اعترافًا بإحراز الحكومة السودانية تقدمًا فعليًا في العديد من المجالات، لكن في نفس الوقت تشعر واشنطن أن الوقت لم يحن بعد لرفع العقوبات عنه بشكل دائم، وطالبت السودان ببذل مزيد من الجهود في مكافحة الإرهاب وملف حقوق الإنسان.
وبحسب بعض المهتمين بعلاقات البلدين، يبدو في باطن الأمر أن ترامب ما زال يزعم أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السودانية تمثل سياسة معادية لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكل تهديدًا غير عادي واستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية.
وتحدثت “الفاينيشال تايمز” عن ثغرات في الخارجية الأمريكية، ووجود حالة من التوتر والانقسام داخل إدارة ترامب تجاه رفع العقوبات الأمريكية على السودان، مشيرة إلى أن نقص الموظفين المعنيين بالشؤون الإفريقية في إدارة ترامب، والذين يمكنهم الاهتمام بالملف السوداني، جعل هذا القرار موضع شك.
الموقف السوداني الصارم جاء ردًا على تعامل أمريكا مع السودان بسياسة الطاولة المتحركة، فكلما استجابت للمطالب تحركت الطاولة إلى الخلف
وبخلاف الأسباب المعلنة، توارت الشكوك بشأن النوايا الأمريكية المبيتة، لا سيما أن موقف السودان كان محايدًا في الأزمة الخليجية مع قطر، وهنالك من يقول إن السعودية والإمارات توسطتا لرفع العقوبات، لكن ربما لا يكونوا سعداء بحياد السودان.
وفي ظل تكالب القوى الدولية مثل روسيا والصين وإيران و”إسرائيل” على القارة السمراء، أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتعامل مع إفريقيا بمنظور مختلف عن الإدارة السابقة، فقد رأت في العقوبات السودانية مبررًا لإرسال رسالة جديدة مفادها أنها تملك سياسة جديدة تجاه القارة الإفريقية البكر.
الأخطر من ذلك تمثل فيما كشفته صحيفة “نيوزويك” الأمريكية عن العلاقة بين السودان وكوريا الشمالية، مرجحة أن يكون الاتصال بين نظام كيم جونغ أون في بيونغ يانغ، ونظام عمر البشير في الخرطوم، لعب دورًا في تمديد قرار رفع العقوبات بشكل كامل عن البلاد.
تقدير رد الفعل السوداني
وعلى عكس المعتاد جاءت نبرة الحديث الأمريكية عن السودان إيجابية بخلاف نبرات الخطاب السابقة على مدار الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ويبدو من ذلك أن الأمريكيين يقيمون جيدًا ما يحصلون عليه من تعاون مع السودان.
وفي تقدير البعض اللغة الأمريكية الناعمة قد تكون جيدة، لكن العصا لا تزال مرفوعة، لذلك كان من المفترض على الولايات المتحدة أن تتخذ خطوة إيجابية حتى تشجع الحكومة السودانية على الاستمرار في التعاون، لكن هذا لم يحدث.
وبناءً على القرار الأمريكي المخيب للتوقعات، اتسم رد الفعل السوداني بنوع من الحدة حيث أصدر الرئيس البشير قرارًا بتجميد لجنة التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن هذه العقوبات حتى 12 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو تاريخ نهاية القرار الأمريكي.
وجاء قرار الرئيس السوداني نتيجة حالة من الإحباط وربما الغضب التي أشاعها القرار الأمريكي في الشارع السوداني والأوساط الحكومية التي ترى أن القرار لا يتناسب مع وفائها بالتزاماتها في المسارات الخمسة المشروطة لاجتياز عقبة العقوبات.
ويبرر البعض أن الموقف السوداني الصارم جاء ردًا على تعامل أمريكا مع السودان بسياسة الطاولة المتحركة، فكلما استجابت للمطالب تحركت الطاولة إلى الخلف، في نبرة احتجاج تشير إلى أن الحكومة السودانية لن تمنح الولايات المتحدة مزيدًا من الفرص لتمارس تلك السياسة عليها.
وعلى مدار عقدين من الزمان ظل السودان يتلقى الكثير من الوعود من قبل أمريكا برفع العقوبات خلال فترات متعددة، ففي اتفاقية السلام الشامل كان هنالك وعد برفع العقوبات، وكذلك حملت اتفاقية أبوجا الخاصة بدارفور وعد بتطبيق الاستفتاء، لكن المماطلة الأمريكية كانت سيد الموقف.
الفريق طه عثمان الحسين مع الرئيس ترامب
الخاسر والمستفيد؟
وعلى طول امتداد فترة المماطلة تلك، ليس من السهل الإحاطة بحجم وتأثير عقوبات اقتصادية أمريكية قاسية امتدت لنحو عشرين عامًا على السودان، فتأثير الخسائر طال قائمة طويلة من الصادرات والواردات، وألقى بتأثيره على مجمل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن إجمالي الخسائر، تقدِّر الحكومة السودانية جملة خسائرها خلال عشرين عامًا من العقوبات الأمريكية بـ500 مليار دولار، وتقدَّر الخسائر غير المباشرة التي يتكبدها السودان جراء العقوبات بـ4 مليار دولار سنويًا، بينما بلغت قيمة الفرص الاستثمارية الضائعة بنحو تريليون دولار.
أما الخطوط الجوية السودانية فبقى معظم أسطول طائراتها مرابضًا على الأرض، إذ حُرمت بسبب العقوبات من الحصول على قطع الغيار والصيانة الدورية لطائراتها، كما فقد قطاع السكك الحديدية 83% من بنيته التحتية.
وتدهورت الصناعات المحلية التي تستحوذ على 26% من إجمالي الناتج المحلي، مما أدى إلى تسريح آلاف العمال، كما تأثر أكثر من ألف مصنع بشكل مباشر، رغم تأكيد أمريكا أن العقوبات تستهدف النظام السوداني وليس السودانيين أنفسهم.
وتمثلت أبرز المجالات تضررًا في التمويل والاستثمار، فقد حُرم عدد كبير من شركات القطاع الخاص السوداني من التمويل الخارجي والاستثمار الأجنبي، كما أضرت العقوبات بقطاع الصحة فتعذر معها استيراد الأدوية الرئيسية والأجهزة الطبية والمستحضرات الأمريكية.
انضمام السودان العام الماضي إلى تحالف بقيادة السعودية لقتال الحوثيين في اليمن، كما ظهرت دلالات على تحسن في العلاقات بين الولايات المتحدة والخرطوم
ولم تسلم مجالات التعاون الدولي وبناء القدرات البشرية ونقل التقنية الحديثة، كما رفعت العقوبات أيضًا أسعار التأمين ومداخيل القطاع الزراعي الذي يساهم بأكثر من 29% من الناتج المحلي.
لكن المعارضة السودانية كان لها رأي آخر، فقد رأت أن العقوبات السياسية لا تؤثر على الشعب السوداني، لكنها تؤثر على فئة قليلة قابضة على نظام السلطة منذ 28 عامًا، معتبرة أن النظام المستفيد الأول من رفعها عبر الاستحواذ على السلطة والثروة من خلال مؤسسات الفساد.
أما أضرار العقوبات الاقتصادية فسوف تلحق بالمؤسسات الأمنية والمؤسسات الاقتصادية التي يستخدمها النظام في مغامراته الخارجية، والمستفيد الأكبر – من وجهة نظر المعارضة – هو جهاز الأمن والمخابرات والقوات المسلحة والحزب الحاكم، لأن رفعها سيمكنهم من تحويل أموال إلى حلفائهم في المناطق الأخرى.
لكن هل يستحق السودان ذلك؟
اعترفت أمريكا أن السودان بذل جهدًا كبيرًا في إزالة بعض المعوقات، لكن عدم وجود استجابة للمطالب السودانية من ناحية أمريكا يدل على عدم حرصها على دفع هذا المسار في طريق إيجابي، وربما هو تعبير عن أن السودان لم يُبق شيئًا يمكن أن يضيفه ليتسق مع شروط رفع العقوبات.
وفي مقابلة مع وكالة رويترز، أكد السفير عبد الغنى النعيم وكيل وزارة الخارجية السودانية هذا الكلام، قائلًا: “السودان نفَّذ ما هو مطلوب منه، بالنسبة لنا الخطوة الطبيعية والمنطقية أن ترفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية”.
وفي هذا الإطار، يعدد البعض دوافع الاستحقاق السوداني في رفع العقوبات، ومنها انضمام السودان العام الماضي إلى تحالف بقيادة السعودية لقتال الحوثيين في اليمن، كما ظهرت دلالات على تحسن في العلاقات بين الولايات المتحدة والخرطوم.
وفي 20 من سبتمبر/ أيلول الماضي رحبت وزارة الخارجية الأمريكية بجهود السودان لزيادة التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة.
ووفقًا للمسارات الخمسة التي حددتها أمريكا، فإن الداعمين للقرار يرون أن السودان حقق تعاونًا في مجال المخابرات والمجال الأمني وفي مجال مكافحة الإرهاب وجيش الرب في شرق إفريقيا وأوغندا وفي منطقة البحيرات.
الملحق العسكري الأمريكي مع وزير الدفاع
ماذا تبقى إذًا؟
على عكس الصورة الإيجابية التي تستوجب رفع العقوبات، يرى مراقبون أن الحكومة السودانية وعلى الرغم من إحرازها تقدمًا ملموسًا على صعيد علاقاتها الخارجية، لم تحقق تقدمًا موازيًا فيما يتعلق بمعالجة الأوضاع الداخلية كتسوية النزاعات المسلحة في دارفور وفي منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ورفع مستوى المعيشة.
وتترقب الولايات المتحدة الأمريكية أن يكون هناك وطء لسجل حقوق الإنسان، بالإضافة إلى المشاكل القائمة التي تمثلت في العراقيل التي تعترض إيصال المساعدات الإنسانية، والهجمات العسكرية في مناطق السودان التي من ضمنها دارفور.
أما المعارضة السودانية وخاصة المسلحة منها التي تلعق جراحات انقسامات حادة في أوساطها فقد رحبت بالقرار وخاصة الشرط الجديد بضرورة تحسين أوضاع حقوق الإنسان والحريات الدينية.
يبقى على السودانيين أن ينتظروا ثلاثة شهور إضافية ليروا المشهد القادم للمخرج الجديد
وبحسب الشروط الجديدة لرفع العقوبات، فإن السودان منتهِك لحقوق الإنسان، الموضوع الذي لم يكن مضمنًا بشكل مباشر في لائحة فرض العقوبات، لكن الأهداف الأمريكية المتحركة امتدت له، بما يضيف تعقيدات جديدة ربما تطيل أمد العقوبات.
يضاف إلى ذلك أن السودان من الدول الستة التي صنفها ترامب مؤخرًا بمنع حصول مواطنيها على التأشيرة لدخول الأراضي الأمريكية، ومن الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة في آخر تقرير لها صدر منذ شهرين من الدول التي تنتهك الحريات الدينية ولا تحترمها.
كما صوتت الولايات المتحدة، غير العضو في المحكمة الدولية، بإحالة ملف البشير إلى المحكمة الدولية، بينما لا تبقى أمريكا على وضع السودان على قائمة الدول الداعمة للإرهاب.
كل هذا الإرث لا يمكن أن يتم مسحه في يوم حتى وإن رُفعت العقوبات، فما الذي يضمن ألا يكون ذلك تدريجيًا أو مربوطًا بشروط أخرى تبعث بمخاوف وتداعيات اقتصادية إضافية في بلاد لا تنقصها المعاناة، لكن يبقى على السودانيين أن ينتظروا ثلاثة شهور إضافية ليروا المشهد القادم للمخرج الجديد.