الإنشاد الديني رحلة فن روحي بدأ منذ عهد الرسول الكريم ومر بمراحل عديدة عملت على تطوره حتى أصبح منافسًا قويًا لفنون أخرى، وخرج من عباءته الإنشاد الصوفي والسلفي وغيرها من القوالب الإنشادية التي يبتكرها الشباب لمواكبة عصر التكنولوجيا الحديثة مثل فرقة “الحضرة” المصرية.
سنقوم برحلة روحية عبر السطور القادمة ونبحر في عالم الإنشاد لمعرفة أسراره التي تأسر الأرواح وتسلب العقول بعذوبتها وصفائها.
بدأت القصة منذ زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -، حيث كان النبي قد مر بنسوةٍ كن يمدحنه ويقلن: “نحن نسوة من بني النجار يا حبذا محمد من جارِ”، وتؤكد كتب التراث بأن بدايته كانت مع بداية الأذان حيث كان بلال المؤذن يجود فيها كل يوم خمس مرات، ويرتلها ترتيلاً حسنًا بصوت جميل جذَّاب، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في التغني بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان، وأصبح له قوالب متعددة وطرائق شتى.
في عهد الأمويون أصبح الإنشاد فنًّا له أصوله وضوابطه وقوالبه وإيقاعاته، واشتهر أيام الدولة الأموية الكثير من المنشدين وكان أكثر المشتغلين بفن الإنشاد الديني وتلحين القصائد الدينية إبراهيم بن المهدي وأخته عَليَّة وأبو عيسى صالح وعبد الله بن موسى الهادي والمعتز وابنه عبد الله وعبد الله بن محمد الأمين وأبو عيسى بن المتوكل وعبد الملك بن مروان، وغيرهم.
تطورت قوالب فن الإنشاد الديني وأصبح له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجد الدين الإسلامي
وكان عبد الملك بن مروان في دمشق يشجع الموسيقيين ورجال الفن، وكذلك كان الخليفة الواثق الذي كان يغني له إسحاق وإبراهيم الموصلي، وهما من أشهر الموسيقيين في العصر الأموي وعبد الرحمن بن الحكم الذي ذاع في عهده صيت الفتى “زرياب” وهو تلميذ إسحق الموصلي، وغيرهم كثيرين ممن اشتهروا بغناء وتلحين القصائد الدينية والأناشيد.
أما في عهد الفاطميين تطور فن الإنشاد الديني لاهتمام الدولة بالاحتفالات المجتمعية، فهم أول من أقاموا الاحتفال برأس السنة الهجرية وبليلة المولد النبوي الشريف وليلة أول رجب وليلة الإسراء والمعراج وليلة أول شعبان ونصفه وغرة رمضان ويوم الفطر ويوم النحر، وهم الذين قاموا بالاحتفال بمولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومولد ولديه الحسن والحسين والسيدة زينب ويوم شم النسيم ويوم الغطاس وخميس العهد مشاركة للنصارى في شعورهم الديني، وكانت الأناشيد الدينية أساس هذه الاحتفالات مما دفع المنشدين لتطويرها بشكل غير مسبوق.
ومن هنا بدأت تظهر طوائف المتصوفة والدراويش وأصبح لكل فئة منشدوها وحواريوها، فقد ابتدع الدراويش لأنفسهم طريقة جديدة في التعبير والتقرب إلى الله، وهي مجالس الأذكار التي راح العامة من الناس يجتمعون لها، يرقصون ويطربون ويأكلون، وقد أدرك الدراويش أهمية الجانب الوجداني فأكدوا على مبدأ التأثير بالموسيقى، وادخلوها ضمن شعائرهم وكانت فلسفتهم أن صنيعهم هذا أدّى إلى إقبال الجماهير عليهم وجمع الناس حولهم، وكان الدراويش أتباع جلال الدين الرومي من أشهر المنشدين إلى يومنا هذا.
وفي بدايات القرن العشرين أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية والمناسبات الدينية، محبي هذا الفن حوله.
أسماء كثيرة وأشكال متعددة
تطورت قوالب فن الإنشاد الديني وأصبح له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجد الدين الإسلامي وتدعو لوحدة المسلمين، وتمدح رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ففي مصر برز الشيخ طه الفشني والشيخ النقشبندي وحاليًا الشيخ أحمد عبد الفتاح الأطروني موسيقار الإنشاد الديني وغيرهم.
أما في سوريا فيعتبر المنشد الراحل توفيق المنجد أهم من ظهر في هذا المجال وهو من منشدي دمشق، مع وجود أسماء كبيرة مثل المنشد فؤاد الخنطوماني والمنشد صبري مدلل في حلب وكذلك المنشد منذر السرميني أبو الجود والمنشد محمد أبو راتب وغيرهم.
ومن الأسماء الأخرى في دمشق برز في السبعينيات اسم المنشد حمزة شكور الذي انضمت فرقته إلى رابطة المنشدين بدمشق التي أسسها توفيق المنجد.
والمنشد موفق أحمد أبو شعر الحسيني الذي كان يعود نسبه للحبيب المصطفى وجاء من بعده أبنائه الست الذين يعرفون بفرقة الإخوة أبو شعر رابطة أبي أيوب الأنصاري، ومن العراق الشيخ المرحوم حمزة الزغير والمرحوم ياسين الرميثي والمرحوم عبد الرضا الرادود وجاسم الطويرجاوي ومهدي الأموي وعزيز الكلكاوي وباسم الكربلائي وجليل الكربلائي وأبو بشير النجفي وغيرهم المئات من العراقيين والعرب بل وحتى في العالم الإسلامي.
فرقة الإنشاد ” الإخوة أبو شعر”
وهناك الآن على الساحة العديد من المنشدين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في سماء الفن أمثال الشيخ مشاري العفاسي وأبي الجود وابي راتب وإبراهيم السعيد وأحمد الهاجري وعادل الكندري وأبو عبد الملك وأبو علي ومحمد الحسيان وسمير البشيري ويحيى حوى ومحمد العزاوي ومصطفى العزاوي وأسامة الصافي وأيمن الحلاق وأيمن رمضان وعبد الفتاح عوينات وعماد رامي وغيرهم كثيـر.
وعلى جانب آخر كان يتخلل الإنشاد الديني كثير من الحوارات الغنائية بين “المنشد الأصلي” ومجموعة المنشدين من خلفه، وكان المنشد يتوسط الحلقة، ويلتف من حوله مجموعة “السنيدة” بعد ذلك، وكان المنشد يختار مقطعًا من القصيدة أو جملة يجعلها محورًا تدور حولها كل الردود من “السنيدة”، فيرددونها وراءه ثم يعودون إليها بعد المنشد.
وكانت الوصلة الأولى يختار لها الشيخ المنشد مقامًا موسيقيًّا معينًا مثل “الراست” مثلاً أو البياتي، أو الحجاز، وغيرها، ثم يبدأ المنشد الوصلة بإبراز مواهبه في الأداء، وبراعته في التنقل بين المقام الأصلي ومشتقاته، وقدرته على إبراز الحليات والزخارف اللحنية، ثم يردد المنشدون بعد ذلك المقطع أو الجملة المحورية التي بدأ بها القصيدة.
لا يكمل الحديث عن الإنشاد الديني إلا بذكر الإنشاد الصوفي الذي استعمله الصوفيون للدلالة على الإنشاد الديني
ثم تأتي الوصلة الثانية فيختار لها مقامًا موسيقيًّا آخر حتى ينوع في المقامات، وحتى لا يمل السامعون ويفعل ما فعله في الوصلة الأولى.
وكان الإنشاد الديني في هذه الفترة يُغنَّى دون مصاحبة آلية إلا في استخدام نقر المسبحة على كوب من الماء ليحدث رنينًا جذابًا، ثم تطور بعد فترة وجيزة ليصبح فنًّا له أصوله وأشكاله، فبداء يعتمد على الجمل اللحنية المبتكرة، وكذلك استخدام “اللزمات الموسيقية” والإيقاعات التي تناسب روح القصيدة، فتكونت الفرق الموسيقية المصاحبة “للمنشد”، وكانت تسمى آنذاك بـ”التخت” أو بالخماسي الموسيقي والذي يعتمد العود والقانون والناي والكمان والإيقاع.
انتقل الإنشاد من الارتجال والتطريب إلى التعبير والتأثير، فضلاً عن استحداث جمل تسمى “اللزمات” وإيقاعات متنوعة وجمل حوارية بين الآلات بعضها وبعض والمنشدين، وتكوَّنت فرق خاصة بأداء هذا اللون تسمى “فرق الموسيقى العربية” التي تتناول التراث الموسيقي والغنائي بأشكال وقوالب جديدة.
لقطة من أنشودة ” يا رزاق” لمشاري راشد
أما اليوم تأثر الإنشاد الحديث بالفضائيات المرئية والفيديو وظهرت قنوات متخصصة للإنشاد، فتم إنتاج أناشيد وفرق إنشادية حديثة، وأصبح الإنشاد قريب الشبه بالغناء المتعارف عليه بعد أن فتح ذراعيه ليضم أطيافًا مختلفة ومتنوعة من القوالب.
الإنشاد الصوفي
لا يكمل الحديث عن الإنشاد الديني إلا بذكر الإنشاد الصوفي الذي استعمله الصوفيون للدلالة على الإنشاد الديني والذي يكون ضمن مجالسهم العلمية أو التعبدية، وبالأخص المولوية وأتباع الطريقة الجشتية في الهند، ويتضمن الدعاء وترديد الأذكار واسم الله، والالتفاف حول النفس عند المولوية.
رحلة الإنشاد لم تنته بعد، فهي متجددة عبر الزمان والعصور
ينسب وضع أوائل الألحان الموسيقية للإنشاد إلى السلطان ولد بهاء الدين محمد ولد وهو الابن الأكبر لجلال الدين الرومي، وتدور موضوعات الغناء الصوفي عن حب الله ورسولهوأشعار الإنشاد الصوفي تحمل معاني رمزية لا يعرف أسرار معانيها إلا من وصلت به النشوة إلى التجرّد من كلّ ما هو جسدي وتحللت روحه من كل ما هو مادي، وكلمات تحمل عبارات العشق والغزل والحب بكل مقاييسه وشدة الهيام ولوعة الفراق والحنين والشوق إلى رؤية الذات الإلهية.
وهذا غير موجود بشكل كبير في الإنشاد السلفي الذي تحتوي معظم أناشيده على الحث على فعل الفضائل والبُعد عما يغضب الله، والتشجيع على عمل الخير، بجانب مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم -، لكنها لم تصل لدرجة الخطاب الروحي بشكل كبير مثل الإنشاد الصوفي الذي يركز على الروح في المقام الأول.
حلقة ذكر مولوية لها طقوس خاصة، حيث تبدأ حلقة الذكر المولوية بتلاوة من القرآن من أحد المنشدين الجالسين في السدة، ثم يؤدي رئيس الزاوية بعض الأدعية والابتهالات، بعد ذلك ينشد أحد الدراويش شعرًا يقول فيه: “إذا رمت المنى يا نفس رومي لمولانا جلال الدين الرومي”، وعند كلمة مولانا تضرب ثلاث ضربات، ويبدأ العزف بالنايات، ثم ينهض الدراويش ويبدأون بالدوران بطريقة فنية خاصة، فينزعون عنهم العباءات ليظهروهم يرتدون ألبسة بيضاء فضفاضة على شكل نواقيس، ويرمز نزع العباءات إلى نزع الشهوات.
ويبدأون بالدوران على إيقاعات الإنشاد الديني ويكون دورانهم سريعًا، فتنفرد ألبستهم الفضفاضة وتصبح نتيجة الدوران السريع على شكل ناقوس، ويضعون على رأسهم اللبادة أو القلبق وفي أثناء الدوران يقومون بأيديهم بحركات لها معان صوفية ويشكلون بأيديهم ورأسهم لفظ الجلالة (الله) ويشترط في أثناء الدوران ألا تتلامس أرديتهم.
المولوية المصرية
شجع سلاطين السلاجقة والعثمانيين الموسيقى الصوفية والسماع، بل لقد كان منهم من انتسب إلى بعض الطرق الصوفية، ومن هؤلاء السلطان السلجوقي علاء الدين قيقباد الأول الذي كان يذهب إلى جلال الدين الرومي في زاويته، وكان يدعوه هو ومريديه إلى قصره في قونية للاستماع إلى قصائد وموسيقى الصوفية.
ومن السلاطين الأتراك أيضًا من كتب الأشعار الصوفية كالسلطان العثماني أحمد الأول، كما أولى السلطان سليم الثالث اهتمامًا كبيرًا بالسماع، وكان يدعو إلى قصره أسطوات الموسيقى أمثال أحمد كامل أفندي القرمي والطنبوري.
رحلة الإنشاد لم تنته بعد، فهي متجددة عبر الزمان والعصور وتفاجأنا دائمًا بكل ما هو جديد في عالمها الذي يصوب هدفه نحو الأرواح للسمو بها في أعلى درجات الصفاء الروحي.