“إن المصريين كانوا منجمًا اغترف منه الأقدمون العقاقير، وأوصافها المذكورة في أعمال ديسقوريدس وبليني وغيرهما، كان من الواضح أنها مأخوذة من المصريين القدماء” هذا ما قاله المؤرخ جابين عن العصور القديمة التي عاش فيها المصريون القدماء وأسسوا حضارة علمية في الصيدلة والكيمياء وكانت لهم اتجاهات فكرية ظهرت براعتها في العلوم الطبية.
وحتى يومنا الحاضر ما زال للعلم أبواب كثيرة وفلسفات عديدة، فهو الطريق المؤدي للأجوبة والحقائق، ولا يمكن التوصل لحل مشكلة طبية ما أو إثبات حقيقة علمية معينة دون التجاوب مع العلم وأدواته وتقنياته، وانصياعًا للفطرة البشرية لا يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة ولا يمل من قراءة الكون وما عليه من ظواهر واكتشافات، ولأن طبيعته تحتم عليه استخدام هذا العقل الفضولي، يمكن القول إن العلم هو أكبر النجاحات التي توصل إليها وساهمت في الحفاظ على البشرية كاملة من تهديدات الكوارث المميتة أو الأمراض المستعصية.
ماذا يحدث عندما تفتقر الدولة لقوة العلم وخاصة الطبي؟
ولا يمكن اعتبار العلم رفاهية أكاديمية، لأنه تحول إلى أساس وعامل قوة، لذلك يعتبر البحث العلمي وخاصة في المجال الطبي ثروة للدولة التي تجعل المراكز والمنظمات المخصصة للأبحاث العلمية الطبية ضرورة وأولوية في أجندتها وميزانياتها ومؤسساتها العلمية، وهذا ما يساعدها على التعامل مع أي انتكاسات داخلية أو خارجية.
تحديدًا في العالم العربي، تشير الأرقام والدراسات إلى وجود فقر في مراكز الأبحاث الطبية، والتي تكاد إنتاجاتها العلمية الطبية تساوي صفرًا، والسؤال هنا: ماذا يحدث عندما تفتقر الدولة لقوة العلم وخاصة الطبي؟
أزمة علمية في الوطن العربي
في كتاب “أزمة البحث العلمي” يقول الكاتب والمؤلف محمد مسعد ياقوت مختصرًا التعريف بالأزمة إن الدول العربية فشلت في صناعة المعلومات العلمية وتصديرها، وتكاد تعدم السياسات الاستراتيجية لمراكز البحوث الأكاديمية، ولا يمكن الجزم بوجود صناديق مخصصة لتمويل الأبحاث العلمية، كما أنه يمكن بكل سهولة أن نلاحظ مدى تأخر نقل التقنيات العلمية من العالم الغربي إلينا، مع استمرار مراكز البحوث العربية بالانقياد خلف علوم ونظريات قديمة ومهترئة لا فائدة منها في حل مشكلات اليوم.
العرب فقراء معلوماتيًا ولا بد من إنشاء منظمات تساعد في الاستثمار في صناعة المعلومات
كما ويشير إلى إهمال تدريب الباحثين وتهميش العقول المفكرة ودفعها للهجرة إلى الخارج إلى بيئة تستوعب منتجاتهم الفكرية والعلمية، وهذا ما جعل ردم الهوة بين العالم العربي والغربي أمرًا غير ممكن.
وبجانب هذا، تقول الباحثة المصرية سهير عبد الباسط: “العرب فقراء معلوماتيًا ولا بد من إنشاء منظمات تساعد في الاستثمار في صناعة المعلومات والتغلب على النواقص في هذه المؤسسات”.
وإثباتًا لهذه الآراء، نشرت مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية إحصائيات تؤكد على جدية واقع البحث العلمي في الوطن العربي، إذ يعتبر مؤشر عدد الباحثين العاملين في البحث والتطوير لكل مليون نسمة من أهم المؤشرات التي تدل على مدى اهتمام مجتمع ما بالبحث العلمي، وبالاطلاع على المؤشرات، بلغت النسبة نحو 318 باحثًا بما فيهم من أساتذة جامعة لكل مليون نسمة من السكان، مقارنة مع 3600 باحث لكل مليون نسمة في الدول المتقدمة، أمثلة على هذه النسب: في اليابان 6000 باحث، وفي فرنسا 5100 باحث و”إسرائيل” 5900 باحث، أما مصر 600 باحث لكل مليون نسمة، والأردن 310 باحثين.
الإحصائيات تشير إلى أن 17 ألف مؤتمر علمي يعقد سنويًا في العالم، وهناك 200 مشارك من الباحثين العرب، و1.1% من البحوث العربية هي التي تنشر
بين عامي 2002 و2007 زاد عدد الباحثين في كوريا الجنوبية إلى 80000 أي أصبحوا 222 ألف باحث، مقارنة مع 123 ألف باحث فقط في الدول العربية مجتمعة، والأسوأ من هذا أن الكثير من الباحثين العرب يعيشون في الغرب وليس في بلدانهم، أي أنه لا يمكن حسابهم على الدول العربية لأن إنتاجاتهم العلمية تذهب إلى الصناديق الأجنبية، وهذا بحسب منظمة اليونسكو.
علمًا أن الإحصائيات تشير إلى أن 17 ألف مؤتمر علمي يعقد سنويًا في العالم، وهناك 200 مشارك من الباحثين العرب، و1.1% من البحوث العربية هي التي تنشر، أي 700 بحث علمي في المعدل السنوي، وهذا تبعًا لأستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك وليد عبد الحي.
إضافة إلى معدل الإنتاجية العلمية الذي لم يتعد 0.3، أي أن معدل الإنتاجية العلمية العربي يبلغ 10% من معدل الإنتاجية السائدة في الدول المتقدمة، ووفقًا لدليل النشر العلمي، فإن نصيب البلدان العربية من النشر العلمي 0.7%، ومعظم البحوث العربية المنشورة تكون بحوثًا تطبيقية تعتمد على الملاحظة المباشرة والتجربة، أو تكون بحوثًا إنسانية اجتماعية.
يوجد 5 مراكز دراسات عربية ضمن أفضل مراكز شرق أوسطية، من بين 75 مركزًا بحثيًا في المنطقة
وهذه الأرقام دليل على الانخفاض الكبير في الإنتاجية العلمية في الوطن العربي وإحدى أكبر مبررات ضعف الدول العربية من النواحي الاقتصادية والصحية والتكنولوجية، ولا يمكن القول على أنها دليل على انعدام العقول البارعة أو المهارات الفريدة في الوطن العربي، لأن النجاحات التي يحققها هؤلاء الأفراد عند الهجرة إلى بيئة علمية تتناسب مع أفكارهم وشغفهم العلمي مؤشر على وجود عقول مفكرة وخلل في البيئة التي لم تتوافر فيها البنية التحتية للبحوث العلمية ولم تقدر هذه الثروات الفكرية.
في دراسة صادرة عن جامعة الدول العربية تقول إن 54% من الطلاب العرب الذي يدرسون في الخارج لا يعودن إلى بلدانهم، و34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا من العرب، كما تشير إلى وجود كفاءات علمية عربية بنسبة 75% في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا.
وتبعًا لتقرير جامعة بنسلفانيا الأمريكية لعام 2016، فإنه يوجد 5 مراكز دراسات عربية ضمن أفضل مراكز شرق أوسطية، من بين 75 مركزًا بحثيا في المنطقة.
حرية أكاديمية علمية
يقول الكاتب ياقوت إن الأكاديميين العرب يفتقرون إلى الحرية الأكاديمية التي تتيح لهم الوصول إلى مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية والدراسات والبحوث، أي أن الباحث العربي لا يمتلك الوسائل المطلوبة في انتاج البحوث والتأليف والتطوير، كما أنه يعاني من قيود وحواجز تمنعه من إصدار دراسات، وهذا غالبًا ما يكون بسبب عدم توافق نتائج الدراسة مع الجهات الرسمية والسياسية والإدارية، بحجة الأمن أو تعدي الخطوط الحمراء.
إثباتًا لذلك، نشرت منظمة حقوق الإنسان تقريرًا مفصلًا عن القيود الحكومية على المشاريع البحثية وتستعرض الأوضاع السائدة داخل المؤسسات التعليمية في الوطن العربي، وأحيانًا تكون هذه الرقابة من جهات أجنبية.
التمويل
إن ما تنفقه الدول على البحث العلمي والتطوير، وما تخصص له من موازنته، عاملان أساسيان في تحديد مدى اهتمام هذه الدول بالعلم وما ينتج عنه من تقدم وقوة وثقل عالمي، ويلاحظ أن إحصائيات الإنفاق تنخفض في الدول غير الصناعية والتي تميل إلى الاستهلاك، أما الدول الصناعية المتقدمة والمنتجة ترتفع فيها نسب الإنفاق على البحوث العلمية.
في الثمانينيات كانت الدول العربية تنفق 0.3% من دخلها القومي على المجال العلمي، بينما تصل النسبة إلى 3.5% في الدول المتقدمة، وفي التسعينيات زادت نسبة إنفاق الدول العربية على البحث العلمي لتصل النسبة إلى 0.5% أي 548 مليون دولار من إجمالي الناتج القومي، إذ كان في مصر 0.4% وفي تونس والسعودية ولبنان 0.1% وفي الأردن 0.3%، وهذا وفقًا لإحصائيات منظمة اليونسكو.
عندما يحير المرض طبيبًا أو مريضًا
عندما يواجه الطبيب مشكلة صحية نادرة أو غير مألوفة، فهذه الحالة تتحول إلى دراسة تحتاج إلى بحث علمي، وللخوض في هذه العملية يلزم على الطبيب أن يحدد المشكلة وأن يجمع البيانات اللازمة والمناسبة مع افتراضيات الدراسة وأن يفرض حلولاً لهذه الحالة، وهناك أساسيات وقواعد كثيرة ومختلفة لهذا البحث وهذا النوع من الإجراءات العلمية التي تتم بطريقة دقيقة.
الطبيب يمارس الطب لأكثر من عشرين سنة دون أن يحضر مؤتمرًا مثلًا، وهذا ما يجعل الطب في بلادنا عشوائيًا ومهترئًا والمعلومات الطبية تكون صدئة
في هذا الخصوص يقول الطبيب اللبناني والأستاذ في كلية الطب في جامعة واشنطن غابي معوض في مقابلة مع موقع العربي الجديد “الإحباطات التي تواجه المريض في العالم العربي هي أن كل طبيب يعطيه رأيًا مختلفًا عن غيره، وهذا لعدم وجود مناهج طبية موحدة، إضافة إلى التراخيص التي لا يتم تحديثها، فبإمكان الطبيب أن يمارس الطب لأكثر من عشرين سنة دون أن يحضر مؤتمًرا مثلًا، وهذا ما يجعل الطب في بلادنا عشوائيًا ومهترئًا والمعلومات الطبية تكون صدئة، بصرف النظر عن أن الطب في تطور مستمر وبالتالي يكون من الضروري جدًا الاطلاع والمتابعة بشكل دائم لتحديث المعلومات والتعامل مع الحالات الطبية بشكل يلائم التقدم الذي توصل إليه العلم في المجال الطبي”، ويضيف “في الغرب تسير الأمور بدقة وتوجيه عالٍ، وتتم هذه الرقابة من قبل نقابات وجمعيات كبرى تهتم بهذه التوجيهات والمبادئ”.
ونتيجة لإهمال متابعة التطورات والاكتشافات الطبية تتدنى الخبرة المعرفية والمهنية لدى الأطباء العرب وهذا ما يجعل البعض يرفض استلام بعض الحالات الصحية الحرجة، وقد يستسلم بعض الأطباء من هذه الحالات ليرسلها إلى المستشفيات الأجنبية لتتعامل معها.
الشعوب العربية تميل إلى العواطف والغيبيات البالية، وهذا نتيجة التربية على هذا الأساس من التفكير النمطي
وفي حين حير هذا المرض أو الوعكة الصحية المريض ومن حوله، فيقع هذا المريض ضحية للثقافة السائدة عن الأمراض النادرة، والتي تحصر المريض في دائرتين من التفكير، الأولى أنه ليس لهذا المرض علاج، أو أن هذا بفعل أعمال السحر والشعوذة التي تعاني منها المجتمعات المتخلفة والتي تفتقر إلى المصادر والمراجع والوعي العلمي في التعامل مع الحالات الصحية الخطرة، وللأسف الشعوب العربية تميل إلى العواطف والغيبيات البالية، وهذا نتيجة التربية على هذا الأساس من التفكير النمطي.
في تقرير نشرته الخليج أونلاين عن إحدى الدراسات الميدانية الحديثة، التي رصدت أن غالبية العرب وخاصة النساء ينفقن نحو 5 مليارات دولار على السحر والشعوذة سنويًا، وغالبا تكون لأهداف العلاج من أمراض كحالات السرطان أو التهاب الكبد الوبائي بجميع مراحله وبعض حالات الإيدز، رغم توصل العلم إلى حلول مرضية في التعامل مع هذه الحالات بنصف التكلفة.
وتعود أسباب هذه التصرفات الرجعية في التعامل مع الأمراض، إلى استفحال الجهل بين المجتمعات العربية وانعدام الوعي الضروري في التعامل مع هذه الحالات بشكل علمي بحت.
باحثون أم مترجمون؟
أثار الصحفي محمد حبش مسألة انتشار الصفحات الإلكترونية التي تتضمن أبحاثًا علمية في مختلف المجالات، وغالبًا ما تكون هذه الأبحاث أو الدراسات العلمية من إنتاج جهات أجنبية وليست من جهات عربية، وعلى الرغم من أن الجهات الباحثة غربية وليست عربية، فيسأل إن كان يحق لهذه الصفحات حمل اسم “باحثين” من ناحية تخص الأمانة العلمية.
الهدف الحالي الترويج للثقافة العلمية في المجتمعات العربية لتكون ملمة بالمفاهيم الأساسية في العلم بشكل مبسط، بجانب الفائدة من هذه المبادرات التي تساهم في رفع مستوى الثقافة العلمية
يشير أيضًا الكاتب حبش إلى أن هذه الصفحات غالبًا ما تقوم بترجمة البحوث العلمية والدراسات الحديثة إلى اللغة العربية لتقديمها إلى الجمهور العربي، فهذه الصفحات تقدم المعلومات العلمية باللغة التي يفهمها المستخدم العربي على شبكة الإنترنت.
وردًا على هذه المسألة، قال المؤسس لصفحة “باحثون سوريون” مهند ملك: “انتشار هذه الصفحات أمر إيجابي، اعتدنا أن يقلد العرب العالم الغربي بالأمور التي لا تناسب ثقافتنا، ومن الجيد أن نقلدهم اليوم بأشياء إيجابية، وهذا يساعد على إثراء المحتوي العربي العلمي، وقد يكون تمهيدًا لخلق مجتمع كبير من الباحثين العرب”، كما يضيف أن الهدف الحالي الترويج للثقافة العلمية في المجتمعات العربية لتكون ملمة بالمفاهيم الأساسية في العلم بشكل مبسط، بجانب الفائدة من هذه المبادرات التي تساهم في رفع مستوى الثقافة العلمية لدى المجتمعات التي تفتقر إلى العوامل التي تجعل لها شأن علمي بين الدول في العالم.