بعد رحلة من المعاناة في الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، استطاع فريق من الممثلين السوريين النجاح في الوصول إلى نيويورك، وتحديدًا إلى مهرجان “لينكولن” تحت رعاية إدارة الشؤون الثقافية في ولاية نيويورك، واستطاعوا خلال بضعة أيام أن يجسدوا مشاعر الشعب السوري أمام جمهور عريض من الأمريكيين.
استطاع الفريق القائم على المسرحية السورية “بينما كنت أنتظر” “While I was waiting” الحصول على ترحيب حماسي من جمهور نيويورك الذي صفق للفريق تصفيقًا حادًا بعد انتهاء العرض الأول من المسرحية في مهرجان “لينكولن” يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي.
كما كان الفريق على مقدرة من خلال أدائه المسرحي المذهل أن يقوم بإيصال رسالة مهمة للجمهور الأمريكي، مفادها أن هؤلاء الناس الذين حاصرتهم الحرب، ويسمع عنهم الأمريكان من خلال الإعلام وكأنهم مجرد أرقام تتزايد في صورة لاجئين وتتناقص في صورة ضحايا وشهداء، عاديون مثلهم، من الممكن أن يكونوا جيرانهم، ولا يستحقون أبدًا أن تتجاهلهم المجتمعات الدولية أو تصورهم على أنهم مجموعة من الإرهابيين.
استطاعت المسرحية بعد نجاح دام لمدة عام كامل بين مختلف المهرجانات الثقافية الأوروبية أن تشق طريقها نحو الجمهور الأمريكي بنجاح، بل وأن يهتم بها الإعلام الأمريكي نفسه في نقده الأدبي للمسرحية على واحدة من أهم صحفه “نيويورك تايمز“.
على الرغم من أن المسرحية عربية بالأساس، يتحدث فيها الممثلون باللغة العربية وأحداثها تمس الجمهور العربي بشكل أساسي، إلا أنها وبعد أن جالت أوروبا ونالت جوائز أوروبية في مهرجانات مختلفة، والآن تنال الإعجاب من الجمهور الأمريكي، لم تسنح لها الفرصة للعرض على أرض عربية وأمام جمهور عربي.
وطن معلق بين الأرض والسماء
في أعلى الصورة الشخصيتان الرئيسيتان “عمر” و”تيم” يتحدثان من عالم مواز للعالم السُفلي للجمهور
المسرحية تأخذك في غيبوبة سورية من مدينة “دمشق” التي تشير إليها مسرحية “بينما كنت أنتظر” بالوطن المُعلق بين الأرض والسماء، أما حينما تصف المسرحية الزمان فتصفه بأنه زمان أصبحت فيه العدمية قمة العقلانية.
تتمحور قصة المسرحية حول “تيم”، وهو الشخصية الرئيسية وابن لعائلة من الطبقة المتوسطة تدور حولها سردية المسرحية، الابن “تيم” في غيبوبة طال أمدها، بعدما تم سحله وضربه ضربًا مُبرحًا لأسباب غير مفهومة من قبل قوات النظام السوري، حيث يدور السرد الواقعي للمسرحية حول مصير “تيم” وغيبوبته وكيف أثرت على قرارات عائلته، كما يكون هناك “عُمر” الفاقد للوعي في غيبوبة أخرى، وهو من ذاق مرار سجن نظام الأسد، ومرار الانضمام إلى داعش منتهيًا به الأمر في سجونها بعد تكفيره.
تتخذ المسرحية سرديتين، الأولى واقعية في البيت والمشفى، والثانية سردية تخيلية للمسرحية فكلها تدور في ذهن كل من “تيم” و “عمر”، حيث تتخذ من العالم العلوي سردية محورية تصور فيها الوطن “سوريا” بالوطن العالق بين الأرض والسماء، في خشبة للمسرح تعلو الخشبة الرئيسية للأحداث تقف فيها الشخصيتان تتحدثان للجمهور بما يدور في ذهن كل من الشخصيتين الواقعين في غيبوبة في العالم السُفلي.
من الإعلانات الترويجية للمسرحية
عمل على صناعة هذا العمل كل من المخرج السوري عمر أبو سعدة مع الكاتب السوري محمد العطار، وقاموا ببناء النص على أساس حكاية حقيقية لصديق للمخرج تعرض لغيبوبة نتيجة الضرب المُبرح من قبل قوات نظام الأسد.
المسرحية تأخذك في غيبوبة سورية، من مدينة “دمشق” التي تشير إليها مسرحية “بينما كنت أنتظر” بالوطن المُعلق بين الأرض والسماء، أما حينما تصف المسرحية الزمان فتصفه بأنه زمان أصبحت فيه العدمية قمة العقلانية
خلق الكاتب محمد العطار في المسرحية عالمين متوازيين، عالم الشخص المُسالم وهو “تيم” الذي لم يؤمن بفكرة الثورة بالسلاح وانكفأ بالتظاهر من خلال مهنته كصانع أفلام، من أجل تصوير كل ما يحدث على أرض وطنه سوريا وتوثيقه، أما العالم الآخر فكان من خلال شخصية “عمر” الذي كان من مشجعي الثورة المُسلحة وانتهى به الأمر مسجونًا في سجون النظام ومن بعدها سجون داعش.
اختار الكاتب الفترة الزمنية التي وقعت ما بين بداية عام 2015 وعام 2016، وهي الفترة الزمنية التي اقترن فيها اسم سوريا في وسائل الإعلام مع اسم داعش، كان للكاتب رغبة في إظهار البُعد الإنساني للأزمة الحقيقية التي أصابت كثيرًا من شخصيات الثورة
التغيرات الثورية في نفوس المشاركين في الثورة
والدة “عمر” تقرأ آيات من القرآن الكريم بجوار سريره في المشفى
يقول كاتب المسرحية محمد العطار في إحدى لقاءاته التليفزيونية في حديثه عن المسرحية إن هاتين الشخصيتين ليستا اختزالًا للمشاركين في الثورة ولا اختزالًا لفكرة الثورة السورية نفسها، فالأمر أكبر وأعقد من ذلك، إلا أن هناك بالفعل فئة عمرية شبابية انخرطت في العمل الثوري وحملت على كاهلها أن تكون في الصفوف الأمامية للثورة وكان البعض منها رافضًا رفضًا قاطعًا لحمل السلاح بينما لم يكن هناك أي خيار ثانٍ للبعض الآخر من أن يحمله.
حاول الكاتب السوري محمد العطار أن يوضح الفرق في التغيرات الثورية التي حدثت في ريف دمشق ومركز المدينة، والتغيرات التي طرأت على المشاركين في الثورة من كلا المنطقتين، والاتجاهات التي اختاروها والتي كانت أحيانًا متناقضة أو اتجاهات اصطدمت ببعضها البعض في كثير من الأحيان خلال مسيرتهم الثورية إيمانًا منهم بالتغيير في سوريا.
تتخذ المسرحية سرديتين، الأولى واقعية في البيت والمشفى، والثانية سردية تخيلية للمسرحية فكلها تدور في ذهن كل من “تيم” و”عمر”، حيث تتخذ من العالم العلوي سردية محورية تصور فيها الوطن “سوريا” بالوطن العالق بين الأرض والسماء
اختار الكاتب الفترة الزمنية ما بين بداية عام 2015 وعام 2016، وهي الفترة الزمنية التي اقترن فيها اسم سوريا في وسائل الإعلام مع اسم داعش، كان للكاتب رغبة في إظهار البُعد الإنساني للأزمة الحقيقية التي أصابت كثيرًا من شخصيات الثورة المعروف بعضها إعلاميًا، بعد أن بدأوا المسار الثوري بشكل سلمي، إلا أنها وبعد استمرار العنف المرتكب تجاهها والإحباط المتراكم، تلقت دعوات السلفية الجهادية المتطرفة وانتهى الأمر بها إما بين صفوف داعش أو بالانسحاب كما تم التصوير في المسرحية.
مشهد لعائلة “تيم” في المسرحية
العلاقة بين الشخصيتين تدور عن الاختلاف في الموقف الثوري، فالاثنان كما لو أنهما يحضران على عالم برزخي حر يطل على دمشق في أيامها الحالية، معلقة أجسادهم في عالم بين الحياة والموت، وعالم مُعلق بين الأرض والسماء.
سافر فريق العمل إلى الولايات المتحدة من بلاد مختلفة من أوروبا والشرق الأوسط، بعد عناء يقول عنه كاتب المسرحية محمد العطار إنه بمثابة الجحيم، حيث تبدو بعض المتطلبات التي يطلبونها لحصول السوري على فيزا للولايات المتحدة غير منطقية، بل مهينة في بعض الأحيان.
استطاع الفريق في النهاية الوصول إلى خشبة المسرح في نيويورك، وإثارة إعجاب الجماهير والحصول على تصفيق حماسي، كما حصل على إعجاب النقاد الإعلاميين بوصف صحيفة “نيويورك تايمز” للمسرحية بالعمل المهيب، حيث تثير القضية الأخلاقية الخاصة بالتزام الأفراد الأخلاقي إما بالحياة في ظل المخاطر أو الهروب لتلك المنطقة الرمادية التي يعيش فيها “تيم” و”عمر” في المسرحية، حيث لا يبدو أن الخيار الثاني متاح لأهل سوريا بعد الآن.