ما إن تهدأ الخلافات بين تركيا وألمانيا ويصافح مسؤولي البلدين بعضهما حتى يعود التوتر من جديد، إذ تمر العلاقات بين البلدين في مخاض جديد شبهه البعض في الأزمة التي عاصرتها العلاقات بين روسيا وتركيا في العام 2015 بعد إسقاط الطائرة الروسية في سماء سوريا من قبل القوات التركية.
الخلافات بين أنقرة وبرلين لم تعد نتيجة استحقاقات سياسية داخلية في البلدين، فالتصريحات الأخيرة التركية والأيام الماضية أثبتت أن تركيا لن تقبل بعد اليوم إلا أن تكون شريكًا ندًا لألمانيا لا يستهان به.
ألمانيا وتركيا صراع متكافئ
بلغ عدد الاشتباكات بين ألمانيا وتركيا، حوالي 12 اشتباكًا منذ مارس/ آذار العام الماضي، بعد كل خلاف كان يعمل مسؤولي البلدين على احتوائها. وآخر تلك الأزمات هي ما أقرته ألمانيا بعد اعتقال تركيا لستة حقوقيين، من بينهم مواطن ألماني، بيتر ستيودتنر، ومدير منظمة العفو الدولية في تركيا، إديل إيسير.
حذرت الحكومة الألمانية بعد تلك الحادثة مواطنيها وشركاتها من خطر الاعتقال “التعسفى” فى تركيا، وقالت وزارة الخارجية الألمانية إن “الأشخاص الذين يسافرون إلى تركيا لأسباب خاصة أو تجارية يتعين عليهم توخي مزيد من الحذر” وأشارت الوزارة إلى أن الشركات تواجه مخاطر استثمارية فى تركيا بسبب أوجه قصور قانونية في تركيا. كما استدعت برلين السفير التركي لديها للاحتجاج على اعتقال الحقوقيين.
وذكرت قناة (إن-تي- في) التلفزيونية الألمانية يوم الجمعة الماضي، إنها لن تبث بعد الآن إعلانات تهدف لجذب المستثمرين إلى تركيا، وذلك بعد أن صعدت برلين الضغط على أنقرة فى أعقاب احتجاز نشطاء حقوقيين.
صدّرت تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، ما قيمته 7 مليارات دولار لألمانيا بما يشكل 10% من مجمل الصادرات التركية في العام نفسه
وردت وزارة الخارجية التركية إن شكوى ألمانيا “غير مقبولة” وتعد “تدخلا مباشرًا في القضاء التركي“. وقالت بأن العلاقات بين البلدين لا يمكن أن تقوم على “الابتزاز والتهديدات”، بعد تعهد وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل باتخاذ اجراءات من شأنها أن تحد من الاستثمار فى تركيا.
من جهتها أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا قالت فيه “علاقاتنا لا يمكن أن تقوم على أساس الابتزاز والتهديدات، لكن على أساس المعايير والمبادئ المقبولة دوليا،” متهمة وزير الخارجية الألمانى بتبني “نهج مشوه وأحادي الجانب“. يأتي هذا بعد حضور رئيس تركيا أردوغان قمة العشرين في هامبورغ، وحديثه مع المستشارة الألمانية ميركل حول العديد من القضايا إضافة إلى لقاءه العديد من المسؤولين الأوروبيين.
وتعد ألمانيا إحدى الدول التي عارضت التعديلات الدستورية التي حصل استفتاء عليها في 16 إبريل/ نيسان الماضي، ورافق ذلك منع مسؤولي الحكومة التركية من القيام بأي حملات لحث المغتربين الأتراك على التصويت لصالح الدستور بينما سُمح للمعارضة التركية بالتحرك بحرية.
رئيس شركة بوش لمنطقة الشرق الأوسط وتركيا ستيف يونغ
ولحقها خلاف حول يارة وفد ألمانيا للجنود الألمان في قاعدة إنجرليك العسكرية في تركيا، حيث رفضت تركيا الزيارة ووصل بألمانيا إلى التهديد بسحب قواتها المشاركة في التحالف الدولي من القاعدة. وانفجر الخلاف مرة أخرى، بعد إلقاء السلطات التركية القبض على الصحافي التركي الألماني، دينيز يوسيل الذي يعمل في صحيفة دي فيلت الألمانية، والذي شكل احتجازه في في فبراير/شباط الماضي، نقطة حساسة أخرى في العلاقات بين الدولتين العضوتين في حلف الناتو.
ودان الرئيس التركي أردوغان اليوم الجمعة، تصريحات وزير الاقتصاد الألماني التي حذر فيها الشركات من الاستثمار في تركيا، وقال إن على ألمانيا أن “تستعيد ثباتها”. وقال أردوغان في كلمة في اسطنبول، إن تحذير وزارة الخارجية الألمانية من السفر إلى تركيا “لا أساس له وخبيث”، وإن على الحكومة الألمانية أن تفصح عن معلومات بخصوص إرهابيين قال إن ألمانيا تؤويهم.
بلغت حصة الاستثمارات الألمانية المتدفقة إلى تركيا بين 2010 – 2016 نحو 6.4% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في تركيا، بواقع 8 مليارات و851 مليون دولار
كما أكد وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، أن الاستثمارات الألمانية في بلاده تضمنها الحكومة والقانون في شكل كامل، نافياً تقارير أفادت بأن أنقرة قدمت لبرلين قائمة بشركات تستهدفها للاشتباه في علاقتها بالمحاولة الانقلابية قبل عام. وقال الوزير أول أمس الجمعة، إن “الزعم أن السلطات التركية أعطت ألمانيا أسماء شركات ألمانية مرتبطة بغولن غير صحيح. هذا خبر زائف”، وأضاف “الأزمة التركية – الألمانية مؤقتة. يجب تحاشي التصريحات التي قد تلحق أضراراً دائمة بالاقتصادين. على ألمانيا أن تعيد النظر في التصريحات غير الملائمة”.
بالرغم من العلاقات الاقتصادية المتينة بين البلدين، والتحالف التاريخي الذي يمتد لما قبل الحرب العالمية الأولى، يرفض المسؤولين الأتراك في أي أزمة مع برلين، ما يصفونه بالتعالي الألماني في التعامل مع الأتراك، والتأكيد على أن زمن تركيا الضعيفة الخاضعة للتعالي الأوروبي الذي يفعل ما يشاء ضد أنقرة ومن ثم يأخذ ما يريد منها، قد انتهى.
وأشارت الناطقة باسم وزارة الاقتصاد الألمانية إن الحكومة تعيد النظر في جميع الطلبات التي تقدمت بها تركيا للمشاركة في مشاريع الأسلحة، من دون الإفصاح عن المزيد من التفاصيل، ونقلت صحيفة “بيلد” الألمانية في وقت سابق أن برلين علقت جميع مشاريع الأسلحة مع أنقرة.
وفي هذا السياق، قال مستشار الصناعات الدفاعية التركي، إسماعيل دمير، إن أي قرار قد تتخذه ألمانيا بمراجعة أو تجميد مشاريع دفاعية مشتركة، سيرفع من المعنويات التركية نحو مشاريع الأنظمة الوطنية والمحلية.
وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل يهدد باتخاذ اجراءات من شأنها أن تحد من الاستثمار فى تركيا
والجدير للانتباه هنا، ما أشار إليه رئيس جهاز حماية الدستور الألماني، هانس جورج ماسين، عندما أكد أن الجهاز الذي يترأسه يرى في تركيا منافسًا بسبب العمليات الفعالة التي قام بها جهاز الاستخبارات التركي، وخلال مقابلة مع مجلة “دير شبيغل” الألمانية، قال ماسين إنه “بعد المحاولة الانقلابية في تركيا، والتحوّل في السياسة الداخلية، لم نعد نرَ جهاز الاستخبارات التركي شريكًا فحسب، بل نراه منافسًا بعد العمليات الفعالة التي أجراها في ألمانيا”، مشيرًا إلى أن الاستخبارات التركية تجاوزت القوانين الألمانية، إذ وسعت من نشاطها في ألمانيا بعد المحاولة الانقلابية لمتابعة المقيمين في ألمانيا من أنصار المحاولة الانقلابية أو حزب “العمال الكردستاني“.
أثر الأزمة على الاقتصاد والاستثمارات المتبادلة
في حسابات الربح والخسارة، يميل الميزان التجاري في العلاقات بين البلدين لصالح تركيا، إذ تُعتبر الأسواق الألمانية واحدة من أهم أسواق تصدير السلع التركية، وبالتالي الخسائر التركية ستكون الأكبر في حال تطبيق أي عقوبات على أنقرة، الأمر المستبعد في الوقت الراهن على الأقل. وبحسب أرقام مجلس المصدّرين الأتراك، فقد احتلت الأسواق الألمانية المرتبة الأولى.
إذ صدّرت تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، ما قيمته 7 مليارات دولار لألمانيا، بما يشكل 10% من مجمل الصادرات التركية في العام نفسه. وبحسب وزارة الاقتصاد التركية، فإن تركيا تمكّنت خلال السنوات الخمس الأخيرة من استقطاب 47.9 مليار دولار كاستثمارات أجنبية، كانت حصة الألمان فيها 3.8 مليارات، بما يشكل 8% من الاستثمارات المتدفقة إلى البلاد.
رئيس شركة بوش لمنطقة الشرق الأوسط وتركيا ستيف يونغ يقول أن استثمارات الشركة في عام 2017 بتركيا مستمرة، بحجم 650 مليون ليرة
وبلغت حصة الاستثمارات الألمانية المتدفقة إلى تركيا بين 2010 – 2016 نحو 6.4% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في تركيا، بواقع 8 مليارات و851 مليون دولار، أما في أول شهرين من عام 2017 فكان حجم الاستثمار الألماني المتدفق إلى تركيا 51 مليون دولار.
بالنسبة لألمانيا وشركاتها فإن تركيا كانت ولاتزال، تشكل تربة خصبة للاستثمارات الالمانية المباشرة. فهناك عدد من شركات صناعة السيارات والأنسجة وصناعات الأدوية ومستحضرات التجميل التي تملك خطوطا إنتاج في المدن التركية. ولا يقتصر الوجود الالماني على الشركات الضخمة والبنوك، بل كذلك الشركات المتوسطة الحجم التي تشكل عماد ومصدر قوة الاقتصاد الالماني اتجهت في السنوات الاخيرة الى فتح خطوط إنتاجية لها في تركيا.
زمن تركيا الضعيفة الخاضعة للتعالي الأوروبي الذي يفعل ما يشاء ضد أنقرة ومن ثم يأخذ ما يريد منها، قد انتهى.
وفي هذا الشأن، فإنه على الرغم من التوتّر السياسي الحاصل بين ألمانيا وتركيا، فقد قال رئيس شركة بوش لمنطقة الشرق الأوسط وتركيا ستيف يونغ “نستمر في استثماراتنا في عام 2017. ونقوم خلال هذا العام كمجموعة باستثمار حوالي 650 مليون ليرة في تركيا، وستنال مدينة بورصة نصيب الأسد من هذا الاستثمار”. وأفاد يونغ أن شركة بوش تركيا نمَتْ في عام 2016، وزادت من حجم مبيعاتها بنسبة 14 % لترتفع إلى 12 مليار ليرة تركية”.
يعد الاقتصاد عماد العلاقة بين ألمانيا وتركيا بحيث تتكامل العلاقة بينهما عبر العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتسعى ألمانيا لاستغلال هذه الورقة للضغط على تركيا، القوة الصاعدة التي باتت تنافسها في كل شيء حتى في المطارات حيث سيؤثر المطار الثالث الذي تبنيه تركيا في اسطنبول على حركة مطار هامبورغ بألمانيا، لذا فإن الضغط الذي تمارسه ألمانيا على تركيا على عدة أصعدة لم يعد يصلح اليوم مع تصاعد الاقتصاد التركي وتحول تركيا إلى قوة إقليمية فاعلة في العديد من الملفات والأجندة.