أثار مشهد افتتاح قاعدة “محمد نجيب” العسكرية في منطقة الحمام شمال غرب مصر على الحدود الليبية حالة من الجدل داخل الشارع المصري وخارجه، ورغم أن إنشاء القاعدة يعود للعام 1993 إلا أنها اليوم تعد أكبر قاعدة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، في ظل ما تم الإعلان عنه بشأن إمكانياتها القتالية.
الاستعراض الضخم الذي تم بثه بالصوت والصورة على الهواء مباشرة ، حين توسط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كلاً من ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد آل نهيان، ومستشار العاهل السعودي أمير منطقة مكة المكرمة، الأمير خالد الفيصل، وولي عهد البحرين، الأمير سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة، واللواء متقاعد خليفة حفتر، لم يمر مرور الكرام على كثير من المراقبين لصيرورة الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك فإن نشر وبث صور المنشآت والأسلحة والتجهيزات والقدرات النوعية الخاصة بالقاعدة العسكرية على الملآ، وبالمجان، بهذه الصورة بات محل تساؤل هو الآخر، إذ أن مثل هذه المعلومات الخاصة بإمكانيات القواعد العسكرية كانت تعتبر في الماضي أسرارًا تعرض من يكشف عنها للمحاكمة، ما يشي إلى أهداف ودوافع أخرى لم يتم الإعلان عنها.. فما هي الرسائل التي سعى السيسي وحلفه إلى إيصالها للداخل والخارج من خلال هذه القاعدة ؟
التطوير المدني للقاعدة تضمن إنشاء المدينة السكنية المخصصة للتدريبات المشتركة منها 27 استراحة مخصصة لكبار القادة و14 عمارة مخصصة للضباط تم تجهيزها بأثاث فندقي، و15 عمارة مماثلة لضباط الصف
أكبر قاعدة عسكرية إقليميًا
تعد قاعدة “محمد نجيب” العسكرية وفق آراء الخبراء والمحللين أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط على الإطلاق، وذلك لما تمتلكه من منشآت وتجهيزات ومعدات عسكرية وأسلحة ومبان إدارية وفنية فضلا عن القدرة البشرية الهائلة التي من المقرر أن تعمل بها.
تقع هذه القاعدة في منطقة الحمام بمنطقة مرسى مطروح، شمال غرب مصر، ويعود العمل في تدشينها إلى عام 1993 في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك.
تبلغ مباني ووحدات التمركز بالقاعدة حوالي 1155 مبنى ومنشأة، إضافة إلى شبكة طرق داخلية وخارجية بطول 72 كم منها وصلة الطريق الساحلي بطول 11.5 كم وطريق البرقان بطول 12.5 كم ووصلة العميد بطول 14.6 كم والباقي طرق داخل القاعدة بلغت 18 كم.
كما يوجد بها أربع بوابات رئيسية وثماني بوابات داخلية للوحدات، كذلك إنشاء ممرات تسع لنقل فوج من الدبابات يصل نحو 451 ناقلة حديثة لنقل الدبابات الثقيلة من منطقة العامرية، وإنشاء 72 ميدانًا متكاملًا شمل مجمعا لميادين التدريب التخصصي وميادين رماية الأسلحة الصغيرة، ومجمع ميادين الرماية التكتيكية الإلكترونية باستخدام أحدث نظم ومقلدات الرماية، كذلك تطوير ورفع كفاءة وتوسعة منصة الإنزال البحري بمنطقة العميد.
التطوير المدني للقاعدة تضمن إنشاء المدينة السكنية المخصصة للتدريبات المشتركة منها 27 استراحة مخصصة لكبار القادة و14 عمارة مخصصة للضباط تم تجهيزها بأثاث فندقي، و15 عمارة مماثلة لضباط الصف، مع رفع كفاءة وتطوير 2 مبنى مجهز لإيواء الجنود بطاقة 1000 فرد، كذلك إنشاء قاعة للمؤتمرات متعددة الأغراض تسع 1600 فرد، وقرية رياضية تضم صالة مغطاة وملعب كرة قدم أوليمبي ونادٍ للضباط وآخر لضباط الصف مجهزين بحمام سباحة و6 ملاعب مفتوحة وملاعب لكرة السلة والطائرة واليد، هذا بالإضافة إلى مزرعة تقدر مساحتها بحوالي 379 فدان بالأشجار المثمرة وأخرى 1600 فدان للنباتات الموسمية.
ما الهدف؟
الهدف الرئيسي لتدشين هذه القاعدة، وفق ما أشارت التعليقات شبه الرسمية، حماية مناطق النفط في غرب مصر، والتصدي للجماعات الإرهابية في تلك المنطقة.
موقع “أر تي دويتشه” الألماني، أشار إلى أن دعم روسيا للنظام المصري، والتعاون بين البلدين خاصة في مجال الطاقة، هو السبب الحقيقي وراء افتتاح هذه القاعدة في مصر، مفسرًا ذلك بأن المحطة النووية “الضبعة” التي تقوم المؤسسة الحكومية الروسية “روس توم” بإنشائها في مرسى مطروح، هو ما دفع السلطات في مصر إلى الإسراع بتدشين تلك القاعدة لتأمين المحطة النووية، في المقام الأول.
وفي المقابل هناك من يرى أن افتتاح القاعدة العسكرية هدف دعائي بالأساس، وذلك في محاولة من القاهرة لإقناع الغرب بأنها تبذل مجهودات جيدة في قضيتي مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، علمًا منها بمدى ما تمثله هاتين القضيتين من قلق لدى الغرب.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: إن كان الهدف من وراء القاعدة حماية المنشآت النووية والنفطية في تلك المناطق من التهديدات، فإن المنطق يقول أن تلك التهديدات من المرجح أن تكون جوية، من دول معادية تمتلك قدرات جوية وصاروخية متطورة، فمن المستبعد أن تتعرض تلك المنشآت لهجوم بري بجيوش جرارة مثلا، ومن هنا فالمفهوم أن حماية تلك المنشآت تحتاج إلى قواعد دفاع جوي حديثة وعالية الكفاءة ومنظومة مضادات للصواريخ، وليس إلى قاعدة تمتلك كل هذه الأجهزة والإمكانيات… إلا إن كان هناك أهداف أخرى غير معلنة.
ينتظر أن يكون للقاعدة دور بارز في العمليات العسكرية في ليبيا على صعيد توفير التدريب والخطط العسكرية واللوجستية لقوات الجيش الوطني التابع لحفتر
“محمد نجيب”.. أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط
دعم قوات حفتر
حضور اللواء متقاعد، خليفة حفتر، لحفل افتتاح القاعدة العسكرية يمثل دلالة واضحة ورسالة جلية على دعم السيسي والدول المشاركة في الحفل لتوجهاته ومؤازرة فريقه في معركة الصراع على النفوذ داخل ليبيا.
دعم النظام في مصر لحفتر ليس بالجديد خاصة بعد الضربات الجوية التي شنتها القاهرة في شرق ليبيا بعد حادثتي ذبح المواطنين المصريين المسيحيين في 2015، وحادثة حافلة المنيا في مايو الماضي، وإن كان ظاهرها مكافحة الجماعات المتطرفة إلا أن باطنها يكشف الدعم العسكري المصري لقوات اللواء الليبي ضد التنظيمات المناوئة له.
قناة “218” الليبية كشفت في تقرير لها أن القاعدة العسكرية المصرية الجديدة “ينتظر أن يكون لها دور بارز في العمليات العسكرية في ليبيا على صعيد توفير التدريب والخطط العسكرية واللوجستية لقوات الجيش الوطني التابع لحفتر”، مرجعة ذلك إلى أن “الملف الليبي يشغل بال المسئولين المصريين، الذين يريدون أن يكون الجيش الوطني قوة ضاربة وجاهزة لضرب الحركات الإرهابية التي تحاول استغلال حالة الفوضى الأمنية في العديد من المدن الليبية لشن هجمات داخل مصر”
القناة نقلت عن وسائل إعلام مصرية أن “قاعدة “محمد نجيب” ستكون مقرا إقليميا لتدريب أفراد الجيوش الوطنية في العديد من الدول العربية”.
المحطة النووية “الضبعة” التي تقوم المؤسسة الحكومية الروسية “روس توم” بإنشائها في مرسى مطروح، هو ما دفع السلطات في مصر إلى الإسراع بتدشين تلك القاعدة.
للحصول على النفط
المخطط المصري لتعزيز وضع حفتر عسكريًا ومحاولة ترسيخ أركانه لقيادة ليبيا خلال الفترة القادمة أو على الأقل إحكام قبضته على المنطقة الشرقية، لا شك وأن له ثمن، فوجود مثل هذه القاعدة سيساعد اللواء الليبي في بسط سيطرته على الميدان بصورة كبيرة.
الدوافع المصرية من وراء تدخلها في الشأن الليبي عبر مساعدة حفتر تتمحور في ثلاثة محاور، الأول: إفشال أي احتمالية لنجاح الفكر الثوري داخل ليبيا بما يعني إجهاض كل ما تبقى من الربيع العربي، وهو ما يتماشى مع المخطط السعودي الإماراتي كما سيرد ذكره لاحقا.
الثاني: رغبة نظام السيسي في الحصول على النفط الليبي المتواجد بصورة مكثفة في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها جيش حفتر، ومن ثم فإن مساعدة اللواء الليبي في إحكام قبضته على هذه شرق ليبيا يعني فتح الباب أمام القاهرة للتزود من النفط في هذه المنطقة.
الثالث: خلق دور مصري مؤثر في الداخل الليبي، بحيث تصبح أحد اللاعبين المحددين لملامح خارطة ليبيا المستقبلية وأبرز المتدخلين في صناعة القرار الليبي، ما يساعدها في تأمين حدودها الغربية من جانب، والاستفادة من كعكة إعادة الإعمار من جانب آخر.
آثار الضربات الجوية المصرية لمواقع في شرق ليبيا
ودعم النفوذ الإماراتي
تعد الإمارات أحد أبرز المؤثرين في المشهد الليبي منذ اشتعال ثورته في 2011، لما تمارسه ولا تزال من تدخلات محورية في خارطة الصراع عبر دعم اللواء حفتر وجيشه في مواجهة التنظيمات الثورية والإسلامية المناهضة له.
وقد وجهت العديد من الاتهامات للإمارات قبل ذلك بسبب تدخلاتها العسكرية في ليبيا، حيث اتهمتها واشنطن في أغسطس 2014، بشن سلسلة من الغارات الجوية على العاصمة طرابلس مستخدمة قواعد عسكرية في غرب مصر، وفي يونيو الماضي قدمت الأمم المتحدة تقريرًا يتهم أبو ظبي بانتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا، وبتقديم مروحيات قتالية وطائرات حربية لقوات حفتر.
ومن ثم فإن وجود قاعدة عسكرية بهذا الحجم وتلك الإمكانيات على الحدود الليبية الملاصقة لمناطق النزاع بين حفتر والتنظيمات المسلحة الأخرى يدعم الدور الإماراتي ليبيًا، ويحقق لها أهدافها ومخططاتها بأياد مصرية دون أن يتسبب ذلك في إدانات إقليمية أو دولية كما كان في السابق، وهو ما دفع البعض للقول بأن القاعدة ستكون في خدمة أبناء زايد أكثر ما تكون في خدمة المصريين، مستندين إلى ما عكسته صورة السيسي بجوار محمد بن زايد ومعهما حفتر خلال مشهد الافتتاح من دلالات رمزية واضحة.
مساعدة اللواء الليبي في إحكام قبضته على هذه شرق ليبيا يعني فتح الباب أمام القاهرة للتزود من النفط في هذه المنطقة.
ومناهضة النفوذ القطري التركي
الحضور السعودي خلال حفل افتتاح القاعدة ممثلا بالأمير خالد الفيصل، مستشار العاهل السعودي أمير منطقة مكة المكرمة،لم يكن عشوائيًا، كما أنه لا يمكن أن يخرج عن سياق الأحداث التي فرضتها الأزمة القطرية الخليجية ومستجداتها.
لاشك أن النفوذ القطري التركي الذي تمخض بصورة كبيرة من رحم الأزمة الأخيرة وتجسد في بناء قاعدة عسكرية تركية في الدوحة، بخلاف ما أبدته طهران من استعداد لدعم هذا النفوذ، أثار القلق السعودي في المقام الأول بصورة كبيرة، خاصة في ظل ما تمتلكه تركيا وإيران من إمكانيات عسكرية هائلة من جانب، وما تواجهه الرياض من عراقيل في أكثر من ميدان من ميادين الصراع المتداخلة فيها وعلى رأسها اليمن وسوريا.
ومن هنا فإن تدشين هذه القاعدة العسكرية المصرية في ظل التقارب الشديد بين القاهرة والرياض المعزز بالمصالح المشتركة والسير سويًا تحت العباءة الأمريكية، هو رسالة واضحة تبعث بها المملكة لكل من أنقرة والدوحة وطهران في نفس الوقت وإن لم يكن بصورة رسمية.
الرسالة هذه المرة مفادها أن “إسرائيل” لم تعد العدو الأول للعرب
فماذا عن الجزائر؟
هناك رسالة أخرى يحملها حفل افتتاح القاعدة العسكرية المصرية لكنها هذه المرة موجهة إلى الجزائر، خاصة بعد تصاعد توتر العلاقات بينها وبين التحالف السعودي الإماراتي المصري جرًاء موقفها من الأزمة القطرية الرافض لفرض الحصار على الشعب القطري، فضلا عن مواقفها السابقة من إيران وحزب الله وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
معروف أن الموقف الجزائري من الأزمة الليبية رافض تمامًا لأي تدخل عسكري، ولطالما حذرت الخارجية الجزائرية من هذه المسألة، لما يمكن أن يترتب عليها من كوارث حسبما جاء على لسان وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، أكثر من مرة، بقوله إن “أي تدخل عسكري آخر في ليبيا سينجر عنه المزيد من الخراب و الخسائر البشرية”، موضحًا أن “المغامرات العسكرية ليس لها أي حظ لحل هذا المشكل لا في القريب العاجل ولا حتى في الأمد البعيد”.
الرفض الجزائري لأي تدخل عسكري في ليبيا يتزامن مع إعرابها عن قلقها من التدخل الإسرائيلي في الشأن الليبي عن طريق دعم القوات الموالية لحفتر، بمساعدة أبناء زايد، وهو ما دفعها إلى توجيه إنذار شديد اللهجة لللواء الليبي، ما أثار استنكار عدد من المسئولين في الإمارات وتل أبيب.
ومن هنا فإن قاعدة “محمد نجيب” ربما تكون رسالة واضحة المعالم تقدمها القاهرة والرياض وأبو ظبي للجزائر للضغط عليها بشأن مواقفها الأخيرة، والتحذير من مواصلة النهج الذي تسير عليه مؤخرًا والمناهض لتوجهات هذا التحالف الثلاثي.
تدشين هذه القاعدة في ظل التقارب الشديد بين القاهرة والرياض المعزز بالمصالح المشتركة والسير سويًا تحت العباءة الأمريكية، هو رسالة واضحة تبعث بها المملكة لكل من أنقرة والدوحة وطهران
مغازلة تل أبيب
من الدلالات الضمنية والرسائل غير المباشرة التي فرضها الاستعراض الأسطوري لحفل افتتاح القاعدة المصرية مغازلة الكيان الصهيوني، الذي طالما سعى لتخفيف العداء العربي ضده، منفقًا في ذلك المليارات منذ إنشاء دولته فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
الرسالة هذه المرة مفادها أن “إسرائيل” لم تعد العدو الأول للعرب، إذ خرج للضوء عدو آخر، تطلب تحويل الثقل العسكري المصري من ناحية الشرق حيث الجيشين الميدانيين الثاني والثالث، إلى ناحية الغرب، حيث الحدود الليبية، وهو ما يعد نقلة نوعية في عقيدة الجيش المصري حسبما ذهب البعض.
هناك رسالة أخرى يحملها حفل افتتاح القاعدة العسكرية المصرية لكنها هذه المرة موجهة إلى الجزائر
مساعي القاهرة لتقوية جبهتها الغربية كشف النقاب عن التخلي عن بعض ملامح العقيدة القتالية للمصريين كون أن “الكيان الصهيوني” هو العدو الرئيسي والوحيد لمصر، الذي يستوجب مناهضته عسكريًا من خلال تعزيز القدرات العسكرية في سيناء، وهو ما أكده تجاهل السيسي لما يحدث في القدس منذ أيام من اعتداءات صارخة على الفلسطينيين والمسجد الأقصى، في الوقت الذي يكيل فيه الاتهامات لدول عربية أخرى.
هذا التحول النوعي في الموقف من “إسرائيل” يأتي في إطار ما سمي بـ”صفقة القرن” برعاية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بهدف زيادة رقعة التطبيع مع دولة الاحتلال، وكسر حالة العداء العربي لها، وهو ما تسير عليه القاهرة والرياض وأبو ظبي ومعهم حفتر بصورة كبيرة.
ومن ثم فإن مشهد توسط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كلاً من ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد آل نهيان، ومستشار العاهل السعودي أمير منطقة مكة المكرمة، الأمير خالد الفيصل، وولي عهد البحرين، الأمير سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة، واللواء متقاعد خليفة حفتر، في حفل الافتتاح الأسطوري لقاعدة “محمد نجيب” العسكرية لم يكن عبثًا، بل كان يتضمن حزمة من الرسائل الضمنية التي تكشف وبشكل كبير خارطة التحالفات الجديدة في المنطقة، ربما تشكل ملامح مستقبل العديد من الملفات خلال الفترة القادمة.