ما تزال تداعيات محاولة الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011م تتوالى حتى أن أهل الكنانة المُخلصين، وفي قول آخر المحروسة، منذ ذلك التاريخ وهم في شغل حقيقي بين تدبير أمور حياتهم وبين محاولة استشراف غد يتغلبون فيه على اللحظة المتعبة المجهدة المضنية.
يعرف القاصي والداني أن الثورات العربية قامت على وخلقت حالة إعلامية عربية استثنائية تحاول نشر الوعي بين الجماهير التي تعاني من أثر الظلم والطغيان وتسعى للتحرر واللحاق بركب الحضارة من جديد، على أن الأمر حينما يتم قصره على الحالة المصرية تحديدًا يجد المرء نفسه في حيرة بين الإعلام المعارض ونقله للواقع من ناحية، والخطة الإعلامية الفتقدة المواكبة للأحداث البالغة القسوة على الحالة المصرية، أولًا، ثم العربية بوجه عام، فما يكاد يمر يوم إلا ويستشهد شاب أو أكثر في مصر، حتى أن أرقام الأفاضل الذين ينتقلون إلى رحمة الله تتعدد بين وسيلة إعلامية وأخرى، في حين أن أرقام الشهداء ترتفع على نحو مهول، فيما يُقصر الإعلام الثوري المصري كثيرًا في حقوق هؤلاء وقسوة تتابعهم، وأحيانًا يروح يتابع أحداثًا أخرى تبدو بالغة الغرابة إن لم تكن مخابراتية بامتياز.
منذ أيام اشتهر مقطع فيديو مخزٍ لراقصة أرمينية، تقيم في القاهرة، ترقص على لوحة إعلانات تسمح بتغير الصورة، وذلك كله بين قبة مسجد ومئذنته؛ وقد تم بث المقطع على أعلى مستوٍ في الإعلام الثوري المصري وغيره، ومصور الفيديو كان أثناء التصوير يتحدث بلهجة قاهرية صرفة، إمعانًا في الإقناع بأن المشهد تم في مصر، بالإضافة إلى ما يبدو على المئذنة والقبة من العلامات الأثرية المعروفة.
انتشر المقطع، الأحد الماضي، على نحو واسع، وتم تداوله في سياق استهزاء الانقلاب العسكري المصري بمظاهر ورموز الدين الإسلامي الحنيف، وهو حقيقة، لكن، الثلاثاء الماضي، حمل حقيقة أخرى، بعد أخذ الفيديو دورته من الانتشار والتعليقات على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، كما هي العادة، بعد قنوات ومواقع إخبارية، إذ نفت الأوقاف حدوث الفيديو من الأساس؛ وكذلك مدير أعمال الراقصة الذي أكد ألا علاقة لها لا بالدين ولا بالسياسة وأنها أستأت منه.
ليس من الصواب على الإطلاق محاولة تصوير “السيسي” على أنه فاقد للإدراك أو العقل أو أبله
ومن عجب أن الحالة الثورية المصرية تشتد يومًا بعد آخر، فيما تجد مثل هذه المواد المفبركة انتشارًا بين الجماهير، وتتورط فيها المواقع والشاشات الثائرة بعد غيرها ضمن سياق سياسة إعلامية عسكرية تحاول إفقاد الإعلام الثوري مصداقيته بوجه خاص، بعد نجاحها جزئيًا في شغل الثوار عن واقعهم المُضني بأحداث لا قيمة لها ولا أساس فضلًا عن فائدة، فما جدوى التركيز على وضع قائد الانقلاب المصري للمنديل الورقي في كمه بعد استخدامه؟ سوى أن شبه الرجل يريد مزيدًا من التلاعب بمنابر إعلامية من المفترض أن تكون مدققًا فيما تنقل، هذا غير ظهوره راكبًا دراجة، أو مدعيًا خروجه إلى الجماهير في الشارع، أو حملقته في الأسقف في حين يزور الأمم المتحدة أو غيرها؛ فإنه ليس من الصواب على الإطلاق محاولة تصوير “السيسي” على أنه فاقد للإدراك أو العقل أو أبله، فهو طراز مخابراتي من أشباه الساسة والرجال يعرف كيف يجتذب الأنظار بعيدًا ليثبت دعائم سلطته؛ فيما ثوريون مشغولون بترهاته، والأفعال المترتبة على انقلاب مصر والتضييق الشديد على أهل الحق، والأخيرة حقائق يجب الاستدلال عليها بوقائع صحيحة، ضمن محاولات التغلب عليها، لا الانسياق وراء الاستهزاء بها وبفاعليها دون انتظار لتغيير أو حتى مجرد سياق.. فضلًا عن عدم مصداقية بعضها من الأساس!
إن الإعلام المعارض المصري تحديدًا يعاني من أزمة عدم وجود خطة للثوار أو منهج أو حتى مجرد استشراف لغد عوضًا عن خطة أو رؤية للتغيير، ولذلك فهو مطالب بدور مضاعف للمحافظة على صورته وما يقدمه؛ ولكي يكون أكثر مصداقية ليقنع القاصي والداني بأهميته، هذا عوضًا عن أن يقتنع البعض بأنه كإعلامي مطالب بوضع الخطة والرؤية الشاملة لمصر، التي لم يضعها السياسي الحركي، وبناء عليه صار لدينا مقدمين لبرامج حوارية يظن بعضهم أنه خبير استراتيجي يتحدث في أمر الثورة وتوقيت النزول إلى الشارع فيما هو جالس في محيط بعيد عن الثورة والمصريين آمن في سربه مطمئن في نفسه لديه قوت يومه وأكثر، فيما لدينا في المقابل طرف من القنوات والمواقع تظن أنها تصنع الحدث لا تقدمه للمشاهد او القارئ!
المسؤولية الخطيرة الشديدة في أيامنا هذه تجعل دور الإعلامي الشريف المخلص مُضاعفًا
إن المسؤولية الخطيرة الشديدة في أيامنا هذه تجعل دور الإعلامي الشريف المخلص مُضاعفًا، يحث على التفكير، ويدعو إلى الثورة في الوقت المناسب، برؤية خاصة يجب أن يحاول أن تكون بالغة التدقيق فهو بين دماء تسيل لا يجب أن يصف شهداءها بالضحايا مثلًا، على مستوى اللفظ، وفي المضمون أن يتورع في نقل كل ما يرد إليه من أخبار وفيديوهات مصنوعة بعناية لإفقاده مصداقيته، وفي المنتصف ألا يساعد بحال من الأحوال على إهدار مزيد من الدماء دون جدوى أو نتيجة بالدعوة إلى النزول والتظاهر في غير المكان والزمان المناسبين ودون رؤية أو حتى روية أو وجود لخطة ثورية ..
إن المصداقية وترشيد الإعلام الثوري، بخاصة المصري، أمانة في أعناق كثيرين، كلٌّ وفق دوره وقدراته، في تناول بسيط الأحداث وخطيرها ..أعان الله المُخلصين ووفقهم وأقدرهم!