يقول “بيتر دراكر” أن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل، هي أن تصنعه، ربما تبدو تلك العبارة صعبة التطبيق على البعض، إلا أنها بالتأكيد ليست كذلك بالنسبة لـ “بيتر دراكر” ذلك لأنه من أكثر المفكرين في عالم الإدارة وممارستها الذي تنبأ بكثير من التغيّرات الجذرية التي غيرت شكل القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، فهو أول من تنبأ بالخصخصة و اللامركزية في الإدارة، و نهضة اليابان كقوة اقتصادية موازية للولايات المتحدة، وتحول التسويق من مجرد أداة إلى مُحرك أساسي لفاعلية المؤسسات والشركات.
ربما ما تنبأ به “دراكر” وتحول إلى مؤثرات ثورية غيّرت في شكل الاقتصاد العام في القرن العشرين، وأثر في مبدأ الرأسمالية بشكل عام وثبّت جذوره ليس فقط في الولايات المتحدة بل بشكل عام، إلا أن أكثر ما تنبأ به أهمية وأكثر اتصالًا بأيامنا الحالية هو عصر المعلومات في تعريف قام “دراكر” بتقديمه حديثًا لعلم الإدارة وهو “عامل المعرفة” (Knowledge Worker).
قام العالم الإداري “دراكر” بتقديم استراتيجية ” الإدارة بالأهداف” (MBO)، وهي إحدى الاستراتيجيات الفعالة التي تُتيح لتوظيف كافة الموارد المتوفرة، ويمنح في نفس الوقت توجيهًا مُشتركًا للجهود نحو الرؤية، من حيث مواءمة أهداف الفرد مع أهداف المؤسسة بشكل كلي، إلا أن العمل باستراتيجية الإدارة بالأهداف لم يكن محوريًا كما هو الحال في مبدأ “عامل المعرفة” حيث اختلف ذلك المبدأ عن كل المبادىء الإدارية المعروفة في كونه يقدس قيمة “المعرفة” كرأس مال أساسي بدلًا من كل ما تنادي به وتُطبقه الرأسمالية.
لا يكون هناك شيء أكثر مضيعة للوقت من أن يتم العمل بكفاءة على شيء لا نحتاج العمل عليه من الأساس
يُعرف “دراكر” عامل المعرفة ذلك بعبارة بسيطة، هو العامل الذي يحتاج أن يُفكر بإبداعية لكي يقوم بكسب المال من أجل المعيشة، ينبع هذا التعريف من فلسفة “دراكر” المشهورة، والتي تُفيد بأن كل ما يحتاجه المجتمعات هو بضعة من العقود لكي تتغير بل وتتحول إلى مجتمعات مختلفة كليًا، فيعيد المجتمع النظر في قيمه الأساسية، و أسسه السياسية والاجتماعية، بل ويعيد تشكيل مؤسساته الرئيسية، وفي غضون خمسين سنة يتحول المجتمع إلى مجتمع مختلف كليًا.
تكون أكثر المجتمعات المتحولة والمتغيرة في نظر “دراكر” هي المجتمعات التي تتحول إلى مجتمعات المعرفة (knowledge society) وهي المجتمعات التي تمنح القيمة للعقول أكثر من الماديات، فعلى عكس الرأسمالية، مجتمعات المعرفة تعتبر “عامل المعرفة” مصدر مهم للإنتاج، بل أكثر أهمية من الأرض ورؤوس الأموال المادية و العمالة، وهو ما سيؤدي إلى عصر “ما بعد الرأسمالية” بحسب رأي “بيتر دراكر”.
لا يُعتبر “عامل المعرفة” (Knowledge Worker) بالمصدر الذي يجب على الشركات البحث عنه طويلًا وإنفاق آلاف من الدولارات في سبيل العمل معه، فعامل المعرفة يتمتع بالخصلات التالية، أن يكون شاملًا لكثير من المهارات والقدرات المعرفية، وأن يكون مختلف عن الآخرين في تلك المهارات والقدرات، وأن يكون صاحبًا لطريقة تفكير مختلفة من أجل القدرة على اتخاذ قرارت مُبدعة لكي يكون له القدرة على تطبيقها في إطار إبداعي ومتطور ومختلف عما سبقه.
ربما لا تتمتع أغلب الشركات بعدد كبير من الأشخاص أصحاب الصفات السابقة، إلا أنهم حتمًا موجودين في كل مؤسسة، حتى ولو كانوا قليلي العدد، ولذلك تحث فلسفة “دراكر” المديرين على العمل على زيادة إنتاجية عاملي المعرفة، بل يقول في ذلك “دراكر” على أن كل ما يجب على الإدارة الحديثة عمله في القرن الواحد والعشرين هو زيادة إنتاجية عاملي المعرفة كهدف المؤسسة الأساسي.
مجتمعات المعرفة (knowledge society) وهي المجتمعات التي تمنح القيمة للعقول أكثر من الماديات، فعلى عكس الرأسمالية، مجتمعات المعرفة تعتبر “عامل المعرفة” مصدر مهم للإنتاج
زيادة إنتاجية عامل المعرفة
تحول المؤسسة من مؤسسة تعتمد على التنفيذ والإنتاج (Product/service based إلى مؤسسة مُعتمدة على المعرفة (Knowledge based)
على الرغم من وفاة “دراكر” عام 2005، وبعد مرور أكثر من عقد كامل على وفاته، مازالت أغلب المؤسسات تعاني من قلة تطبيق فلسفة “دراكر” في زيادة إنتاجية “عامل المعرفة” وتقحمه في خضم روتينها التقليدي، وذلك لأنها لا تقوم بالخطوات التالية، و أولها هي اكتشاف المعلومات المطلوبة، حيث يقول “دراكر” أن ما يُساعد عامل المعرفة أن يُتقن في عمله، هي إتاحة مصادر المعلومات له، حيث يقول في ذلك “دراكر” أن من قدرات عامل المعرفة أن يتعامل مع كميات هائلة من المعلومات “Big Data” وهذا يتطلب من المديرين التنفيذيين أن يعرفوا ما هي طبيعة المعلومات التي يحتاجها عامل المعرفة ويقوموا بتوفيرها له من أجل زيادة إنتاجيته.
الاعتماد على تعلم الإبداع
الخطوة التالية هي أن تتحول المؤسسة من مؤسسة تعتمد على التنفيذ والإنتاج (Product/service based إلى مؤسسة مُعتمدة على المعرفة (Knowledge based)، حيث يقول “دراكر” في ذلك أن المؤسسات عليها أن تتجه نحو الإبداع في الأداء لكي تتمكن من النجاة وسط المنافسين، ولهذا عليها أن تتعلم كيفية الوصول إلى الإبداع بشكل مستمر، وهو ما سيحقق لها القدرة على اجتذاب عاملي المعرفة التي ستعتمد عليهم تلك المؤسسة الإبداعية فيما بعد.
الإدارة الرأسية من أعلى إلى أسفل ممنوعة
يؤمن “دراكر” أن غياب تحدي المعرفة لكي تنمو و تتمدد يعني غياب المعرفة كليًا في وقت سريع
لا يعد هذا المفهوم حديثًا ولا يُعد “دراكر” أول من قدمه لعلم الإدارة الحديثة، بل في الواقع هذه الاستراتيجية في الإدارة معروفة من الخمسينات في القرن الماضي، إلا أن “دراكر” يجدها شديدة الأهمية بالنسبة للمؤسسات التي تعتمد على المعرفة في عملية إتخاذ القرار، ذلك لأن في كثير من الأحيان يكون عاملي المعرفة على قدر من العلم والمهارة بنسبة تتجاوز رؤسائهم في العمل، ولهذا يرى “دراكر” في ذلك أن تغيير مسار عملية إتخاذ القرار من استراتيجية أعلى إلى أسفل أي من المدير إلى عامل أو موظف المعرفة إلى استراتيجية من أسفل إلى أعلى أي أن عملية اتخاذ القرار تكون مسؤولية موظفي المعرفة في الأساس.
المؤسسات تتعلم
يؤمن “دراكر” أن غياب تحدي المعرفة لكي تنمو و تتمدد يعني غياب المعرفة كليًا في وقت سريع، وهذا لا ينطبق على الأفراد فحسب بل على المؤسسات أيضًا، فالمعرفة هي أكثر المصادر قيمة لأي مؤسسة، بل أكثر قيمة من أي مصدر من الممكن أن تمتلكه المؤسسة، ولهذا يحث “دراكر” في علم الإدارة أن تكون الإدارة التنفيذية في المؤسسات على دراية بأهمية مسار التعلم داخل المؤسسة وخارجها، وهو ما يشير إليه خبراء علم الإدارة بـ “العلم القابل للتعديل والتطور الدائم”، والذي يبدأ بإعادة تصميم بيئة العمل من الأساس.
مازالت أغلب المؤسسات تعاني من قلة تطبيق فلسفة “دراكر” في زيادة إنتاجية “عامل المعرفة” وتقحمه في خضم روتينها التقليدي
لا يعتبر أغلب العاملين منخرطين كليًا في عملهم، وذلك لانعدام الهدف أو الغاية كدافع و مُحفز أساسي لعملهم، فالبنسبة لـ “دراكر” لا يكون الحافز الأساسي لأغلب العاملين التقليديين، وهو الراتب الشهري، بمثابة حافز كافي لموظفي المعرفة، ذلك لأنهم لا يعملون من أجل إشباع احتياجاتهم، بل يعملون لأجل إشباع قيمهم، وهذا ما يحث “دراكر” المديرين التنفيذيين على اكتشافه في الموظفين، من أجل أن ينجحوا في مواءمة أهداف المؤسسة مع أهداف موظفي المعرفة، فكما يقول “بيتر دراكر”؛ “لا يمكن لبيئة عمل صحية وإبداعية أن تتواجد في مجتمع مريض”.