في 27 أكتوبر/ تشرين الأول، بينما كانت “إسرائيل” تستعد لتوسيع عملياتها البرية، فرضت حصارًا على كافة مناحي الحياة، وتعمّد جيش الاحتلال فصل شبكات الاتصالات وخدمات الإنترنت، بهدف التعتيم على عمليته العسكرية والتغطية على جرائمه بحق المدنيين العزل، ما تسبّب في كوارث إنسانية، كعدم مقدرة المواطنين التبليغ عن أماكن المجازر التي ارتكبها من أجل انتشال الشهداء وإسعاف الجرحى، وكذلك غياب كبير للتغطية الإعلامية لتلك الجرائم، كما جعل القطاع لأيام طويلة سجنًا كبيرًا معزولًا عن العالم الخارجي.
وقالت شركة بالتل، شركة الاتصالات الرائدة في الأراضي الفلسطينية، في بيان: “يؤسفنا أن نعلن عن انقطاع كامل لجميع خدمات الاتصالات والإنترنت مع قطاع غزة في ظل العدوان المستمر”، وكان هذا هو أول انقطاع من بين عدة مرات لانقطاع للتيار الكهربائي والإنترنت في غزة.
ودعت شركة الاتصالات الفلسطينية المجتمع الدولي إلى الحفاظ على وصول خدمات الاتصالات والإنترنت للمواطنين والمؤسسات الطبية وطواقم الصحفيين، كما دعت الهيئات والاتحادات الدولية إلى الاستجابة للتحذيرات التي أُطلقت لضمان استمرار الخدمات، في ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية واشتداد قصف الاحتلال للقطاع.
دفع الانقطاع المستمر بعض السكان والناشطين من خارج قطاع غزة إلى محاولات كسر هذه العزلة ببدائل للاتصال من العالم، وأثبتت الشريحة الإلكترونية (eSIM) نجاحها بأن تكون الوسيلة الوحيدة للكثير من سكان قطاع غزة للتواصل مع أقاربهم في الخارج، أو نقل ما يجري من أحداث وجرائم للعالم.
وأبرز ما يميز خدماتها سهولة تنشيطها، حيث إنها لا تعتمد على بطاقة SIM فعلية، ويتعيّن على المستخدم لتشغيلها مسح “رمز الاستجابة السريعة (QR code)” المرسل من الخارج باستخدام كاميرا الهاتف النقال، ما يتيح وصله بشبكة اتصالات هاتفية خارجية، غالبًا ما تكون إسرائيلية، وأحيانًا مصرية.
كما تقدم نفس مزايا شريحة الاتصال التقليدية، وتتبع شركة اتصالات من البلد الصادرة عنه، لكنها شريحة رقمية تتألف من رمز يتم إدخاله في إعدادات الهاتف الذكي، وتظهر الشريحة الرقمية عند استخدامها في قطاع غزة على أي شبكة تظهر على الهاتف المتنقل، سواء كانت فلسطينية أو إسرائيلية أو مصرية من خلال تفعيل خدمة التجوال الدولي.
أداة التواصل تحت القصف في غزة
تبنّت مبادرات جماعية وفردية تختصر على دائرة المعارف من خارج القطاع، تزويد النشطاء والصحفيين والطواقم العاملة بالميدان كالإسعاف والدفاع المدني بتلك الشرائح، قبل أن تشمل المبادرات ذاتها المواطنين بلا استثناء، وسهّلت عملية وصولهم إلى الخدمة.
فبعد 60 يومًا من عدم تمكُّن المواطن الفلسطيني خالد المسحال (41 عامًا) من التواصل مع والدَيه وباقي أشقائه، بعد نزوحه من حي الدرج شرق مدينة غزة إلى وسط قطاع غزة بينما حوصرت أسرته بمدينة غزة، تحديدًا منطقة مجمع الشفاء الطبي، أصبحت لديه وسيلة تواصل تساعده على الاطمئنان ومعرفة ما يجري حولهم، حيث كان سماع صوت عائلته ومعرفة مصيرهم أكبر أمنياته التي تشغل تفكيره كلما اقترب الموت واشتد القصف.
يقول لـ”نون بوست”: حينما نزحنا فضّل والدي البقاء ومواجهة العمر المكتوب في بيته وحارته، بينما أنا قررت التنقل بأطفالي إلى مخيم النصيرات، وخلال المدة هذه وقطع الاتصالات لم أعرف مصير عائلتي ولم أسمع صوت أمي أو أبي”.
مضيفًا: “لحسن الحظ أرسل لي أحد الأقارب بالأردن شريحة إلكترونية وشرح لي طريقة تفعيلها، ساعدني على الاتصال بالإنترنت دون الحاجة إلى الخروج من البيت وشراء بطاقة إنترنت أو البقاء دون وسيلة تواصل، كما ساعدني على الوصول إلى أحد أقاربنا وهو مسعف بالمنطقة التي تتواجد بها عائلتي، ثم عن طريقه أيضًا استطعت إيصال شريحة أخرى لأخي الأصغر، ونجحنا في الحصول على مكالمة لبضع دقائق بإرسال متقطع، اضطر أخي قطع مسافات وصولًا إلى مكان عالٍ حتى يلتقطه”.
يرى الكثيرون أن استخدام الشرائح الإلكترونية ساهم أيضًا في تعزيز عمل الصحافة والنشاط الحقوقي في قطاع غزة، كما ساعد في تحسين جودة التواصل بين الصحفيين والنشطاء داخل القطاع ومع العالم الخارجي، كما قال آخرون إن نجاح الفلسطينيين في التغلب على قطع خدمات الاتصالات والإنترنت قوّض الخطة الإسرائيلية.
يقول الصحفي مصطفى البنا إن الشرائح الإلكترونية لم تكن معروفة من قبل بالقطاع، لكن اليوم أصبحت مطلب الناس بالأغلب، لمحاولتهم الوصول إلى العالم الخارجي والأقارب ونقل معاناتهم في ظل ضعف الاتصالات وشبكات الإنترنت.
ويضيف لـ”نون بوست”: “في المرة الأولى للانقطاع التام لشبكات الاتصالات والإنترنت تزامنًا مع بدء العملية البرية، ظلت غزة لأيام طويلة دون معرفة ما يدور في مناطق القطاع، ودون تمكن الصحفيين والإسعاف من تحديد أماكن القصف أو التواصل مع مصادر عملهم”.
شكلت الشرائح منفسًا يساعد إلى حد ما على شعور الناس بعدم انقطاعهم عن التواصل، وأن هناك وسيلة طارئة تنقذهم، كما ساعدت عددًا من الكتّاب والمراسلين استئناف إرسال تقاريرهم لأماكن عملهم، وآخرين على إيصال مناشداتهم، وبعضهم استطاع توصيل الصور من عمق الأماكن المحاصرة كمدينة غزة وشمالها.
وعدا عن دورهم في نقل صورة الحرب، بات الصحفيون الفلسطينيون في غزة الذين تتوافر معهم شريحة إلكترونية، صلة وصل بين سكان القطاع وأقاربهم في الخارج. الكثير من المغتربين يتواصلون عن طريقهم لمعرفة أخبار قطاع غزة وأخبار ذويهم، في ظل انقطاع الشبكة الفلسطينية وبقاء الشرائح الإلكترونية فقط متصلة على الشبكات الخلوية الدولية.
لا يضمن الحصول على الشريحة الإلكترونية توافر خدمة الاتصال، اذ إنها غير ممكنة سوى في المناطق القريبة من الحدود مع “إسرائيل”، أو تتطلب الانتقال الى أماكن مرتفعة للتمكن من التقاط إشارة جيدة، كما أنها تشترط معايير معينة لا بدَّ من توافرها في الجهاز المستقبِل أو جغرافية المنطقة.
تقول الصحفية صافيناز اللوح إن العائق أمام عدم استفادتها من هذه الخدمة يرجع إلى اعتماد تشغيلها على نوع معيّن من أجهزة الهاتف المتطورة والحديثة، مثل آيفون وبعض أجهزة سامسونغ الحديثة، وهو ما لا يملكه الكثير من سكان القطاع، إلى جانب محدودية الخدمة التي تقتصر على سرعة 3 غيغا لا تسمح إرسال الصور أو الفيديوهات، واقتصار الخدمة على جانب الأخبار المكتوبة، وهذا لا يتناسب مع عملها الذي يعتمد كليًّا على الفيديوهات القصيرة والصور في نشر الأخبار عبر مجموعاتها الإخبارية.
كان ضوءًا في نهاية نفق مظلم
إلى بداية الفكرة، تعود مبادرة “توصيل غزة” إلى الناشطة المصرية والكاتبة ميرنا الهلباوي، وهي مبادرة شعبية تستخدم شرائح eSIM -أو بطاقات SIM الافتراضية- لمساعدة الفلسطينيين على تجنُّب انقطاع الاتصالات، وسط الغارات الجوية الإسرائيلية في جميع أنحاء المنطقة.
في البداية، تقول الناشطة الهلباوي أنها انضمت إلى الآخرين على منصة إكس، ودعت إيلون ماسك إلى توصيل خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية Starlink إلى غزة، وكانت متحمسة عندما قال ماسك إنه سيقوم ذلك.
لكن عندما تعثرت المحادثات بشأن تلك الخطط، قررت الهلباوي أن تجرّب أمرًا آخر، وبناء على اقتراح أحد متابعي وسائل التواصل الاجتماعي، قامت بشراء شريحة eSIM مع خدمة التجوال، وحاول صديق لها من غزة الاتصال بشبكة أجنبية، ونجح الأمر، “أدركنا أن هناك أملًا، حتى لو كان أملًا صغيرًا جدًّا، في أننا وجدنا حلًّا، لقد كان ضوءًا في نهاية نفق مظلم للغاية”، تقول الهلباوي.
وخلال 24 ساعة، نشرت على إكس وإنستغرام تطلب من المتابعين الذين يرغبون في المساعدة في استعادة الهاتف والإنترنت للفلسطينيين التبرع بشرائح eSIM، عن طريق شرائها عبر الإنترنت وإرسال رموز QR لها، وشعرت الهلباوي بالثقة في قدرتها على العثور على أشخاص في غزة لديهم خدمة لتوزيع شرائح eSIM في جميع أنحاء المنطقة.
وتقول الهلباوي، في حوار صحفي، إن الجهات المانحة أرسلت رموز الاستجابة السريعة من أماكن بعيدة، مثل الولايات المتحدة وسويسرا وباكستان وهولندا، ويقوم معظمهم بشرائها عبر تطبيقات الهاتف المحمول مثل Simly وAiralo، والتي تسمح للمانحين بمعرفة متى يتم تنشيط شرائح eSIM وتفعيلها.
وتؤمن الناشطة الهلباوي بأن الحق في الوصول إلى الهاتف والإنترنت هو حق أساسي من حقوق الإنسان، لا يقل أهمية عن الغذاء والماء، ومن دون القدرة على الاتصال لا يستطيع المدنيون الفلسطينيون المحاصرون وسط خط النار الاطمئنان على بعضهم أو طلب المساعدة، ولا يستطيع عمّال الطوارئ والعاملون الطبيون تنسيق استجاباتهم، وتقول إن “الصحفيين لا يستطيعون توثيق الفظائع على الأرض، بما في ذلك جرائم الحرب المحتملة”.
ووفقًا لمؤسسة المبادرة، تم التبرع بشرائح eSIM بقيمة 1.3 مليون دولار أمريكي لتوزيعها، وتقول إن المبادرة تربط أكثر من 1000 فلسطيني يوميًّا، ويمكن لكل شخص تحويل هاتفه إلى نقطة اتصال مع 5 أشخاص آخرين.
وتعلق المهندسة رزان عبيدات، أحد أعضاء فريق “ربط غزة” الذي يوصل الليل بالنهار في الاستجابة لطلب السكان بغزة على الشرائح الإلكترونية دون تعب، بالقول: “يعمل الفريق بروح عالية في الاستمرار بربط كل السكان بشرائح الإنترنت، كذلك يبتكر كل الحلول للتغلب على نقاط الخلل أو العوائق أمام عدم نجاح وصولهم للشرائح أو تفعيلها”.
وتضيف لـ”نون بوست”: “رغم شعورنا أن ما نقدمه أقل القليل من الواجب، إلا أن سعادتي تكبر بمساعدة أفراد عائلة تشتّتت لأشهر عديدة على الوصول إلى بعضهم والاطمئنان على سلامتهم تحت القصف وعشوائية الموت والاستهداف، أو مساعدة صحفي على إرسال الأخبار وكشف الحقيقة للعالم ودحض الرواية الإسرائيلية، أو جهات حقوقية”.
وتشير إلى أن الشعب في غزة لديه إصرار كبير على كسر عزلته والتواصل مع العالم، للتعبير عمّا يعيشه من ظروف قاسية وما يكابدونه من ظلم وعدوان، مؤكدة على الاستمرار في مبادرة ربط غزة حتى وقف الحرب وعودة الحياة إليها.