تحوّلٌ مفاجئ شهده السلوك الأمريكي بالعراق، حين استهدفت القوات الأمريكية آمر لواء 12 التابع لهيئة الحشد الشعبي “حركة النجباء”، أبو تقوى السعيدي، رفقة اثنين آخرين، في هجوم شنّته طائرة أمريكية مسيّرة في قلب العاصمة العراقية بغداد، بعد سلسلة من التحذيرات التي أطلقتها الولايات المتحدة، جرّاء استمرار الهجمات التي تشنّها حركة النجباء على مواقع القوات الأمريكية في قاعدة حرير في أربيل، وقاعدة الشدادي شرق سوريا.
الهجوم هو الأعنف في العراق، منذ اغتيال قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في يناير/ كانون الثاني 2020، إذ شهدت مرحلة ما بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة حماس في غلاف غزة بتاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تصاعدًا ملحوظًا في استمرار الهجمات والهجمات المضادة بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران والولايات المتحدة.
ورغم محاولة الإدارة الأمريكية التمسك بقواعد الاشتباك مع الفصائل المسلحة، من أجل توفير فرصة لحكومة محمد شياع السوداني للعمل على ضبط الاستقرار في العراق، إلّا أن فشل حكومة السوداني في تحقيق هذا الهدف دفعها إلى التحرك الأحادي في الفترة الأخيرة.
ومن اللافت أن الهجوم الأمريكي يأتي بعد 24 ساعة من تهديدات أطلقها زعيم حركة النجباء أكرم الكعبي، أثناء مشاركته في حفل إحياء الذكرى الرابعة لاغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني، توعّد فيها بإخراج القوات الأمريكية من العراق، عبر استمرار عمليات القصف الصاروخي للقواعد المتواجدة فيها، مطالبًا حكومة السوداني بتفعيل قرار مجلس النواب العراقي الداعي لخروج القوات الأجنبية من العراق، وهو قرار صوّت عليه مجلس النواب بعد حادثة اغتيال سليماني.
رسائل أمريكية متعددة
يحمل الهجوم الأمريكي على حركة النجباء رسائل عدة، إذ تشكّل الأولى تهديدًا واضحًا لحركة النجباء من أن استمرارها بالعمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية، سيدفع الولايات المتحدة إلى شنّ مزيد من الهجمات التي تستهدف مواقع وعناصر الحركة، خصوصًا أن حركة النجباء استفردت بالعمل العسكري دون غيرها من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وأخذت مساحة واسعة من الاستهداف الأمريكي، إذ تمثّل الحركة العمود الأساسي للفصائل الموالية لإيران في العراق وسوريا، والتي شنّت مؤخرًا العديد من الهجمات على مواقع إسرائيلية في إيلات على خليج العقبة.
أما الرسالة الثانية فموجهة لحكومة السوداني، مفادها أن عدم قيامها بمهمة حماية القوات الأمريكية في العراق، سيدفع الولايات المتحدة إلى شنّ مزيد من الهجمات لدرء الخطر عن قواتها، فرغم التعهُّدات المستمرة التي أطلقتها حكومة السوداني للإدارة الأمريكية، إلّا أنها حتى اللحظة لم تقم بما يلزم لضبط الأمن في العراق، أو على أقل تقدير فضّ الاشتباك الحاصل بين الفصائل المسلحة والقوات الأمريكية، وهو واقع من شأنه أن يؤثر على مستقبل عمل قوات التحالف الدولي في العراق، الذي يجد نفسه هو الآخر في دائرة الاتهام.
وأكد ذلك بيانٌ صادر عن وزارة الدفاع العراقية عقب الهجوم الأمريكي، إذ حمّلت التحالف مسؤولية الهجوم، مشددة على أن استهداف المقرات الأمنية يقوّض جميع التفاهمات معه، وكذلك رأت أن هذا الاستهداف يشكّل تصعيدًا خطيرًا واعتداء على العراق، وبعيدًا عن روح ونصّ التفويض والعمل الذي وُجد من أجله التحالف الدولي في العراق.
أما الرسالة الثالثة فلإيران، إذ تلقت طهران خلال الفترة الماضية العديد من الرسائل المهمة، بدءًا من اغتيال المستشار العسكري للحرس الثوري في سوريا اللواء رضي الموسوي، ومن ثم الاستهداف الذي تعرّض له محيط قبر سليماني وراح ضحيته عشرات القتلى والجرحى، إلى جانب محاولة الولايات المتحدة حشد دعم دولي لاحتواء تهديدات الحوثي في البحر الأحمر.
ويمثّل استهداف قيادات مؤثرة في حركة النجباء رسالة واضحة لإيران، باعتبارها الداعم الرئيسي للحركة، أن عدم ضبطها للتصعيد الحاصل في المنطقة سيجعلها تواجه تصعيدًا في سيناريو الاغتيالات بالمرحلة المقبلة، وقد تتصاعد لتشمل قيادات الصف الأول، سواء على مستوى الحرس الثوري أو قيادات إقليمية حليفة لإيران.
حكومة السوداني تمتلك أكثر من مسار لتهذيب سلوك الفصائل المسلحة، وتحديدًا في مجال إفهام قادة الفصائل المسلحة أنها في وضع جيد في العراق
أما الرسالة الرابعة فتخاطب الداخل الأمريكي، إذ تحاول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تقدم بديلًا عمليًّا لنهج إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، عبر تنفيذ عمليات خارج إطار القانون الدولي، إذ إن عمليات الاغتيال التي تتم في بغداد وبيروت وطهران وأماكن أخرى، هدفها الأساسي الداخل الأمريكي، وتحديدًا اللوبيات اليهودية التي بدأت تراهن على عودة ترامب بسبب السلوك المتردد لإدارة بايدن.
وقد تستمر عمليات الاغتيال في كل مكان، وكل ما كان الردّ عليها أكبر، كان الردّ الأمريكي فوق المتوقع، وهو ما يعني أن لا خطوط حمراء أمامها حتى يحين موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في النصف الثاني من العام الجاري.
والرسالة الأخيرة لـ”إسرائيل”، إذ تحاول إدارة بايدن أن تقدم نفسها على أنها جزء من حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، وذلك عبر تأمين “إسرائيل” من تهديدات مفترضة من إيران وحلفائها، إذ إن مثل هذه الرسالة قد تدفع بإدارة بايدن إلى تغيير قناعات اليمين اليهودي المتطرف، والذي وجّه انتقادات حادة لإدارة بايدن في الأيام الماضية، بسبب عدم قيامها بجهود كبيرة لإسناد “إسرائيل” في هذه الحرب، وأن نجاح بايدن في هذا المسعى قد يعيد الحزب الديمقراطي للواجهة في سباق الانتخابات الرئاسية المقبلة، خصوصًا مع استمرار شعبية الحزب الجمهوري بالتصاعد في استطلاعات الرأي الأمريكية.
معضلة حكومة السوداني
عبّرت حكومة السوداني عن إدانتها للهجوم في بيان حمل تعابير عامة، فقد اعتبر المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي في بيان له، أن استهداف أحد المقار الأمنية اعتداء سافر على السيادة، ولم تمضِ ساعات على الهجوم الأمريكي، حتى أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق عن توجيه ضربة بطائرات مسيّرة لقاعدة أمريكية في الأراضي السورية.
تدرك حكومة السوداني حجم التداعيات الخطيرة التي قد تفرزها عمليات التصعيد المستمر الذي تقوم به الفصائل المسلحة ضد الأهداف الأمريكية في العراق، والردّ الأمريكي عليها، وممّا لا شكّ فيه أن حكومة السوداني تمتلك أكثر من مسار لتهذيب سلوك الفصائل المسلحة، وتحديدًا في مجال إفهام قادة الفصائل المسلحة أنها في وضع جيد في العراق، سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، إلى جانب نجاحها الأخير في انتخابات المجالس المحلية.
إذ إن انخراطها الواسع بالصراع مع الولايات المتحدة قد يجعل المكتسبات التي حصلت عليها بعد انسحاب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من العملية السياسية، وتشكيل الحكومة، ومن ثم إعلانه مؤخرًا مقاطعة الانتخابات المحلية التي جرت في 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أمام خطر الانهيار، فيما لو نتجت ردة فعل أمريكية تفوق قدرة الفصائل على استيعابها.
إجمالًا، تجدُ حكومة السوداني نفسها في وضع صعب للغاية، لكن ما يخفّف من هذه الصعوبة هو عدم وجود رغبة إيرانية حقيقية بالانخراط الموسّع في مواجهة مع الوجود الأمريكي في المنطقة، إلى جانب عدم وجود موقف فصائلي عراقي موحّد من هذه المواجهة، ما قد يوفر لحكومة السوداني فرصة الخروج من هذا التصعيد بأقل الأضرار، وذلك عبر السعي المستمر لتحييد هذه الفصائل عن الاستمرار في استهداف المواقع الأمريكية في العراق، وهو مسعى قد تنجح فيه حكومة السوداني في ظل رغبة إيران الحفاظ على قواعد الاشتباك في المنطقة، على أقل تقدير في الوقت الحاضر.