نعيش في هذه الفسحة الزمنية من التاريخ، مرحلة من القساوة قلما مر على المنطقة مثلها في قديم تاريخها، تتغير فيها ليس الخارطة السياسية فحسب، بل ما هو أهم من ذلك، تغيرٌ في العقائد والولاءات، وأصبح ما كنا نحسبه عدوًا لنا، يجب علينا شئنا أم أبينا، أن نعترف به كصديق، ليس هذا فقط بل ويجب علينا أن نندم على السنوات التي قضيناها في عداوتنا له.
وبالمقابل نلاحظ أن أصحاب العقائد التي كنا نعتبرها فاسدة، وكانت بالأمس متضادة ومتحاربة، تجتمع اليوم على هدف واحد، وتتفانى لنصرته وتبذل الغالي والنفيس لتحقيقه، في صورة غريبة قلما ترى لها نظير في التاريخ، ومن يراقب التطورات في المنطقة التي نعيش فيها، تجعله لا يجد تفسيرًا واحدًا يصف حالة جبن وخور هؤلاء، على الرغم من تاريخهم الحضاري الطويل، وصولة أولئك، رغم خسة تاريخهم.
يتوحدون في حربنا ونتفرق بصدهم
ولنسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية، فليس هناك أفضل من الوضوح بالقول عندما تخاطب ناس قد ذاقوا طعم الهزيمة، في المنطقة نرى النظام الحاكم في طهران، قد استطاع توظيف كل الأقليات لخدمته، من شيعة ونصيرية وعلوية وحوثية و… إلى آخر القائمة، وظَّفهم ووحدهم لهدف واحد، وجعلهم يتعبدون ويتقربون إلى الله في قتال الأكثرية في المنطقة، رغم أن هذه الأقليات كانت تكفّر إحداها الأخرى.
أصبح ما كنا نحسبه عدوًا لنا، يجب علينا شئنا أم أبينا، ان نعترف به كصديق، ليس هذا فقط بل ويجب علينا أن نندم على السنوات التي قضيناها في عداوتنا له
وبالمقابل ماذا فعلت الأكثرية، غرَّتهم وأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئًا، بل ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، تراهم متفرقين وهم يشاهدون بأم أعينهم كيف يقضم طرفهم كل حين، حتى سقطت حواضرهم بيد المتحالفين وهم عاجزون عن فعل شيء ولا يحركون ساكنًا، بل إنهم أصبحوا يستأسدون على بعضهم البعض، ويتعبدون في محاربة شعوبهم، وحينما يريدون أن يستعرضوا قواهم، فهم يستعرضونها على ضعافهم وصغارهم، كما يفعلون الآن عندما اجتمعوا عند السيسي في قاعدة محمد نجيب العسكرية غرب مصر، ليستعرضوا دباباتهم وقواتهم ويوجهوا رسائل تهديد وتحذير لقطر والإخوان وحماس، ولكل الأحرار الذين يقفون ضد توجهاتهم.
إذا عجزنا عن الرد فالأولى أن نرفض
وفي الوقت الذي تدرك الدول العربية أنها خسرت معركتها مع المد الإيراني في المنطقة، أليس من الأولى الحفاظ على موقف الرفض لهذا المشروع، بدلًا من الانخراط به والترويج له بطريقة أو بأخرى، فالسيسي لا يتورع عن مساعدة بشار الأسد عسكريًا وسياسيًا تقربًا لإيران، والسعودية لا تتورع عن تقريب العراق إليها وعقد المعاهدات الأمنية معه، وكذلك تفعل الإمارات، وكم أجد صعوبة في استيعاب حقيقة أن سياسيين لبلد يصفون أنفسهم بأنهم ضد المد الإيراني بالمنطقة، ومع ذلك فإنهم يستقبلون شخصًا تابعًا لمليشيا بدر كوزير لداخلية العراق، رغم أن تلك المليشيا تجاهر ليلًا ونهارًا برغبتها لاحتلال مقدسات المسلمين في مكة والمدينة.
هل هذا من قبيل المصادفة؟ أن تعقد السعودية معاهدة أمنية مع العراق وبنفس الوقت يعقد العراق معاهدة أمنية مع إيران؟ لماذا لا تعقد السعودية معاهدة مع إيران بشكل مباشر توفيرًا للوقت؟ أم إنه فقه المهزومين الذي يدفعهم لفعل ما يفعلون؟
هل شعوبنا بريئة من حالة التردي الذي تعيشه؟
وإذا كان هذا حال ولاة أمورنا، فما حال شعوبنا؟ استمرار العيش في ظل حالة العبودية التي فرضها حكام العرب طويلًا على شعوبهم، جعل كثير من أخلاقيات العبيد تتسلل إلى نفوسهم، وأصبحوا يفكرون بطريقة ترضي الحاكم المستبد رغم معرفتهم أنهم سائرون إلى حتفهم.
فترى مثقفيهم وعامتهم ينحدرون في هوة سحيقة تجعلهم متفرقين، وفي الوقت الذي يقوم به خصمها بضم كل الفرق الباطنية لمشروعهم، نجد علماءنا ومثقفينا يصنفون الناس إلى سلفي وصوفي وإخواني، ويذهب بعضهم ليجتمع في كروزني ليضفي صفة أهل السنة على فريق من المسلمين ويخرج الآخرين من الملة، بل ويقف بعضهم مع الطاغي الانقلابي مثل السلفية في مصر ضد رئيس منتخب من الشعب، والسبب لأنه إخواني يختلف معه ببعض المنهجيات.
علينا ألا نجعل من أوطاننا أندلسًا ثانيًا، لنجلس على صخرة نبكي على ملكٍ قد ضاع
وهل الإخوان مستثنون من هذه الآفة؟ ترى قياداتهم قد بلغ بهم الهرم وسبقهم الزمن، لكنهم ما زالوا متمسكين بقيادة هذا التيار، ولا يعطون أي فرصة للشباب بالقيادة، رغم أن الشباب هم الأولى لمواجهة التحديات الجديدة، فمشاكل القرن الحادي والعشرين لا يمكن حلها بعقلية القرن الذي مضى.
هل من وقفة استدراكية؟
إن للتاريخ جولات فإذا كان الفشل حليفنا اليوم، لا يعني إنه باقٍ للأبد، وسبحانه وتعالى إذا ما رأى الضعف والخور في قومٍ ما، فإنه يستبدلهم بقومٍ آخرين، وحركات التحرر اليوم التي تتوق للحرية والانعتاق من العبودية التي فرضتها الأنظمة الظالمة علينا، لا بد لها من أن تستدرك ما فاتها وتحاول تعديل المسار، وإلا فإن سنة الله ماضية علينا وقانون الاستبدال ينطبق علينا شئنا أم أبينا.
ومن أهم الاستدراكات التي يجب علينا أن نراعيها، الكف عن تقسيم الناس إلى فئات فكرية أو مذهبية، والعمل على إجماعهم لهدف واحد، ما داموا داخل دائرة الإسلام وسنة نبيه الكريم، ففي هذه المعركة الوجودية لا مكان للاصطفافات بمسميات سلفية أو صوفية أو إخوانية، بل يجب على الجميع أن يندرج تحت حلفٍ يحمي بيضة المسلمين من الاندثار وحضارتهم من النسيان، والعمل على عدم عودة عصور الظلام التي عاشها المسلمون في فترات سابقة والتي كانت قد أوشكت أن تذهب بهذا الدين وأهله.
أموال البترول لا تشتري الرجال الذين يقاتلون من أجلنا، وإن اشترتهم لا يخلصون لنا، لأنهم ببساطة مجرد مرتزقة، سرعان ما ينقلبوا ضدك
يجب علينا ألا نجعل من أوطاننا أندلسًا ثانيًا، لنجلس على صخرة نبكي على ملكٍ قد ضاع، فلو مارس مثقفونا وعلماؤنا الدور الذي يتناسب مع خطورة المرحلة، هل كان لتنظيم مثل القاعدة وداعش من وجود؟ ذلك التنظيم الذي كان المعول الذي هدم به أعدائنا حواضرنا، وجعل أعزة أهلها أذلة، هل كان يمكن أن يصل النظام الإيراني في العراق إلى ما وصل إليه الآن، لولا أن العرب والمسلمين تركوا السنة بالعراق لمصيرهم وحدهم دون مساعدة من أحد؟
إن السياسية وحدها والاستناد إلى الغرب لا يكفي لِلَجم طموحات إيران ورغبتها في السيطرة على مناطقنا، إنما يجب أن يتم لهم الإعداد بكل ما أوتينا من قوة، وأن تدافع عن وطنك ودينك وكرامتك بنفسك، فأموال البترول لا تشتري الرجال الذين يقاتلون من أجلنا، وإن اشترتهم لا يخلصون لنا، لأنهم ببساطة مجرد مرتزقة، سرعان ما ينقلبوا ضدك إذا ما عُرض عليهم ما هو أكثر، ولكم في “ترامب” عبرة يا أولي الألباب.