الحفاوة الإعلامية الشديدة بالطالبة مريم فتح الباب المتفوقة في الثانوية العامة والتي حازت على مجموع 99% وهي الحفاوة التي شابها الكثير والكثير من الوصم والتنميط عندما تناولت الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية قصة نجاحها وهي تلقبها بـ”ابنة البواب” وكأنه من المعجزات أن تتفوق ابنة رجل بسيط يقوم بعمل شريف، وكأنها كتب عليها الفشل وأن يكون التفوق والنجاح من نصيب أبناء الأغنياء.
الطبقية الشديدة التي تعاملت بها وسائل الإعلام مع قصة مريم أصابتني بالكثير من الإحباط لأنني واحدة من الصحفيين المعنيين بمحاربة الوصم والتمييز وقدمت عدة تدريبات صحفية في هذا الشأن، كان الهدف منها محاربة هذا التوجه العنصري في معالجة القصص الإنسانية والذي يضرب بالمعايير الأخلاقية عرض الحائط، أحيانًا بحسن نية كمحالة للبحث عن عنوان طريف يجذب القارئ.
وبعيدًا عن عدم أخلاقية غالبية المعالجات التي تناولت قصة تفوق مريم، والتي دفعت المجلس الأعلى للإعلام مؤخرًا للإعلان اعتراضه، فلا يوجد جدال أنها أحيطت بالكثير من مشاعر الفرحة والفخر، وكرمتها لجنة التعليم والبحث العلمي في البرلمان، إلا أن السؤال الذي تبادر إلى ذهني هل إذا تقدمت مريم يومًا ما إلى امتحانات القبول في السلك الدبلوماسي أو هيئة النيابة الإدارية هل تجد ابنة الرجل البسيط المتفوقة علميًا مكانًا لها وسط الدبلوماسيين والمستشارين؟ أم أنها سوف تلقى نفس مصير عبد الحميد شتا هذا الاسم المميز لقصة مؤلمة بطلها الظلم.
المستشار أحمد الزند:” تعيين أبناء القضاة سيستمر، ولن تستطيع قوة في مصر إيقاف هذا الزحف المقدس”
شتا كان طالبًا متفوقًا من أوائل الثانوية العامة 1998 واستمر تفوقه الدراسي في دراسته الجامعية وكان من أوائل خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتقدير عام امتياز مع مرتبة الشرف، وتوقع له أساتذته مستقبلاً حافلاً بالنجاح لتميز كتاباته وأبحاثه العلمية، وبقدر كبير من الثقة تقدم شتا إلى اختبارات جهاز التمثيل التجاري للحصول على وظيفة ملحق تجاري، وكان يتقدم كل أقرانه، فبعد اجتياز جميع الاختبارات التحريرية التي حصل فيها على المركز الأول، لم يحصل شتا على الوظيفة لأن ابن الفلاح البسيط غير لائق اجتماعيًا.
وبعيدًا عن رواية تنكرها أسرة عبدالحميد شتا عن إلقائه بنفسه من أعلى كوبري أكتوبر بعد هذه الواقعة المحبطه التي دمرت حياته، حيث تصر أسرته على أنه قتل ولم ينه حياته بنفسه، فالمؤكد أن الفاعل معروف وهو الظلم الذي أنهى حياة هذا الشاب النابغة.
وعندما تحدث وزير العدل الأسبق المستشار محفوظ صابر عن أن “ابن الزبال مينفعش يكون مستشار” واجه عاصفة من الانتقاد على مواقع التواصل الاجتماعي أطاحت به من منصبه، رغم أنه لم يقل سوى الحقيقة التي تحدث بالفعل، وجاء خلفًا له المستشار أحمد الزند الذي تحدث عام 2012 عن الزحف المقدس قائلاً: “تعيين أبناء القضاة سيستمر، ولن تستطيع قوة في مصر إيقاف هذا الزحف المقدس”، ليتم تعيينه عام 2015 وزيرًا للعدل، وهو أيضًا يقول الحقيقة ويذكر الواقع بكل ما فيه من طبقية وظلم.
مصر بيئة طاردة لأبنائها الممتازين تلفظهم بانتظام وإحكام يتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها
الحقيقة المؤلمة التي لا أستطيع الهروب منها أن التفوق الدراسي والاجتهاد في الدراسة والعمل ليسوا فقط معايير النجاح في مصر، لكي تنجح عليك التمتع بقدر لا بأس به من النفاق والوشاية بزملائك (ما يعرف بـ”العصفوره”)، فضلاً عن العنصر الأهم وهو الواسطة والمحسوبية والتي أصبحت شبه مسيطرة على مهن حيوية وحساسه يفترض ألا يكون فيها مجالاً للوساطة والطبقية في الاختيار، وهو ما يخالف مع ما درسته في كتب التاريخ عن أهداف ثورة يوليو التي واكب أول أمس ذكرى الاحتفال بها، وهو ما جاء على لسان أبطال الأعمال الفنية التي تولت مهمة الترويج لثورة يوليو، وأتذكر أنني منذ رأت عيناي الدنيا وتفتحت مسامعي وأنا أعرف جيدًا أن “الثورة جعلت ابن البوسطجي يبقى رئيس جمهورية”، أي الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
لا أجد ختامًا أفضل مما جاء في كتاب “شخصية مصر” ذلك الكنز القيم، الذي تحدث فيه دكتور جمال حمدان عن “أن مصر بيئة طاردة لأبنائها الممتازين تلفظهم بانتظام وإحكام، يتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها، تتعثر أقدامهم في العمالقة، وقد تطئهم وطئًا وللإمعات والتافهين طول البقاء”.