لطالما كان الزمن منبعًا للألغاز والتساؤلات التي شغلت العلماء على مدار سنين طويلة محاولين وضع تفسيرات له من عدة نواحٍ الفلسفية والكونية منها، أو النفسية المتعلقة بالإنسان وإدراكه له وشعوره به. وعلى الرغم من أنّ الوحدات الزمنية هي نفسها بالنسبة لجميع الأفراد على كوكب الأرض، فكلّ دقيقة تحوي 60 ثانية وكلّ يوم يحوي 24 دقيقة، إلّا أنّ ثمةَ فارق كبير في طريقة إدراكنا وتعبيرنا عن الزمن، فكم من مرةٍ شعرتَ أن “الزمن مرّ بسرعة كبيرة” في حين أنّ صديقك شعر بالعكس ورأى أنّ الزمن “مرّ بشقّ الأنفس”.
وعلى مستواكَ الشخصي وربّما خلال نفس اليوم فقد تشعر أنّ لحظة من الزمن قد استمرّت “للأبد” في حين أن غيرها قد انتهت “كلمح البصر”. فكرتُ بالأمر اليوم حينما تفقدتُ التاريخ ووجدتُ أنه الخامس والعشرين من الشهر الذي لم أشعر بمروره أبدًا. فما هي الأسباب التي تجعلنا نتباين في أحاسيسنا وإدراكنا للأزمان والأوقات؟
حاول علماء النفس منذ سنين كثيرة تقديم نظريات عديدة تفسّر ذلك، من بينهم عالم النفس والفيلسوف الأمريكي في جامعة هارفارد ويليام جيمس -الأب الروحي لعلم النفس-، الذي حاول في نهاية القرن التاسع عشر وضع تفسيرات تشرح لماذا يبدو الوقت أطول عندما تكون متجهًا إلى مكان لم يسبق لك الذهاب إليه من قبل، لكنك تشعر أن طريق العودة يستغرق وقتًا أقصر، رغم أنّ الزمن الذي استغرقته ذهابًا وإيابًا متماثل تمامًا.
الإحساس بتسارع الوقت ينتج عن تزايد الواجبات المهنية والأسرية للفرد
افترض وليام جيمس أنّ الزمن يتمّ قياسه عن طريق “أوّليات”، فالتجربة الأولى لكّ في أمرٍ ما تجعل وقتك أبطأ مما سيكون عليه في حال كانت أيامك أو أوقاتك خالية من التجارب أو تحتوي على تجارب مكررة، والسبب يعود أنّ العقل البشريّ يعمل على تحويل التجارب الجديدة -وليس التجارب المعتادة- إلى ذكريات، ويكون حكمنا على الوقت من خلال المنظور “الاسترجاعي” للذاكرة، أي بعد انتهاء الحدث ومروره، وبالتالي يكون شعورنا بالزمن مبنيًا على التجارب الجديدة التي تكونت وما نتذكره من أحداث خلال تلك التجارب. وبكلماتٍ أخرى فإنّ طريق الذهاب الجديد يحوي على تجارب جديدة أكثر من طريق العودة الذي باتَ معتادًا نوعًا ما، وبالتالي يبدو وكأنه استغرق وقتًا أقل.
مثال آخر قد يوضّح النظرية أكثر، تخيّل أنك ذهبت لإجازة من أربعة أيام، فبحسب هذه النظرية فإنّك كلما عملت على تكوين ذكرياتٍ أكثر خلال تلك الأيام وقام دماغك بحفظها وتخزينها، ستشعر أنّ إجازتك كانت أطول مما لو كوّنت ذكرياتٍ أقل، -في حال لو نظرتَ إليها لاحقًا وتذكرتها بعد مرورها بوقتٍ طويل-.
النظرية النسبية لتفسير الزمن
تشير النظرية النسبية التي وضعها عالم النفس والفيلسوف الفرنسي باول جانيت، إلى أننا ندرك الزمن من خلال مقارنته بمدة حياتنا، ويرتبط الطول الذي تبدو عليه فترة زمنية ما بعلاقة نسبية مع مدة حياتنا. أيّ أن طفل عمره 10 سنوات فإنّ سنة واحدة تساوي 1/10 من عمره، في حينّ أنّ الشخص البالغ من عمره 50 عامًا فإنّ سنة واحدة تساوي 2% فقط من عمره.
وتنخفض النسبة أكثر مع تقدمك بالعمر، فمع مرور السنوات ستلاحظ وكأنّ كلّ عام يمرّ وكأنه أقل زمنيًا من العام السابق. وقد يفسر هذا السبب وراء السؤال المزعج على لسان الأطفال دائمًا خلال الرحلات بالسيارة “هل وصلنا؟”، أو سؤالهم عن عدد الأيام المتبقية لقدوم العيد مثلًا، ففترات انتظارهم تبدو أطول بالنسبة إلى الأطفال عما تبدو عليه بالنسبة للبالغين.
مع مرور السنوات ستلاحظ وكأنّ كلّ عام يمرّ وكأنه أقل زمنيًا من العام السابق
مشكلة هذه النظرية أنها تحاول دومًا أن تقدم تفسيرًا للوقت الحاضر وشعورنا به بناءً على الزمن الماضي ككلّ. كنّ الأمر ليس كذلك، فنحن نعيشُ حياتنا اليومية بوحداتٍ أصغر بكثير، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة.
لماذا يمرّ الوقت بشكلٍ أسرع كلما تقدّم بنا العمر؟
في أول دراسة من نوعها حول مرور الزمن النسبيّ عبر مراحل العمر المختلفة، قام عالما النفس من جامعة ميونخ مارك ويتمان و ساندرا لينهوف بتوزيع استمارات على ما يقارب الـ500 مشاركٍ تتراوح أعمارهم بين الأربعة عشر والتسعين عامًا، وطلبا منهم وصف شعورهم بمرور الزمن في حالات مختلفة بإجاباتٍ تتراوح “يمرّ ببطء شديد” إلى يمرّ بسرعة شديدة”.
وجد كلّ من العالمين أنّ جميع المشاركين بغض النظر عن أعمارهم يعتقدون أنّ الوقت يمرّ بسرعة. فعلى سبيل المثال، فإن سؤال “كيف مرّ الزمن في السنوات العشرة الأخيرة”، أسفر عن استنتاج علاقة بين تصوّر زيادة سرعة الزمن والتقدّم في العمر، أيّ أن المشاركين الأكبر عمرًا اعتقدوا أنّ الزمن مرّ أسرع بشكلٍ أكبر من المشاركين الأصغر عمرًا، وقد بلغت ذروة هذا الاعتقاد في المشاركين الذين تتراوح أعمارهم الخمسين، وظلّت ثابتة حتى منتصف سنّ التسعين عامًا. في حين أنّ الأسئلة التي كانت تُعني بالفترات الزمنية القصيرة مثل “الأسبوع الماضي أو الشهر الماضي” فلم تشمل أيّ اختلاف مع تغير العمر.
إحساسنا النسبي بالزمن ينبع من طريقة إدراكنا له، فإذا حاولنا أن نبقي على أدمغتنا نشيطة من خلال خوض التجارب التي لم نخضها من قبل وتعلم المهارات الجديدة
أرجع كلا العالمين السبب إلى أنّ الإحساس بتسارع الوقت ينتج عن تزايد الواجبات المهنية والأسرية للفرد، وبالتالي شعوره النفسيّ بأنه غير قادر على مواكبة ومواجهة متطلبات الحياة، ودخوله في رتابةٍ أكثر ما يجعله يمرّ بتجارب جديدة ومميزة بشكلٍ أقل بكثير مما كان عليه سابقًا.
وقد أطلقت عالمة النفس كلوديا هاموند على هذه الظاهرة مصطلح “مفارقة الإجازة”، والذي قدّمت من خلاله شرحًا ساعد على فهم لماذا يبدو الوقت وكأنه يمضي بسرعة كلما تقدم بنا العمر. ففي الفترة من الطفولة حتى بدايات النضج يكون لدينا الكثير من الخبرات الجديدة، ونتعلم عددًا لا يُحصى من المهارات التي لم نكن نعرفها من قبل، غير أن حياتنا كبالغين تصبح أكثر رتابة، فنمر بعدد أقل من اللحظات المميزة، فتبدو السنوات المبكرة من عمرنا ذات حضور أكبر نسبيًّا في ذاكرتنا، ونشعر كأنها استمرت زمنًا أطول عندما نتأملها لاحقًا.
ما يعني أنّ إحساسنا النسبي بالزمن ينبع من طريقة إدراكنا له، فإذا حاولنا أن نبقي على أدمغتنا نشيطة من خلال خوض التجارب التي لم نخضها من قبل وتعلم المهارات الجديدة، فقد يكون بإمكاننا تبطيء وتيرة الزمن والتقليل من حدّة شعورنا بسرعته وطيرانه حتى وإن تجاوزنا مرحلة الشباب وكنا على مشارف الشيخوخة.