على الرغم من بزوغ نجم التعليم الرقمي حديثًا من خلال منصات التعليم المختلفة على شبكة الإنترنت، إلا أنه استطاع أن يجد طريقه نحو التعليم التقليدي، ليكون له القدرة على استبدال أدواته و وسائل التعليم الخاصة به، بل وجد طريقه لاستبدال المعلم نفسه أحيانًا في نظام التعليم التقليدي، ليتحول المعلم في تلك الحالة من خبير في محتوى التعليم وطريقة تدريسه للطلاب، إلى شخص يدعم الآلة بالمناهج الدراسية اللازمة.
هناك فرضية تقترب من الحقيقة تقول بأننا لن نحتاج المعلمين في المستقبل بنفس الطريقة التي نحتاجهم بها الآن
بين مؤيد ومعارض لفكرة استبدال المدارس والمناهج التعليمية التقليدية بالتعليم الرقمي الذي من الممكن أن يُمحي فكرة المعلم التقليدي بل ويقضي على فكرة الاحتياج للذهاب إلى المدرسة، لا شك أن إجابة أغلب المعلمين حيال توقعاتهم عن شكل الصفوف الدراسية بعد مرور عقد من الآن ستتضمن توقعات عن تحول القاعات إلى شاشات إلكترونية عملاقة، كما ستتضمن الإجابة توقعات بهيمنة “قاعات الدراسة الافتراضية” والتي ستتضمن تقنيات احترافية باستخدام حديث التكنولوجيا من تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز جنبًا إلى جنب.
هل ستختفي وظيفة المعلم؟
احتد النقاش حول مستقبل المعلم في ظل هيمنة التعليم الرقمي، فكان من بين التوقعات تحول مهنة المعلم إلى مهنة “مُيسر التكنولوجيا” (Technology Facilitator) وهو الموظف الذي سيعمل على حفظ عمل الآلات داخل القاعة الافتراضية وسيحفظ انضباط سلوك الطلاب، وهو الأمر الذي سيقلل من مرتبات المعلمين مقارنة بمرتباتهم الحالية، مؤديًا إلى فرضية انهيار اتحاد المعلمين للأبد.
هناك فرضية تقترب من الحقيقة تقول بأننا لن نحتاج المعلمين في المستقبل بنفس الطريقة التي نحتاجهم بها الآن، وهذا يجعل الكثير منهم يتساءل عن أهمية السنوات التي قضوها من عمرهم في برامج الدراسات العليا في أدب اللغات و برامج تعليم وتدريب أصول التربية، فكل واحد منهم الآن في حاجة إلى دورات تدريبية في أساليب التعليم الرقمية، وكيفية التعامل مع التكنولوجيا الحديثة في التعليم، بل هناك بعض منهم قرر ترك العملية التربوية التقليدية برمتها وبدأ في دراسة برامج مثل تدريس وتعليم التكنولوجيا نفسها للطلاب.
تعد أكثر المنصات شهرة في تلك التجربة هي “School of Life” وهي إحدى المنصات التعليمية الرقمية التي تقوم بنشر مقاطع تعليمية من الفيديوهات تختص بمجالات الفلسفة والذكاء العاطفي
لا يكون ما سبق مجرد تجارب شخصية أو فردية على مستويات المعلمين فحسب، بل يمكن لأي فرد سواء كان طالبًا أو غير طالب أن يراها على أرض الواقع بالفعل، حيث يثبت ذلك المحتوى التعليمي الموجود على الإنترنت الآن، والذي كان في السابق ملك للمعلم وحده، أصبح الآن في صورة مقالات وفيديوهات وكتب إلكترونية موجودة على صفحات الإنترنت المختلفة منها المجاني وغير المجاني، إلا أنها في النهاية أصبحت متاحة لكي يجدها الجميع في أي وقت وفي أي مكان وليست حصرًا على معرفة وخبرة المعلم وحده.
ما المشكلة في التعليم الرقمي؟
أصبح الآن متاحًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأهمها موقع يوتيوب منصات للتعليم الرقمي بشكل مواز للتعليم التقليدي، تقوم باختزال المعرفة الموجودة في الكتب أو المُكتسبة من خلال ساعات طويلة من الدراسة داخل الصفوف الدراسية في دقائق معدودة، تستطيع من خلالها تعلم المبادئ الأساسية التي قد يستغرق المعلمون الكثير من الوقت في شرحها من خلال مقطع لن يتعدى 5-6 دقائق.
تعد أكثر المنصات شهرة في تلك التجربة هي “School of Life” وهي إحدى المنصات التعليمية الرقمية التي تقوم بنشر مقاطع تعليمية من الفيديوهات تختص بمجالات الفلسفة والذكاء العاطفي (Emotional Intelligence) بطريقة مبتكرة من خلال مقاطع مصورة قصيرة تعتمد على الرسم مع صوت في الخلفية يقوم بشرح المفاهيم الأساسية التي يُعبر عنها الفيديو بالرسومات والأيقونات المرسومة.
أصبح صاحب فكرة “School of Life” وهو السويسري “آلاين ديبوتون” من أكثر رواد التعليم الرقمي من خلال اليوتيوب إعجابًا، ذلك لأن تجربته في نظر الكثيرين بمثابة تغيير ثوري في مناهج التدريس وفي أهمية تواجد الكتب التعليمية، لا عجب في ذلك، فإن من أشهر أقوال “ديبوتون” أن محلات بيع الكتب هي ملاذ من يشعرون بالوحدة، مع الأخذ في الاعتبار آلاف الكتب التي كتبها المؤلفون لأنهم لم يجدوا أي أحد يشاركونه الحديث.
كيف نثق في منصات التعليم السطحي؟
إحدى مقاطع المنصة
لا تبتعد فكرة “School of Life” كثيرًا عن تسويق المنتجات، إلا أنها هنا تقوم بالتسويق الرقمي (Digital Marketing) للمعرفة في شكل جذاب للمشاهدين
تحقق “School of Life” مئات الآلاف من المشاهدات يوميًا على يوتيوب وملايين المشاهدات أسبوعيًا، واستطاعت أن تنتشر كشركة تعليمية من خلال فروعها المختلفة من لندن و برلين وإسطنبول و سيول وحتى عاصمة دولة الاحتلال تل أبيب بعد أن تم تأسيسها عام 2008.
يحمل عنوان الشركة أو المنصة الكثير من هدفها، فالعنوان “مدرسة الحياة” يحمل هدف “آلاين ديبوتون” في أن يجعل التعليم مرتبط بالحياة، وألا يكون مجرد قضاء الوقت في تعلم النظريات والفرضيات بعيدًا تمامًا عن التطبيق على أرض الواقع، ولذلك فهو يجعل المنصة في الأساس تجيب على أسئلة فلسفية ولكن حياتية يتعرض لها أغلبنا تقريبًا يوميًا.
على الرغم من انتشار الشركة ونجاحها كنموذج أساسي للتعليم الموازي من المنصات الرقمية، إلا أنها كانت مُعرضة للنقد من قبل المدافعين عن أصولية التربوية والتعليم من المصادر الأساسية كالكتب أو المعلمين، حيث تلخصت الانتقادات في أن تلك المنصة تعد من إحدى المنصات المتحيزة والمتعصبة لآراء صاحبها، و أنها تُقدم معرفة تعليمية سطحية، بالإضافة إلى كونها منصة ربحية في المقام الأول.
منصات تعليمية ربحية
لا تبتعد فكرة “School of Life” كثيرًا عن تسويق المنتجات، إلا أنها هنا تقوم بالتسويق الرقمي (Digital Marketing) للمعرفة في شكل جذاب للمشاهدين، وهذا يُفسر النقد القائل بأنها منصة مُتحيزة لأفكار صاحبها، فعلى الرغم من وصفهم لأنفسهم بأنهم منصة منفتحة وغير متحيزة إلا أنهم ومع ذلك ينتقون المحتوى المعروض بشكل يناسب أفكار “آلاين ديبوتون”.
هذا يظهر في تحيز بعض المقاطع التعليمية عن فلسفة تربية الأطفال والتي تُظهر نفور “آلاين” من فكرة إنجاب الأطفال نفسها وهذا ما يحاول تطبيقه من خلال مقتطفات فلسفية مُختارة، كما يظهر في سطحية تناول الدين في بعض المقاطع المصورة واختزاله لغرض الدين من كونه لا يعلمنا ما هو الصحيح من الخطأ بل يقدم لنا ما نرغب في أن يكون صحيحًا وما نحب أن ندعوه خطأً، وهذا يظهر في بعض المقاطع الخاصة بترويج الإلحاد في مقاطع تصفها المنصة بأنها تعليمية.
هناك فرق شاسع بين الحديث عن الإلحاد أو عن النفور من فكرة إنجاب الأطفال، وبين الترويج لتلك الأفكار في منصة تصف نفسها بأنها تعليمية ومُنفتحة وغير متحيزة، وهذا يُفسر النقد الثاني للمنصة كونها تُقدم محتوى فلسفي سطحي وغير مُتعمق في المعرفة، وهذا ما يُفسر ما يقوله بعض النقاد للمنصة على أنه من الممكن اعتبارها مقدمة للعلوم الأساسية.
تعمل المؤسسة في إطار يصفه النقاد بأنه ربحي، ذلك لأنه يعمل من خلال المنصة على جذب الكثير من المشاهدات من خلال تقديمه محتوى يتشابه مع محتوى المنصات التي تقدم النصيحة الحياتية للأفراد أو المنصات التي تساعد على تقديم النصائح للمتزوجين أو للعائلات، إلا أنه يغلفها في قالب فلسفي.
لا تعمل هذه المنصة وحدها، بل هناك مجموعة كبيرة من المنصات المشابهة تتشابه في التصميم والهدف وتختلف في المحتوى، بعضها يزيد كفاءة ويستحق لقب منصة للتعليم الرقمي بحق والبعض الآخر يقوم بترويج محتوى بصري شديد البراعة إلا أنه فارغ من المحتوى التعليمي من الأساس، وهو السؤال الذي ينتظر المعلمون مرور بضعة سنوات للإجابة عنه، هل يمكن لتلك المنصات الرقمية أن تستبدل التعليم التقليدي كليًا؟