عبد الله البرغوثي أحد الأسماء التي أصرت حماس مؤخرًا على فك قيده ضمن صفقة تبادل الأسرى التالية، وهو أحد كبار مهندسي المقاومة والقائد السابق لكتائب القسام في الضفة الغربية والقدس المحتلة، الذي يدخل عامه الـ22 في السجون الإسرائيلية، إذ يقضي 67 حكمًا بالسجن مدى الحياة، إضافة إلى 5200 سنة، وهي عقوبة غير مسبوقة في التاريخ.
في الواقع، كان اسم البرغوثي حاضرًا على رأس قائمة الأسرى التي أعدتها حماس في كل عمليات تفاوض تبادل الأسرى السابقة، وفي حين تضغط حماس بقوة منذ سنوات وحتى اللحظة من أجل إطلاق سراحه، تصر الحكومة الإسرائيلية السابقة والحاليّة على استمرار اعتقاله.
بالنسبة لـ”إسرائيل”، البرغوثي واحد ضمن أربعة أشخاص ترفض مجرد التفاوض بشأن إطلاق سراحه، نظرًا لقدراته وتأثيره في الميدان العسكري، كما تطلق عليه “صاحب أكبر ملف أمني لدى جهاز الشاباك”، وبالتالي إذا تم الإفراج عنه فسيعد إنجازًا كبيرًا لحماس.
لكن رغم تشبث “إسرائيل” بعدم الإفراج عن البرغوثي مستقبلًا، فمن الواضح أن 7 أكتوبر/تشرين الأول أثبتت أن هناك تفاؤلًا بإطلاق سراحه، فمن هو البرغوثي؟ ولماذا يُصر الاحتلال في كل عملية تفاوض على إبعاد اسمه في أي صفقات لتبادل الأسرى.
أعراس الشهداء
ينحدر عبد الله البرغوثي من قبيلة البراغثة التي تعيش في منطقة رام الله بالضفة الغربية، وهي عائلة كبيرة ومشهورة انخرطت في مقاومة الاحتلال وخرج منها العديد من الشعراء والأدباء، وبعد أشهر قليلة على هزيمة 1967، هاجر بعض أفراد العائلة إلى الكويت، وفيها ولد البرغوثي عام 1972، وعايش وهو طفل صغير ظروف التهجير من الوطن.
نشأ البرغوثي وسط عائلة محافظة، وتأثر بالبيئة التي ترعرع فيها، إذ تلقى تربية دينية وترك الوالد والوالدة أثرًا كبيرًا في داخله، وقد رأوا فيه نبوغًا وذكاءً، إذ أحب البرغوثي منذ صغره الميكانيكا وتفكيك الأشياء وإعادة تركيبها.
تلقى البرغوثي تعليمه الأساسي في الكويت وكان يعيش طفولة هادئة إلى أن جاء يوم ما عاد فيه طفلًا صغيرًا، فقد كبر فجأة عندما اندلعت انتفاضة الحجارة واستشهد فيها العديد من أقاربه، ويروي في سيرته الذاتية التي كتبها في السجن تحت عنوان “أمير الظل” أن هذا الحدث ولد في أعماقه شعورًا دفينًا بالانتقام من المحتل، وحضر وهو بالكويت الأعراس التي كانت تقام للشهداء.
ومن هنا تحديدًا بدأت تنمو في نفس البرغوثي فكرة المقاومة وعقاب المحتلين على جرائمهم، وخلال دراسته في المدرسة، قرر أن يتحول من طفل إلى شاب قوي، وبالفعل بدأ يمارس الرياضة القتالية، وفي أثناء فترات العطلات الدراسية كان يذهب إلى صحراء الكويت ويتدرب على السلاح، وظل يمارس هذه العادة حتى في أسفاره.
يصف البرغوثي نفسه بأنه في تلك الفترة كان يمتلك عقلين: أحدهما يتقن جمع المال، والآخر خصصه لفلسطين، حيث تعلم في كوريا صنع المتفجرات وأتقن فنيات اختراق أنظمة الحواسيب وأجهزة الاتصالات
ثم حين اندلعت حرب الخليج 1990، حارب البرغوثي ضد القوات الأمريكية، وكان آنذاك في 18 من عمره، ونتيجة لذلك سجن بالكويت لمدة شهر، ثم ارتحل مع عائلته للعيش في الأردن، وما إن انتهى من دراسته الثانوية، حتى عاشت العائلة ظروفًا معيشية صعبة، فحاول البرغوثي القيام ببعض المشاريع وفتح محلًا لميكانيكا السيارات التي كانت هوايته المفضلة، لكنه تعثر في سداد الـ5000 دولار التي استدانها لفتح هذا المحل.
ومع ضيق الحال، استقر رأيه على السفر إلى كوريا الجنوبية مع أحد أصدقائه بهدف العمل وإكمال تعليمه، ولم يكن يملك أي مال حين وصل كوريا، لذا عمل لفترة في بعض المصانع، واستطاع أن يبني نفسه ماليًا ويسدد ديونه، كما أرسل المال الذي كان يحصل عليه من عمله إلى عائلته في الأردن.
ثم بعد عدة أشهر على وجوده بكوريا الجنوبية، درس الأدب الكوري من أجل إتقان اللغة الكورية، ثم قرر تحقيق حلمه المبكر بدراسة الهندسة، وبالفعل سجل في إحدى كليات الهندسة بهدف التخصص في الإلكتروميكانيك، وتابع أيضًا تدريبه على رياضة الجودو والتايكوندو، ونمى مهارته في صناعة المواد المتفجرة، كما ترك عمله في مصنع البلاستيك وأصبح يتاجر بالسيارات ويصدرها إلى الأردن واليمن، وبفضل إتقانه اللغة الكورية، أصبح أيضًا يعمل مترجمًا لها بإحدى السفارات العربية.
يصف البرغوثي نفسه بأنه في تلك الفترة كان يمتلك عقلين: أحدهما يتقن جمع المال، والآخر خصصه لفلسطين، حيث تعلم في كوريا صنع المتفجرات وأتقن فنيات اختراق أنظمة الحواسيب وأجهزة الاتصالات، ثم بعد فترة من وجوده بكوريا، تزوج من إحدى الفتيات الكوريات رغم عدم حبه لها، لأنه كما يذكر في أحد جواباته لابنته كان في ذلك الوقت بلا قلب.
استطاع وحده أن ينشئ معملًا خاصًا لإنتاج العبوات الناسفة في أحد مخازن بلدته، فقد كان بمفرده خلية متحركة تعمل على جميع الأصعدة
لكن تبدلت أموره بكوريا عندما اندلعت مواجهات بين طلبة جامعة سيول وقوات الشرطة الكورية على خلفية اغتصاب عدد من الجنود الأمريكيين فتاة كورية، فشارك البرغوثي بتلك المظاهرات، واعتقل، عندها تدخل السفير اليمني، وتم الاتفاق على إبعاد البرغوثي، وخرج من كوريا بعد أن مكث فيها خمس سنوات وهو مكبل اليدين والقدمين حتى وصل إلى عمان عام 1998 وبصحبته زوجته الكورية.
وبعد فترة من وجوده في الأردن، واصل عمله بالتجارة، لكن ظلت تحاصره الرغبة في المقاومة وأمله في إنجاب الأطفال، ورفضت زوجته الكورية فكرة زواجه الثاني، فقررا الانفصال، واختارت له أمه عروسًا من عشيرته، سحرته وأحبها من أول نظرة.
وفي أثناء وجوده بالأردن، استطاع البرغوثي الحصول على تصريح للعودة إلى مسقط رأسه، وعلى الفور ما إن وصل إلى فلسطين عام 1999 حتى بدأ رحلته في التجول بربوعها وكان أول ما فعله، أن صلى في الأقصى وأكل كعك القدس، وعادت له ذكرياته ورغبته في مقاومة المحتل، واستقر به المطاف في قريته “بيت ريما” بالقرب من رام الله، وفيها شرع بتأسيس عائلتة التي ستعيش معه أيامه ورزق ببنتين وولد، تالا وصفاء وأسامة.
مهندس على الطريق
يروي البرغوثي في سيرته الذاتية أن موقفًا كان له الأثر الأكبر في مسيرة الجهادية حين كان بفلسطين، ففي الأشهر الأولى من عودته إلى وطنه، كان يسير على الطريق وسمع شابان يسبان الدين، فهم بهما وانهال عليهما بالضربات، ورأى ذلك المشهد شيخ كبير في السن، فأعجب لغيرة البرغوثي الشديدة، وأصر أن يصطحبه إلى بيته ويعزمه على الطعام.
وبعد الانتهاء من تناول الطعام، اصطحبه الشيخ إلى حديقة المنزل، وأعطاه فأسًا وأمره أن يحفر في أحد أجزاء الحديقة، لأن هناك أمانة يريد أن يعطيها إياه، ويحكي البرغوثي أنه ظل يحفر صامتًا حائرًا حتى وجد حقيبة جلدية مغلقة، فسأل الشيخ لمن هذه الحقيبة، فأخبره أنها للمهندس الشهيد يحيى عياش وقد تركها أمانة عنده، ثم أمره الشيخ بأن يأخذ حقيبة عياش ويسير على دربه، وكان بداخل الحقيبة عبوتان ناسفتان مصنوعتان من الحديد الصلب، ومصحف كتب عياش على صفحته الأولى عبارة “كن مع الله ولا تبالي”.
يعتبر البرغوثي أن هذه كانت أهم محطة في حياته، فمن هذا الموقف تحديدًا عقد العزم على أن يبدأ المقاومة ويحمل لواء عياش الذي أعاد له ذكرى وروح المقاومة، وبحسب ما يروي البرغوثي في أحد جواباته لابنته، فقد بدأ الإعداد للعمل العسكري وجمع ما يقدر عليه من المال، واستعان بالكتمان والصمت، وكان قد أقسم ساعتها على عدم الخروج من فلسطين والعمل على تحرير أرضه من الصهاينة ومن فاسدي سلطة أوسلو، وبدأ يحول أمله ونيته إلى واقع ملموس كرس لأجله كل وقته وطاقاته وإمكاناته.
وخلال هذه الفترة، كانت فلسطين هادئة نوعًا ما، كما كانت المفاوضات والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال يسيران بلا انقطاع، لذا كان البرغوثي واقعًا بين مطرقة الاحتلال وسندان عملاء ذلك المحتل.
ومع ذلك، فقد استطاع تهريب المواد الكيماوية اللازمة لصناعة العبوات المتفجرة بمختلف أنواعها وأشكالها عبر نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية، وبصمت تام ودون أن ينتبه أحد، هرب أيضًا كل ما يحتاجه لمقاومة المحتل من أجهزة إلكترونية وأدوات كهربائية، وأدخلها إلى أحد المخازن التي خصصها كبنية تحتية للمقاومة.
عذبت السلطة الفلسطينية العديد من أفراد عائلته وأحبطت العديد من عمليات المقاومة، واستولت على أموال وأسلحة من بينها أموال البرغوثي التي كان يستخدمها لخدمة المقاومة
وظل خلال عدة أشهر يعد للمعركة وحيدًا، ولم يكن أي من المحيطين به يعلم عن مهاراته في تصنيع المتفجرات ولا بما ينوي فعله، فقد فضل العمل من وراء الستار وأحاط نفسه بسرية تامة وكانت على حد تعبيره “سرًا مقدسًا”.
ومن اللافت أنه استطاع وحده أن ينشئ معملًا خاصًا لإنتاج العبوات الناسفة في أحد مخازن بلدته، في الواقع كان بمفرده خلية متحركة تعمل على جميع الأصعدة، ويحكي أن علاقته بحركات المقاومة في ذلك الوقت كانت شبه مقطوعة.
ثم في أحد الأيام، اصطحب ابن عمه بلال البرغوثي، الذي كان ينتمي لحماس إلى منطقة نائية في الضفة الغربية وأظهر له مهاراته في تفجير كمية صغيرة من المواد المتفجرة.
وما إن رأى ابن عمه إمكاناته، حتى قررا أن يتعاونا معًا، وبدآ بتكوين نواة خلايا كتائب القسام في جامعة بيرزيت برام الله، وأيضًا عن طريق ابن عمه بلال، استطاع البرغوثي التواصل مع مسؤولي كتائب القسام بمختلف مدن الضفة الغربية والقدس المحتلة من أجل نقل خبراته لعدد من كوادر القسام، وتدريب المهندسين والفنيين على المادة التي احترفها وأحبها كثيرًا “هندسة المتفجرات”.
وفي تلك الفترة، عمل البرغوثي عن كثب مع صفوة من قادة القسام مثل المهندس أيمن أبو حلاوة وسليم حجة، وشكل فرع الجناح العسكري للقسام بمدينة رام الله، وكان له دور رئيسي في الإعداد لمجموعة عمليات المقاومة في ذلك الوقت، لعل أهمها عملية “مطعم سبارو” في القدس 2001 التي شكلت الشرارة الأولى، وعملية “مقهى مومنت” في القدس، وعملية مستطونة “ريشون ليتسيون” في 2002، وعملية سكة قطار “تل أبيب” في 2002، وعملية “الجامعة العبرية” في 2002، بجانب تفجير أحد محطات الغاز.
حقق البرغوثي الكثير من الإنجازات خلال مشواره الجهادي بين عامي 2000-2003، وخصوصًا خلال فترة مطاردته، إذ قام خلال هذه الفترة القصيرة باختراق شبكات الصهاينة وضلل الاتصالات
وفي الواقع، كبرت مسؤوليات البرغوثي، إذ أُلقيت على عاتقه العديد من المهام، ما بين البحث عن مصادر لشراء السلاح والعتاد، والبحث عن شقق ومخازن تجارية لاستعمالها للسكن وتخزين المواد والذخيرة، بجانب تدريب كل من يمكن تدريبهم من عناصر القسام على تقنيات صناعة العبوات الناسفة، وقد وضع بنفسه برنامجًا تدريبيًا محددًا كان يستمر لمدة عام كامل.
ثم في ظل الملاحقة الأمنية التي تعرضت لها المقاومة من قوات الأمن الفلسطينية التي كانت تجوب المدن والشوارع والمباني السكنية بحثًا عن عناصر المقاومة، شكت السلطة الفلسطينية في البرغوثي في أواخر 2001 رغم كل الاحتياطات التي اتخذها، واعتقلته بالفعل، لكن أطلق سراحه من سجون السلطة بعد أقل من شهر، ولم يعد منذ ذلك الحين إلى البيت، فقد أصبح مطلوبًا لقوات الاحتلال.
ويظهر بشكل واضح سخط البرغوثي على السلطة الفلسطينية وأجهزتها التي كانت تلاحق المقاومين وتسجنهم من أجل منع العمليات الجهادية ضد الاحتلال، وحسب روايته، فقد عذبت السلطة الفلسطينية العديد من أفراد عائلته وأحبطت العديد من عمليات المقاومة، واستولت على أموال وأسلحة من بينها أموال البرغوثي التي كان يستخدمها لخدمة المقاومة، ووقع هو ورفاقه في ضائقة مالية، اضطرته لبيع ذهب زوجته كي يواصل عمله في المقاومة.
وفي الحقيقة، فقد حقق البرغوثي الكثير من الإنجازات خلال مشواره الجهادي بين عامي 2000-2003، وخصوصًا خلال فترة مطاردته، إذ قام خلال هذه الفترة القصيرة باختراق شبكات الصهاينة وضلل الاتصالات، ونفذ 118 عملية في جميع مناطق الاحتلال، وأدت العمليات النوعية التي نسقها وأشرف على تنفيذها إلى مقتل 66 إسرائيليًا، إضافة إلى إصابة 500 آخرين.
الصقر الجارح.. زنزانة القبر
بعد خروج البرغوثي من سجن السلطة الفلسطينية، أصبح مطاردًا لأكثر من عام، واضطر لتغيير هوية عائلته أكثر من مرة ليتمكن من حمايتها، لكن الأسوأ برأيه أن السلطة الفلسطينية قضت على البنية التحتية للمقاومة التي بناها على مدار سنتين، واعتقلت العديد من رفاقه، ومما زاد الطين بلة أن قوات الاحتلال حاصرت قريته لعدة أيام وقتلت العديد من أقاربه واعتقلت المئات من أبناء قريته، فضلًا عن الدمار الذي حل بقريته.
وقد تزامن ذلك مع اشتداد حملات المداهمة والاعتقال، وبالفعل اعتقل العشرات من مهندسي القسام ومن القادة الميدانيين في الضفة والقدس، ويصف البرغوثي نفسه بأنه وأهله في تلك الفترة كانوا “تحت الحصار الشامل”: حصار الاحتلال من جهة، وحصار عملاء الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية من جهة أخرى.
مع ذلك الوضع الصعب، كان البرغوثي ينتقل كثيرًا بين القرى والمدن في محاولة منه للملمة خيوط المقاومة وتنشيط عدد من الخلايا لإدارة المعركة من جديد، وفك أسر رفاقه من سجون السلطة الفلسطينية.
وبعد 35 يومًا من ولادة زوجته، اضطر البرغوثي للبحث عن مسكن جديد يكون أكثر أمانًا، وخلال عمليات البحث عن شقة سكنية، تعرف أحد العملاء على ملامحه، وهو صاحب مكتب عقارات وتأجير شقق، وعرض هذا العميل على جهاز الشاباك صور البرغوثي التي التقطت من إحدى الكاميرات الموجودة داخل مكتب العقارات، وهكذا تم استدراجه.
ففي 3 مارس/آذار 2003، كان على موعد مع الاعتقال، إذ توجه البرغوثي صباحًا إلى أحد مستشفيات رام الله لمعالجة طفلته تالا، لم يكن الطبيب المعالج قد حضر في موعده المحدد، فعزم البرغوثي على الذهاب إلى مكتب العقارات لأن لديه موعدًا مسبقًا معه، واضطر لأخذ ابنته معه، على أمل مشاهدة الشقة والعودة ثانيًا إلى المستشفى.
وما إن وصل إلى موقف سيارات بلدية البيرة ونزل من السيارة، حتى هاجمه كلبان بوليسيان، وأحاطت به مجموعة من قوات الاحتلال، فألقوه أرضًا وكبلوه وعصبوا عينيه وألقوا به في سيارة عسكرية، وتركوا ابنته الصغيرة وحيدة في الشارع وفي صدمة وبكاء بعد اختطاف والدها، وكل ما فكر فيه البرغوثي في ذلك الوقت هو طفلته الصغيرة.
ثم اقتاد جنود الاحتلال البرغوثي إلى معسكر التحقيق، وكان يدرك أن هذه اللحظة قد تأتي له في أي وقت، لذا كان مهيئًا لما قد يحدث معه، وبالفعل تعرض لتعذيب نفسي وجسدي واستجواب طويل وقاس استمر لـ 181 یومًا من العزل والتعذيب في “سجن المسكوبية” بالقدس المحتلة.
وكان يتم تغيير طاقم المحققين بين الحين والآخر، واستعمل الاحتلال كل الأساليب غير الإنسانية من أجل انتزاع المعلومات، فكان رأس البرغوثي يغطى بكيس أسود لفترات طويلة، بالإضافة إلى التعذيب والتهديد.
ثم بعد انتهاء التحقيق، تم اقتياد البرغوثي إلى سجن “أوهلي كيدار” أحد سجون مدينة بئر السبع في أقصى الجنوب الفلسطيني المحتل، وفي نهاية المطاف حكم عليه بالسجن آلاف السنين، كما فجر الاحتلال قلعة أجداده التي كانت عائلته تعيش فيها، وحولوها إلى كومة من الركام بعد أن كانت فيما مضى حجارة وصخور شاهدة على التاريخ، ويقول البرغوثي:
“كم حزنت حزن الغاضبين عندما علمت نبأ تفجير قلعة جدي، فقد وصلني خبر تلك الجريمة الصهيونية وأنا داخل قبو التحقيق، وداخل دوامة التعذيب الذي شاهدت من خلاله الموت، فكلمته وكلمني”. مهندس على الطريق 2: الشهيد الحي، صـ 43.
بدأ البرغوثي مشوار زنازين العزل الانفرادي، وعلى مدار الأعوام الأولى التي أمضاها داخل قبور العزلة، تم نقله أكثر من 20 مرة إلى مختلف هذه القبور، وأضرب عن الطعام عدة مرات من أجل رؤية أبنائه، وتردى وضعه الصحي بشكل كبير، وحاول تقديم التماسات للمؤسسات الحقوقية من أجل رؤية والديه اللذين لم يرهما منذ عام 2000، لكن الاحتلال لم يأخذ أي اعتبارات إنسانية في الحسبان، وحرمه لما يقرب من 20 سنة من رؤية عائلته.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
قام اليوم جدي وجدتي بزيارة والدي الأسير عبد الله البرغوثي في السجن ورؤيته بعد ٢٠ عامًا من الحرمان
الحمدلله الحمدلله pic.twitter.com/Aw1rV7aYDI
— صفاء عبدالله البرغوثي 𓂆 (@Safabarghouthi) September 13, 2022
كما مكث لمدة 10 سنوات في زنازين العزل الانفرادي الخاص التي تملأها كاميرات التلصص والتجسس المزروعة في كل ركن، ويقضي حاجاته وهو مكشوف بالكامل لعیون العدو، بجانب أنه لا يرى ولا يكلم أحدًا، وقد شبه سجنه بالقبر المظلم الضيق الذي تملأ العفونة ورائحة القذارة كل أركانه، وتُحجب الشمس ونسمات الهواء من الدخول.
وبعد أن تنقل البرغوثي من سجن إلى سجن، انصب تركيزه في ظلمة حبسه على الكتابة رغم كل الظروف الصعبة التي يعيشها، وقد اعتبر أن كتاباته في وصف بشاعة الاحتلال وقسوة سلخانات التعذيب والسجن الانفرادي أو القبر كما يسميه، هي وسيلته الوحيدة للمقاومة ضد المحتل، فعلى حد تعبيره “قلمي بندقيتي.. وكلماتي وأحرفي رصاصاتي”.
بدأ والدي المهندس عبدالله البرغوثي المحكوم ب٦٧ مؤبد خوض معركة الأمعاء الخاوية لليوم الرابع على التوالي رداً على عنجهية إدارة السجون، والتي قامت بعزله ومنعنا من الزيارة
بعد حصولنا على تصيرح بعد عدة سنوات من المنع
فلا تنسوا القائد في عتمة زنزانته#عبدالله_البرغوثي pic.twitter.com/BGscZYkbBm
— صفاء عبدالله البرغوثي 𓂆 (@Safabarghouthi) June 12, 2022
وبالفعل خرجت كتاباته من داخل السجون تطوف أرجاء فلسطين بفضل ابتكاره طرقًا لتهريب هذه الأوراق، وهي عدة كتب وروايات، أهمها كتاب حمل عنوان “أمير الظلال: مهندس على الطريق” كتبه على جزئين، وقد روى فيه مراحل طفولته وتعليمه وتكوينه، شخصيته وأفكاره، والأهم حديثه عن تجربته في مقاومة الاحتلال. وكانت دوافعه لكتابة مذكراته هي محاولته الإجابة عن تساؤلات ابنته الكبرى تالا التي شهدت لحظة اعتقاله وأرسلت له جوابًا: تسأله من أنت؟ ولماذا أنت؟