بعد فترة طويلة من التحضيرات، توجت ساعات من الاجتماعات الرسمية بقصر “سيل سان كلو” في ضاحية باريس، أول أمس الثلاثاء، بصدور بيان مشترك هو الأول من نوعه الذي يوقعه الطرفان الرئيسيان للأزمة في ليبيا فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق الوطني، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحضور الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة، بهدف تمهيد الطريق لمصالحة شاملة في ليبيا.
وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات
في ختام لقائهما، تعهد السراج وحفتر على العمل سويًا لإخراج بلادهما من الفوضى ودعوا في بيان وقع بإمضائهما وتضمن عشر نقاط لوقف إطلاق نار لا يشمل مكافحة الإرهاب وإجراء انتخابات بالتعاون مع المؤسسات المعنية، وبدعم وإشراف منظمة الأمم المتحدة.
وأكد نص البيان الذي تلاه ماكرون أن “حل الأزمة الليبية لا يمكن أن يكون إلا حلاً سياسيًا يمر عبر مصالحة وطنية تجمع بين الليبيين كافةً والجهات الفاعلة المؤسساتية والأمنية والعسكرية في الدولة التي تبدي استعدادها المشاركة بهذه المصالحة مشاركة سلمية، وعبر العودة الآمنة للنازحين والمهجرين واعتماد إجراءات العدالة الانتقالية وجبر الضرر والعفو العام”.
قبل أيام أطلق فايز السراج الذي يرأس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من المجتمع الدولي، خارطة طريق من تسع نقاط لإخراج البلاد من الأزمة
وأضاف السراج وحفتر في البيان “اتفقنا على الالتزام بوقف إطلاق النار وتفادي اللجوء إلى القوة المسلحة في جميع المسائل الخارجة عن نطاق مكافحة الإرهاب وفقًا للاتفاق السياسي الليبي والمعاهدات الدولية، وحماية الأراضي الليبية وسيادة البلاد”، وأكد الطرفان أنهما يبذلان قصارى جهدهما لإدماج المقاتلين الراغبين في الجيش النظامي الليبي مع دعوتهما إلى نزع السلاح وتسريح المقاتلين الآخرين وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية، وأكد البيان أن الجيش الليبي سيتألف من القوات المسلحة النظامية التي تضمن الدفاع عن ليبيا.
أكد الطرفان ضرورة الالتزام بالحل السلمي للأزمة الليبية
وقبل أيام أطلق فايز السراج الذي يرأس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من المجتمع الدولي خارطة طريق من تسع نقاط لإخراج البلاد من الأزمة وتحريك الاتفاق السياسي الموقع الذي أدى إلى إنشاء حكومة الوفاق الوطني، وتضم هذه الخطة تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في 2018 تقوم المفوضية العليا للانتخابات وبالتنسيق مع الأمم المتحدة بالإعداد والإشراف عليها ومراقبتها، وتستمر ولاية الرئيس والبرلمان ثلاث سنوات.
وتعيش ليبيا انقسامًا سياسيًا كبيرًا حيث تدار بثلاث حكومات منفصلة، واحدة في الشرق يقودها عبد الله الثني، في حين تدار العاصمة طرابلس بحكومتين هما حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج المدعومة دوليًا، وحكومة الإنقاذ الوطني التي يقودها خليفة الغويل، بعد فشل اتفاق الصخيرات في إحلال السلام في البلاد.
عقبات عدة
رغم أهمية ما تحقق وما تم إعلانه خلال هذا اللقاء، فإن الأهم حسب الخبراء معرفة ما إذا كان سيجد طريقه للتنفيذ أم لا، فالعقبات التي حالت دون تنفيذ الاتفاقات السابقة ما زالت قائمة على حالها بل تدعمت، ومن الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى فشل هذا الاتفاق كالذي سبقه، عدم مشاركة كل الأطراف الليبية المتنازعة في اجتماع باريس واقتصارها على فائز السراج وخليفة حفتر، وإن كانا أبرز طرفين على الساحة الليبية الآن.
يرى مراقبون، صعوبة نجاح مبادرة الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون بالنظر إلى الوضع الليبي الراهن الذي يتسم بالتعقيد
ويمكن للقبائل والعشائر وباقي الأطراف ذات التأثير على المشهد الليبي، أن تعطل الوساطة، التي قادها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي جمع من خلالها بين رئيس وزراء ليبيا فائز السراج والقائد العسكري في شرق البلاد خليفة حفتر، وتطوي صفحاتها قبل أن تُفتَح، ولها أيضًا أن تحوله إلى مجرد ذكرى وفشل ذريع يدخل في سجل الأطراف الموقعة على البيان.
وسبق أن التقى السراج وحفتر في يناير 2016 بعيد تعيين السراج رئيسًا لحكومة الوفاق، ثم التقيا في بداية مايو الماضي بأبوظبي دون أن يسفر ذلك عن نتيجة، ولم ينجح السراج، رئيس المجلس الرئاسي الذي يحظى بدعم المجتمع الدولي، في بسط سلطته على البلاد بالكامل بعد أكثر من عام من انتقال حكومة الوفاق إلى طرابلس.
انتشار السلاح يهدد اتفاق باريس
وتواجه المبادرة الفرنسية المقترحة، صعوبات أخرى حتى تطبق كما حصل مع المبادرات التي سبقتها، فرغم مرور أكثر من سنة ونصف على إبرام مختلف الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي للاتفاق السياسي في مدينة الصخيرات المغربية بمباركة دولية وأممية، فإن هذا الاتفاق ظل حبرًا على ورق ولم يطبق على الأرض، مما زاد من تعقيد الوضع الميداني والسياسي في البلد الذي يعاني من انتشار كبير للسلاح ويشكو الفوضى في معظم أنحائه.
إضافة إلى ذلك، يرى مراقبون، صعوبة نجاح مبادرة الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون بالنظر إلى الوضع الليبي الراهن الذي يتسم بالتعقيد، والفوضى التي تسود البلاد منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي نهاية 2011 وسط تنازع السلطة وتهديدات المليشيات المسلحة وتهريب الأسلحة والبشر، ويضاف إلى كل ذلك ضلوع قوى إقليمية عدة في النزاع ودفعها نحو المزيد من تعقيده.
انتشار الفوضى
رغم مرور ست سنوات على الإطاحة بمعمر القذافي ما زالت ليبيا تعيش في ظل فوضى ودون حكومة مركزية، تتنازعها جماعات مسلحة متصارعة، رغم كل الجهود الدولية المبذولة لتحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية، وشجعت هذه الفوضى نمو ظاهرة الإتجار بالبشر، حتى أصبحت بعض ساحاته “أسواقًا للعبيد”، حيث يباع المهاجرون بشكل علني قبل أن يحتجزوا مقابل فدية، ويواجه المهاجرون الذين يقعون فريسة المهربين سوء تغذية وانتهاكات ويُستخدم أغلبهم كعمالة يومية في البناء والزراعة، ويتقاضى بعضهم أجرًا والبعض الآخر يكره على العمل دون أجر، فيما تتعرض النساء للاغتصاب وتجبر على العمل بالدعارة، وقد يموت بعضهم بسبب الجوع والمرض، وفق المنظمة الدولية.
تستغل العصابات، هذه الفوضى وترسل آلاف المهاجرين بواسطة قوارب مطاطية بدائية انطلاقًا من الشواطئ الليبية إلى القارة الأوروبية
واستغلت شبكات تهريب البشر الفوضى السياسية والأمنية التي تعيش على وقعها ليبيا للتوسيع من نطاق عملها، واحتجاز المهاجرين القادمين في الغالب من نيجيريا والسنغال والغابون في أثناء توجههم إلى الساحل الشرقي لليبيا بحثًا عن قوارب تقلهم إلى أوروبا، وتعتبر مدينة سبها في جنوب ليبيا، أحد المراكز الرئيسة لتهريب المهاجرين في البلاد.
إلى جانب ذلك تستغل العصابات، هذه الفوضى وترسل آلاف المهاجرين بواسطة قوارب مطاطية بدائية انطلاقًا من الشواطئ الليبية إلى القارة الأوروبية، وعَبَر البحر إلى أوروبا ما يقرب من 163 ألفًا من المهاجرين واللاجئين، في رحلة مباشرة من ليبيا عام 2016، وفقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، (تمت إعادة نحو 15 ألفًا منهم بموجب اتفاقات ثنائية مع دول شمال إفريقيا) مقارنة بأكثر من 138 ألف شخص في عام 2015، ويقدر الاتحاد وجود ما بين 300 و350 ألف طالب لجوء ينتظرون في ليبيا حاليًا فرصتهم لركوب البحر إلى أوروبا عند تحسن الطقس.
الدول المتدخلة
من الأسباب الأخرى التي يمكن أن تفشل هذا الاتفاق الأخير، انفراد باريس بالإعداد له وإقصائها دول الجوار الليبي وإيطاليا، بحثًا لها عن نفوذ فقدته في المنطقة، وضمان موطئ قدم واضح وثابت على مستوى الملف الليبي، كما أن باريس تسعى من خلال الملف الليبي إلى العودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك.
وتجد المبادرة الفرنسية صعوبة في القبول من إيطاليا، المستثمر الأول في ليبيا، خاصة أنها ترى في فرنسا المسؤولة الأولى عما وصلت له ليبيا عقب التدخل العسكري ضدها سنة 2011، ودعتها إلى “عدم تكرار الأخطاء التي اُرتُكبت في ليبيا بالماضي”.
وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو ألفانو
وتخشى إيطاليا من تعدد الوساطات لحل الأزمة الليبية وافتكاك دورها هناك، وضمن هذا السياق دعا وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو ألفانو، إلى توحيد جهود الوساطة بشأن ليبيا وتركيزها على الأمم المتحدة، وأضاف الوزير ألفانو في مقابلة مع جريدة “لا ستامبا” أول أمس الثلاثاء، أن هناك الكثير من النوافذ المفتوحة على ليبيا، والكثير من الوسطاء والمبادرات، من الخليج إلى مصر، من الجزائر إلى تونس، من الاتحاد الأوروبي إلى مصالح دول أعضاء فردية، لذا لا بد من توحيد الجهود وتركيزها على مبعوث الأمم المتحدة، غسان سلامة، فإن كان كل واحد سيهتم بشؤونه، فسينتهي بنا الأمر إلى نزع الشرعية عنه.
وترى إيطاليا في ليبيا منطقة نفوذ لها، فجغرافيًا لا تفصل ليبيا عن إيطاليا إلا أمواج المتوسط، وتاريخيًا كانت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في إفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تنقطع الصلات بين البلدين حتى عندما كانت ليبيا في عزلة جراء العقوبات التي فرضت عليها عام 1992، فقد ظلت شركة “إيني” الإيطالية المستثمر الأساسي في الغاز والنفط الليبي، وكانت روما إحدى بوابات عودة ليبيا للمجتمع الدولي التي بدأت تدريجيًا 2003.
تخشى الجزائر أن تستغل فرنسا الأزمة الليبية ووساطتها هذه لمزيد من بسط نفوذها في المنطقة وتشريع تدخل عسكري آخر هناك
إلى جانب ذلك، تبدو الجزائر غير متحمسة للجهود الفرنسية في ليبيا، فلإن لم تقدم السلطات الجزائرية موقفًا رسميًا من هذه الجهود ومن اتفاق باريس بين السراج وحفتر، فإن تقارير إعلامية عدة تحدثت عن امتعاض الجزائر من هذا الدور الفرنسي في جارتها الشرقية، وتخشى الجزائر أن تستغل فرنسا الأزمة الليبية ووساطتها هذه لمزيد من بسط نفوذها في المنطقة وتشريع تدخل عسكري آخر هناك بعد تدخلها الأول سنة 2011، وتدخلها بعد ذلك إلى جانب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حسب ما أكدته عديد من التقارير الميدانية.