ماذا تفعل إذا تعرضت لهجوم من أحد الأشخاص المسلحين وأنت أعزل؟
مر هذا التساؤل كثيرًا في رأسي، خاصة في ظل الفوضى العارمة والأوضاع الأمنية المتردية، التي تعيشها بلادي سورية، وبالأخص مدينتي حلب، التي لم تنفض عن كاهلها غبار الحرب بعد.
الحل يكمن في إتقان فنون الدفاع عن النفس، تلك الأساليب والحركات السريعة التي تمكنك من التخلص من موقف عصيب كهذا، حتى ولو كان خصمك يحمل سلاحًا ويتفوق عليك بدنيًا!
الجودو، الكاراتيه، التايكواندو، الكونغ فو، الكيوكوشن كاي، وغيرها من الرياضات القتالية الفردية وفنون الدفاع عن النفس، كلها أفرادٌ ضمن عائلة واحدة، تعود إلى أصل مشترك وفن قتالي عريق تفرعت عنه جميعها، إنها رياضة الجوجيتسو “Jiu Jitsu”، التي سنتعرفها عن كثب في سياق التقرير التالي:
لوحةٌ فنيةٌ لمقاتل أعزل يتغلب على أحد محاربي الساموراي المسلحين بأسلوب الجوجيتس
في قديم الزمان، ومنذ عشرات القرون الخالية، كان حكماء الهند ونساكها يعيشون في الأماكن النائية المنعزلة، على سفوح الجبال، وفي طيات الكهوف والوديان، وكان معظمهم يتعرض بين الفينة والأخرى لهجمات شرسة من بعض اللصوص وقطاع الطرق، فاتفق أولئك الحكماء فيما بينهم على فن قتالي يكفل لهم الدفاع عن أنفسهم، دون التسبب بأذية مهاجميهم، وذلك عن طريق إعمال العقل في القتال، لجعل سلاح المهاجم أو درعه أو حتى قوته البدنية عبئًا عليه.
تعود الجوجيتسو إلى أصول هندية، وعنها تفرعت جميع رياضات وفنون الدفاع عن النفس
ومع تعاقب القرون، وانتشار أفكار وطرق حكماء الهند في معظم بلدان شرق آسيا، وجد ذلك الفن القتالي طريقه إلى الجزر اليابانية، التي كانت تعيش تحت وطأة تسلط الحكام الإقطاعيين ورجالهم من محاربي الساموراي، الذين أوغلوا في ظلم الشعب، فما كان من شيوخ القوم وحكمائهم إلا أن أحيوا ذلك الفن القتالي القديم، وطفقوا يعلمون أبناءهم وأحفادهم أساليبه ومبادئه بعيدًا عن أعين الحكام، لتنشأ طبقةٌ من الشبان أصحاب الشجاعة والقيم النبيلة، حملت على عاتقها عبء الدفاع عن حقوق الشعب، والتصدي لرجال الساموراي المدججين بالأسلحة، بصدور عارية وأيادٍ خالية من أي سلاح، متبعين الطرق والأساليب القتالية التي ورثوها عن أجدادهم الحكماء، والتي أُطلق عليها اسم: Jiu Jitsu، وتعني “الفن اللطيف” باللغة اليابانية.
الشقيقان كارلوس وهيليو جرايسي بجانب أستاذهما ميتسويو ماييدا
وفي بدايات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1914، هاجر أحد أبطال الجيوجيتسو اليابانيين، ويُدعى ميتسويو ماييدا، إلى البرازيل، واستقر في ولاية بارا الشمالية، وهناك تعرف أحد السياسيين البرازيليين البارزين ويُدعى “جاستاو جرايسي”، وعقد الرجلان صفقةً تقضي بأن يتعهد السياسي البرازيلي بدعم ماييدا وتسهيل إقامته وحصوله على الجنسية البرازيلية، مقابل أن يلقن الرجل الياباني أولاده الثمانية فنون وأسرار الجوجيتسو.
أعاد اليابانيون إحياء فن الجيوجيتسو القتالي، وصدروه إلى البرازيل عبر الأستاذ ميسويو ماييد
وبالفعل، تلقن أولاد جرايسي، وعلى رأسهم الأخ الأكبر كارلوس، مبادئ وأسس الجوجيتسو عن معلمهم الياباني، وأبدوا حماسًا منقطع النظير وأثبتوا كفاءةً عاليةً في تعلم وإتقان هذا الفن القتالي، لدرجةً جعلتهم يتحدون جميع أبطال الرياضات القتالية الأخرى، بل ويطلبون متحدين آخرين عبر إعلانات في الشوارع!
وبعد فترة وجيزة، افتتح الأخوة جرايسي أكاديمية خاصةً لتعليم فنون الجوجيتسو، وذلك في مدينة ريو دي جانيرو عام 1925، لتكون الأولى من نوعها في العالم خارج اليابان، وعمل الأخوة على نشر هذه الرياضة عبر العالم، وفق قواعد وتقنيات تختلف قليلًا عن أصول الجوجيتسو اليابانية التقليدية، بحيث تجعلها أكثر حدةً وتنافسية، لتُعرف تلك الرياضة باسم: “الجوجيتسو البرازيلية”.
بدلة الكيمونو التي يرتديها لاعبو الجوجيتس
وتخضع رياضة الجوجيتسو لقوانين صارمة، فيمنع استعمال قبضة اليد أو المرفق أو الرأس في القتال، كما يُمنع الضرب على المناطق الحساسة والعين والأنف، ويُسمح بحركات معينة تتضمن الدفع والسحب والخنق ولي الذراع والمعصم، والعرقلة بالأرجل والضغط على المفاصل والعظام، بغية تثبيت الخصم وشل حركته وإرغامه على الاستسلام.
ويُلزم لاعبو الجوجيتسو بارتداء بدلة خاصة في أثناء التدريبات والمباريات تُدعى “الكيمونو”، وهو لباسٌ قطنيٌ خفيفٌ يتألف من سروال طويل وقميص بأكمام طويلة، ويُلف عند خصرهم حزامٌ ملونٌ يعبر عن رتبتهم، التي تتراوح بين الحزام الأبيض للمبتدئين، والأسود لكبار المحترفين.
تعتمد الجيوجيتسو على حركات معينة هدفها شل حركة الخصم وإرغامه على الاستسلام
وتجمع نزالات الجوجيتسو التنافسية بين لاعبَين من الفئة الوزنية ذاتها، والتي تتراوح بين “تحت 55″ و”فوق 94” في سبع فئات للرجال، وبين “تحت 48″ و”فوق 70” في خمس فئات للسيدات، حيث تُقام المباريات على بساط مربع الشكل، يتراوح طول ضلعه بين 14 و16 مترًا، يتألف من منطقة لعب داخلية تحدها منطقة الخطر، التي تفصل بين منطقة اللعب والمنطقة الخارجية المحيطة، التي يتحرك فيها الحكمان المساعدان، اللذان يعاونان حكم البساط في مراقبة النزال واتخاذ القرارات.
جانبٌ من حركات الخنق والتثبيت في رياضة الجوجيتسو
وتبلغ مدة مباراة الجوجيتسو عادةً خمس دقائق من جولة واحدة، وتنتهي بإحدى الطريقتين التاليتين:
استسلام أحد طرفي النزال، إثر حركة إرغام أو تثبيت يقوم بها منافسه، أو وفق رؤية الحكام وإجماعهم على الأفضلية المطلقة لأحد الطرفين على حساب الآخر، وعندها يعلن حكم البساط نهاية النزال مباشرةً، دون الانتظار حتى انقضاء وقت المباراة.
اللجوء لمجموع النقاط، وذلك عند فشل أحد الطرفين في إرغام خصمه على الاستسلام، وعندها يحصي الحكام النقاط التي سجلوها لكل من اللاعبين، فيفوز بالنزال من جمع نقاطًا أكثر، وقد يتساوى الخصمان في عدد النقاط عند نهاية زمن المباراة الأصلي، وعندئذ يتم تمديدها لخمس دقائق إضافية لحسم الفائز.
ينتهي نزال الجوجيتسو باستسلام أحد الطرفين أو فوزه بمجموع النقاط
وقد ينهي الحكم النزال في أي وقت، إذا ارتكب أحد اللاعبَين خطأً جسيمًا، أو في حال عدم الالتزام بتعليمات وقوانين اللعبة، وعندئذ يُستبعد اللاعب المخالف، ويُعلن فوز منافسه مهما كانت النقاط.
مشهدٌ يظهر أحد نزالات الجوجيتسو عن قرب
وتدير منافسات الجوجيتسو حول العالم هيئتان منفصلتان، أولاهما الاتحاد الدولي للجوجيتسو “JJIF”، والذي تأسس عام 1977، ويتولى تنظيم منافسات الجوجيتسو ضمن بطولات العالم للألعاب القتالية، التي تُقام كل أربعة أعوام بشكل دوري منذ عام 1981، وثانيتهما المنظمة العالمية للجوجيتسو البرازيلية “IBJJF”، وهي هيئةٌ مهنيةٌ تديرها عائلة جرايسي البرازيلية، تأسست رسميًا عام 2002، ولكنها تتولى فعليًا تنظيم منافسات بطولة العالم للجوجيتسو للرجال منذ عام 1996، وللسيدات منذ عام 1998، وكذلك تتولى تنظيم البطولات القارية للعبة، في كل من أوروبا وآسيا والأمريكيتين.
تحظى الجوجيتسو بشعبية عارمة في معظم دول الأمريكيتين وشرق آسيا، وفي الإمارات العربية المتحدة
ويسيطر البرازيليون على جل ألقاب وبطولات اللعبة منذ انطلاقها، مع منافسة محدودة من أبطال وبطلات الولايات المتحدة واليابان، ورغم أن اللعبة أصبحت تلقى اهتمامًا واسعًا وانتشارًا جيدًا في بعض الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا والسويد والبرتغال، إضافةً لشعبيتها العارمة في معظم دول الأمريكيتين وشرق آسيا، لم تتمكن من دخول منهاج الألعاب الأولمبية، نظرًا لضعف انتشارها في بقية بلدان العالم من جهة، وبسبب تشابهها في كثير من النقاط مع رياضة الجودو، الموجودة ضمن المنهاج الأولمبي منذ عام 1964.
جانبٌ من منافسات بطولة أبوظبي الدولية للجوجيتسو
ورغم ضعف شهرتها مقارنةً بألعاب قتالية أخرى كالكاراتيه والجودو والتايكواندو، فإن الجوجيتسو غدت تحظى بانتشار مقبول في بعض بلداننا العربية، لا سيما في الإمارات العربية المتحدة، التي أبدى أمراؤها ومسؤولوها اهتمامًا منقطع النظير بتلك الرياضة خلال العقدين الأخيرين، إلى درجة جعلتهم يُدخلونها ضمن المناهج الدراسية الخاصة بالفتيان والفتيات، ويشرفون على تنظيم عدد من بطولات اللعبة القارية والدولية، وفي مقدمتها “بطولة أبو ظبي العالمية لمحترفي الجوجيتسو”، التي تُقام في شهر أبريل من كل عام، بحضور نخبة أبطال وبطلات اللعبة على مستوى العالم.