لا يحتاج أي متابع أو مهتم أو منشغل بالشأن المصري أي مجهود كي يقول بضمير مستريح ونفس مطمئنة وعقل مقتنع إن مصر اليوم ليست بخير، مصر اليوم مجهدة، متعبة، مرهقة، غاضبة، حانقة، متذمرة.
مصر اليوم تنتابها لحظات آلم من ماضٍ قريبٍ خدعت فيه، فمن تصريحات الرئيس السيسي من عينة “أنتوا نور عينينا” و”بكره تشوفوا مصر”، حتى وصلنا لقوله “اصبروا عليا ست شهور”، ثم تضاعفت المدة إلى الطلب الصبر سنة ثم زادت المدة لسنتين!
ومصر تنتابها اليوم كذلك لحظات يمتزج فيها الخوف باليأس من مستقبل مظلم مجهول تحتار في توصيفه وتشفق على نفسها وتجزع من استشرافه.
وهناك من فسر تلك الحالة مثل الدكتورة لطيفة الزيات بأن: “العقل المصري ليس في حالة أزمة بل في حالة شلل، والسبب في ذلك أن شعبنا لم ينجح في تثبيت حقه في الحرية والخبز”.
وتضيف: “لا يمكن أن يزدهر فكر في ظل القمع أو الجوع، ثم إن جدب الفكر زاد من عمق التفرقة داخل الشعب الواحد، فالشعب المصري يعيش في عوالم فكرية مختلفة تكاد تنفصل عن بعضها البعض انفصالًا تامًا، بل إننا نجد متناقضات لا حد لها ولا حصر داخل الطبقة الواحدة وهذا يخلق وضعًا شديد الخطورة، لأنه يستحيل معه وجود الانسجام الحضاري المطلوب”، ثم تكمل قائلة: “اليوم الفجوة تزداد اتساعًا بين الكلمة ومعناها، ومن ثم انعدمت القدرة لدى الرأي العام على التمييز بين الصدق والكذب والصواب والخطأ والمصلحة العامة والمصلحة الخاصة”.
إن المناخ السياسي في مصر اليوم مثقل بالعجز حتى الشلل، والظلم الواصل للحسرة، والحيرة والتخبط حتى الشطط من أحداث وقرارات وتصرفات النظام الحاكم اليوم، فالسياسات التي ينتهجها النظام الحاكم اليوم وعلى رأسه الرئيس عبد الفتاح السيسي أصابت المواطنين المصريين بحالة من الإحباط المتزايد، وذلك عائد حتمًا لرؤية الرئيس وانحيازاته الاجتماعية، وذلك بدا جليًا وظهر واضحًا ليس فقط من مردود سياسته الاقتصادية على الفقراء بل ومن خلال تصريحاته مثل قوله: “محدش يقولي هنجيب منين؟! أنا كمان أجيب منين؟”.
وهو هنا يتناسى أنه رئيس دولة، والدولة لها دور اجتماعي يجب أن تؤديه تجاه الفقراء والمحتاجين، وليس رئيس شركة خاصة أو حتى تابعة لقطاع الأعمال مطروح أسهمها في البورصة هدفها الربح المادي!
وقد يقول قائل وللقول منطق بأن الوضع الاقتصادي المصري الذى تسلمه السيسي كان وضعًا صعبًا سيئًا ولم يكن هناك مفرًا من بعض التضحيات واتخاذ قرارات صعبة مؤلمة!
ولعل الشيء بالشيء يذكر، فمصر حتى في أصعب لحظاتها وقت أن كانت تحارب بيد وتبني باليد الأخرى في نفس الوقت لم ترفع الدعم عن الفقراء ولم تتجاهل المعدمين، ولعلي أسوق موقفًا للزعيم جمال عبد الناصر لندرك الفارق الكبير في الانحيازات الاجتماعية لكلا الرجلين البكباشي الزعيم جمال عبد الناصر والجنرال الرئيس عبد الفتاح السيسي!
ففي اجتماع مجلس الوزراء سنة 1969(أي في أوج حرب الاستنزاف) قال الزعيم جمال عبد الناصر وقد لاحظ أن أحد الوزراء يحاول أن يتفلسف فقال له ولبقية زملائه: “دعوكم من الشعارات كلها حتى لا تتوهوا في تلافيفها وحتى لا تمتلئ آذانكم منها بالطنين، فتنسوا ما يجب أن يحدث بعدها، خذوا الرجل العادي البسيط، هو النواة في المجتمع، وهو الوحدة الأولى”، واستدرك: “ارموا كل الشعارات من الشباك، وافتحوا الباب للإنسان، للرجل العادي. كيف يفكر هذا الرجل وماذا يريد؟
الفكرة الأولى: عندما يستيقظ في الصباح، فأول ما يفكر به ماذا سيأكل اليوم هو وأولاده؟ الفكرة الثانية: بعد ذلك، هي كيف سيصل إلى عمله، وكيف يصل أولاده إلى مدارسهم؟ الفكرة الثالثة: كيف يكون مظهرهم، هو في عمله، وهم في مدارسهم، وهل عليهم من الملابس ما هو كافٍ ولائق من ناحية المنفعة العملية ومن ناحية الكرامة الإنسانية؟ الفكرة الرابعة: ماذا لو مرض أحدهم، هل الدواء متاح أم عزير؟ الفكرة الخامسة: بعد العودة إلى البيت، هل هناك شاغل مهما كان بسيطًا، يجمع الأسرة معًا على متعة من أي نوع ترفيهي أو ثقافي؟ مثل ذلك هو إحساس الآدمي بآدميته، هذه هي احتياجات الرجل العادي، تذكروها، وانسوا كل ما ترددون من شعارات”.
ثم استطرد قائلًا: “قبل أيام سألت وسأل بعضكم، هل يعقل أن ندفع عشرات الملايين من الجنيهات في استيراد كل هذه الكميات من الشاي وراجعت نفسي بسرعة وقلت: من الذين يشربون الشاي؟ الذي يشرب الشاي ويجد فيه متعته هو الرجل العادي البسيط، هل يعقل أن نحرمه من ذلك؟ إن حياته مليئة بالحرمان، فهل نأتيإلى كوب الشاي التي يخلو معها إلى نفسه، ويضع ساقًا على ساق وهو يشربها ثم نجعلها صعبة عليه؟ لقد شطبت هذا الموضوع من ذهني وأطلب منكم أن تشطبوه أنتم الآخرون”.
وفى العلوم السياسية والاجتماعية معروف أن أي حاكم يحكم يجب أن يجيب عن سؤالين استراتيجيين يوضحان منهجه ورؤيته وطريقه الذي سيسير فيه وهما: باسم من يتكلم هذا الحاكم؟ ولمصلحة من يحكم هذا الحاكم؟
ولا يستطيع أكبر مؤيدي الجنرال السيسي أن يتجاسر ويقول إن السيسي يحكم لصالح الفقراء والمعدمين، بل إن كل نظراته واتجاهاته وقراراته تصب في صالح الأغنياء المتخمين بثرواتهم ورغابتهم ضد الفقراء المنسحقين تحت فقرهم وعوذهم، وذلك تحت حجة أننا نسير في طريق اقتصاد السوق من أجل أن تقف مصر على قدميها وتنهض من كبوتها!
ولعل من المفارقات التي تثير التعجب وتبعث على السخرية وتحض على الرثاء حتى البكاء أن يقال ذلك في الوقت الذى رفض الرئيس الأمريكي ترامب زعيم العالم الرأسمالي رفع الدعم عن الفلاح الأمريكي حتى لا تضار الزراعة الأمريكية في مواجهة نظيرتها الأوروبية!
يسيطر 10% من المصريين على 73% تقريبًا من ثروة البلاد، و1% من الأغنياء يسيطرون على 48.5% تقريبًا من هذه الثروة
وكما قلت سابقًا إن الشيء بالشيء يذكر، فقد حدث بعد معركة السويس 1956 أن سال لعاب طبقة الأغنياء الإقطاعيين على الأملاك المؤممة وطلب بعضهم مثل المليونير أحمد عبود أن يشتري بعض تلك الممتلكات.
ورفض طلبه البكباشي الزعيم عبد الناصر وقال له: “إذا اشترى عبود ما يريده، فإن آخرين غيره سوف يتقدمون لشراء شركات أخرى، والمستعدون لشراء هذه الشركات سوف يكونوا مثل عبود من الأغنياء، وإذًا معنى ذلك أن كل ما تم من إجراءات سوف يؤدي إلى جعل الأغنياء المصريين أكثر غنى، وبالتالي ستجعل الفقراء أشد فقرًا، وليس هذا المقصود من استرداد المصالح الأجنبية المنهوبة، وإلا كنا نعمل لصالح فئة بعينها”.
فيديو لجمال عبد الناصر يتحدث عن الفقر والفقراء:
إن تلك الرؤية وتلك الانحيازات الاجتماعية من السيسي ضد الفقراء لها أسباب منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، ومن المعروف أن أي شخص يقبل على العمل العام ويدخل ميدانه، يصل إلى هناك ومعه حمولاته الثقافية كاملة، وفيها الموروث بخصائص الطبيعة، والمؤثر بالبيئة والتربية والقيم الموجهة، وفيها المكتسب بالعلم والمعرفة والتذوق، وأخيرًا فوق كل ذلك المتراكم بالتجربة مع الحياة والناس والظروف.
ولعل ذلك الموقف والانحياز يمكن رده للأسباب الآتية:
– الرجل من أسرة غنية وبالتالي لم ير قسوة الفقر ولم يعش حياة العوز (التي يتحدث عنها كثيرًا في خطاباته وأحاديثه) أو يشعر بمشاعر الاحتياج والشظف المادي.
– الرجل دخل إلى القوات المسلحة في وقت اقتحمت فيه المؤسسة العسكرية مجال الاستثمار في الأنشطة المدنية (لأسباب عديدة ليس هذا وقت شرحها) ومن ثم تشبع السيسي بمبادئ الرأسمالية وأفكارها عن الربح والخسارة بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.
– بعثته الدراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية من المؤكد أنها تركت بداخله ومن ثم رشحت إلى عقله الكثير من مبادئ اقتصاد السوق مثل أن آليات السوق تصحح نفسها بنفسها من دون تدخل ومعالجة أخطاء النظام الرأسمالي لا تكون إلا بمنح المزيد من الحرية للرأسمالية ودعه يعمل دعه يمر، وفي النهاية فإن النظام الرأسمالي لا ينظر إلى أي غاية إلا غاية الربح حتى ولو على أجساد الفقراء.
إن السياسة المصرية منذ عام 1974 انتهجت المذهب الرأسمالي مع المحافظة على الشكل الاشتراكي بالحديث عن مراعاة الفقراء ومحدودي الدخل، وبما أن السيسي أصبح الحاكم الآن فعليه الالتزام بالشروط والمعايير الموضوعة سلفًا من قبل البيت البيض الأمريكي، والمنطق الموضوع أمريكيًا هو ترسيخ قيمة واحدة وهي قيمة المال والثراء وليس قيمة العلم كمصدر وحيد للاعتبار الاجتماعي، ولكن السيسي قرر حتى إلغاء الشكل الذي يستر به الحقيقة الفجة الموجعة.
مصر تحتل الآن المركز الثامن بين أسوأ 15 دولة في العالم في توزيع الثروة
وهكذا بدت المفارقة فوق السطح صارخة، فأقوال الرئيس الغريبة أحيانًا والطريفة أحيانًا والمستفزة أحيانًا والعجيبة معظم الأحيان تتناقض تمامًا مع الوقائع على أرض الواقع، وكان التناقض أساسًا بين الشعارات الطنانة المعلنة من أعلى والواقع البائس القلق المتفجر من أسفل، فمثلًا في حين أن كلام الرئيس عن العمل والإنجازات التي لم تتحقق منذ عهود كانت الوقائع على الأرض الصلبة صادمة وصارخة في الدلالة على عكس الأقوال وحتى نتبين الصورة الآن فالأرقام الرسمية تقول:
– بحساب حد الفقر (وهو 1.9 دولار للفرد في اليوم وهو أقل ما يكفي الفرد لسد احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، وأقل منه لا يستطيع المواطن سد حاجاتهم الأساسية)، فنسبة الفقر كانت 25.2% في 2011 وزادت إلى 27.8% في 2015، واشتعلت إلى 35% في 2017، والكارثة الكبرى هي توزيع هذا الرقم، فهناك 56.7% من سكان ريف الوجه القبلي (أكثر من النص) لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية مقابل 19.7% بريف الوجه البحري.
– بحسب حد الفقر المدقع (وهو 1 دولار في اليوم وهو ما يكفي الفرد لسد جوعه وأقل منه من لا يستطيعون سد جوعهم)، النسبة كانت 2.3% وزادت إلى 5.3% في 2011، واشتعلت إلى 7.8% في 2017.
– تدنت أوضاع المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا وتعليميًا في آخر 7 سنوات.
– ارتفعت نسبة البطالة إلى 12%، خلال الربع الأول من العام الحالي.
وبالإضافة إلى ذلك فمصر تحتل الآن المركز الثامن بين أسوأ 15 دولة في العالم في توزيع الثروة، كما كشف تقرير أصدره بنك كريدي سويس.
حيث يسيطر 10% من المصريين على 73% تقريبًا من ثروة البلاد، و1% من الأغنياء يسيطرون على 48.5% تقريبًا من هذه الثروة، ويحصل 5% من الموظفين على 40% من إجمالي الأجور و95% منهم يحصلون على الـ60% الباقية!
إن قوانين الحركة الاجتماعية تقول: إن الصراع الطبقي قانون من قوانين الحركة الاجتماعية لا يمكن إبطال مفعوله ولا تجميد تفاعلاته وللفقراء حقوق لا يستطيع الأغنياء حبسها، ثم إن مخاطر الصراع الطبقي تزداد بمقدار ما تتزايد وتتسع الفوارق بين الطبقات.
وفى حالة مصر وبالنظر إلى الأرقام السابقة، فإن الفجوة أصبحت شاسعة ومن ثم فإن الخطر أصبح داهمًا.
ووسط ذلك المناخ الحافل بكل أسباب الاستفزاز الاجتماعي والسياسي والمثقل بالتناقضات وأسباب الشك والحيرة والقلق وتضارب في القيم الاجتماعية والثقافية وتخبط في السياسات الاقتصادية والاجتماعية أصبح الجميع غاضبًا، وموجات الغضب تعلو وتعلو حتى تكاد تغطي على نواحي الحياة كافة في مصر، فالشارع غاضب، وكذلك البيت، والمسجد غاضب، وكذلك الكنيسة، الرجال والنساء، الشباب والشيوخ حتى الأطفال أصبحوا غاضبين!
وأرجو ألا يجد الجنرال الرئيس وزمرته من حملة المباخر من كل صنف ونوع على شاكلة سياسيين وإعلاميين وشيوخ وقساوسة ولجان إلكترونية، أنفسهم يرددون ما قاله رئيس الوزراء الأسبق إسماعيل صدقي باشا والذى لقب برئيس وزراء الحديد والنار في العهد الملكي حين وقف في مجلس الشيوخ عام 1946 قائلًا: “إننا حكومة بيضاء لشعب أحمر”، يقصد أن الحكام من النبلاء والمحكومين من الشيوعيين!
وأخيرًا، فإن اختلاط ما هو سياسي مع كل ما هو اقتصادي مع كل ما هو اجتماعي مع كل ما هو ثقافي أدى في النهاية إلى حالة ضياع مثيرة للشجن، كما أن حالة الضياع تكاد أن تتحول إلى حالة فوران ثم تتحول إلى حالة غليان، ثم تنقلب في النهاية إلى حالة انفجار وذلك خطير، وأرجو ألا نصل لتلك اللحظة وذلك المشهد الذي حدثنا عنه شكسبير في رائعته “يوليوس قيصر” حينما قال: “يا شعب روما، إذا كانت لدى أي منكم بقية من دموع، فليذرفها الآن”.