أطلقوا عليه لقب “البترولي الفقير” و”الوفي الأمين”، أحد مؤسسي منظمة أوبك في العام 1961 مع وزير البترول الفنزويلي بيريز ألفونسو وأول وزير بترول في السعودية، كما أنه صاحب مقولة “نفط العرب للعرب”، إنه عبد الله بن حمود الطريقي المتوفى في العام 1997، أحد أعلام العالم العربي والذي يمثل ظاهرة متميزة وفريدة تستحق النظر والدراسة.
حياة مثيرة
يعد عبد الله الطريقي من طلائع خبراء النفط العربي ومن أوائل من تخصصوا في مجال النفط وحصلوا على شهادة عالية في هذا المجال من جامعة أمريكية عريقة، عاش الطريقي المولود في العام 1918 في محافظة الزلفي بالسعودية حياة مثيرة مليئة بالتصريحات التي دأب على إطلاقها في مؤتمرات النفط العربي، ثم في تخطيطه لإنشاء كيان يجمع الدول المنتجة للنفط لمواجهة احتكارات الشركات العاملة في حقول النفط.
عارض الطريقي مسألة إحراق الغاز الطبيعي، وبقي يكافح مع الشركات ليتم استثمار هذه الثروة
ولد الطريقي في إحدى أكبر دول العالم إنتاجًا وتصديرًا للنفط، وصاحبة أكبر احتياطي مؤكد للنفط في المعمورة، درس في الابتدائية والثانوية وتخرج من كلية العلوم جامعة القاهرة، وبعد تخرجه من الجامعة في العام 1944 وعودته للسعودية عمل سنتين في وزارة المالية ومن ثم ابتعث للدراسة في الولايات المتحدة في تخصص النفط في مدينة أوستن بولاية تكساس، وهو أول طالب سعودي يلتحق بجامعة أتاوا، حيث أمضى 18 شهرًا في دراسة الماجستير وقدم رسالته في “جيولوجيا المملكة العربية السعودية” ثم عاد إلى بلاده في العام 1948.
حتى عودته كانت السعودية تمر بمرحلة مهمة في ثروتها النفطية، حيث وقع الملك عبد العزيز آل سعود آنذاك في العام 1933 اتفاقية الامتياز للتنقيب عن البترول بين الحكومة السعودية وشركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”، التي عملت على اكتشاف وحفر أول حقل نفطي في الظهران في العام 1935 والعام 1938، بدأت بئر الدمام بإنتاج 1585 برميلاً في اليوم.
عامًا بعد آخر كانت تتطور تلك الصناعة فبحلول العام 1944 تغير اسم الشركة الحاصلة على امتياز التنقيب والحفر الأمريكية إلى شركة الزيت العربية الأمريكية والتي تعرف باسم “أرامكو”، وهو نفس العام الذي عاد فيه الطريقي من مصر إلى السعودية.
تمكن الطريقي في العام 1960 من صياغة ما عُرف باتفافية “السادة” بعد مشاورات سرية مع وزير النفط الفنزويلي، وتعتبر هذه الاتفاقية حجر الأساس في تغير القوى المحركة للنفط
عمل في وزارة المالية كموظف مسؤول عن مكتب مراقبة حسابات الحكومة على الدخل النفطي من شركة أرامكو في الظهران، ومن ثم أصبح مديرًا عامًا لشؤون الزيت والمعادن، وبهذا العمل بدأ الطريقي رحلته في مجال الصناعة النفطية، حيث حاول جاهدًا أن تشارك الحكومة في كل مرحلة من مراحل إنتاج البترول وتسويقه، لا أن تتولى الشركات الأجنبية كل شيء وتبقي الحكومة خارجًا، وكان شعاره “من البئر إلى السيارة”.
وبعد عمل الطريقي في النفط بدأت تتكشف له بعض الأمور عن “أرامكو”، حيث كانت الشركة وقت ذاك تضخ البترول من الحقول السهلة والرخيصة دون أن يكون لها سياسة طويلة الأمد لموازنة استنفاد الحقول، وعملت على إحراق الغاز الطبيعي الذي يصاحب عادةً عمليات استخراج البترول مسببّة إهداره في الوقت، وقد رأى الطريقي أن هذا الغاز ثروة طبيعية ثمينة من الواجب استثمارها.
عارض الطريقي مسألة إحراق الغاز الطبيعي، وبقي يكافح مع الشركات ليتم استثمار هذه الثروة وخرج من مناصبه وبقي حلمًا يراوده، بالإضافة إلى إعادة تملك الحكومة لأرامكو، وبعد مرور السنوات وبفضل منهجه الوطني وسياساته التي بقيت بعد رحيله ماثلة أمام المسؤولين، عادت ملكية أرامكو بكاملها للحكومة السعودية، وجميع ما ينتج من الغاز يعالج ويستغل إما كلقيم أو كوقود، وازدهرت صناعة البتروكيماويات وزاد توليد الكهرباء.
وخلال فترة ترؤسه لشركة “أرامكو” تمكن من استرداد نصف ميزانية الدولة وعمل على إلغاء الامتيازات وزيادة حصة الدولة فيها، وأرسى قواعد المحاصصة وإشراك الجانب الوطني في العمل البترولي الذي كان سببًا في إثراء الدولة.
يُشار أن الطريقي كان متعلقًا بمصر ولبنان كثيرًا، فبعدما ترك وزارة البترول عاش في بيروت وتزوج من مها جنبلاط وتنقل في عدة بلدان هي الكويت ولبنان والسعودية وتوفي في مصر ووري الثرى هناك في العام 1997.
أول وزير بترول في السعودية
إحدى أبرز إنجازات الطريقي هي مشاركته الفاعلة والتأسيسية لمؤسسة مصدري النفط “أوبك”، ففي عام 1951 حضر الطريقي مؤتمرًا نظمته فنزويلا ودعت إليه رجال البترول العرب والإيرانيين، فبحث الطريقي مع عدد من المسؤولين موضوع توحيد وتنسيق مواقف الدول المنتجة، لكن فنزويلا لم يكن لديها الحماسة لذلك، وبعدها انعقد المؤتمر العربي الأول للنفط في القاهرة عام 1959 ودعيت فنزويلا برئاسة وزير النفط “بابلو ألفونسو” وكان سمة الاجتماع أن الجميع غاضب من القيود على النفط والحصص الأمريكية الجديدة، المطبقة من قبل شركات النفط.
تأسيس أوبك سمح للحكومات بالتحكم بالإنتاج والأسعار بين الدول المنضوية ضد الشركات النفطية الكبرى، إضافة إلى التعاون في مجال استخراج النفط وتأمين وصوله إلى الأسواق العالمية بشروط عادلة
في ديسمبر/كانون الأول من 1960 تم تعيين الطريقي وزيرًا للبترول والثروة المعدينة كأول وزير يتولى حقيبة وزارة البترول في السعودية، وبدأت مسيرة الطريقي في الوزارة بالدفاع عن أوضاع الدول المنتجة من شركات النفط الأجنبية التي كانت تستغل جهل الدول النامية وقلة حيلتها وخبرتها.
ولعل أكثر من يعرف الطريقي وحقده على شركات النفط الكبرى هي تلك الشركات نفسها، إذ سخّر جهده بعد توليه الوزارة لتجميع الدول المنتجة تحت قبة واحدة وتوحيد قراراها للوقوف ضد هيمنة الشركات النفطية، حيث تمكن في العام 1960 من صياغة ما عُرف باتفافية “السادة” بعد مشاورات سرية مع وزير النفط الفنزويلي، وتعتبر هذه الاتفاقية حجر الأساس في تغير القوى المحركة للنفط، وبعد مؤتمر القاهرة أصدرت الدول المصدرة قرارًا يدعو الشركات المنتجة للنفط الى عدم تغيير أسعار مبيعاتها دون التشاور مع الحكومات المعنية.
تقدر قيمة شركة أرامكو السعوديةبترليوني دولار
إلا أن الشركات لم تأخذ الأمر جديًا واستخفت بقرارات المؤتمر فأقدمت عام 1960 على خفض أسعار بترول الخليج العربي، ونتيجة لهذا الخفض بعث الطريقي برقية إلى زميله الفنزويلي الذي رد بأن فنزويلا تؤيد موقف المنتجين في الشرق الأوسط ولن توافق على خفض أسعار صادراتها، كما تلقى برقية من الشيخ جابر الأحمد وزير المالية الكويتي تطالب بتوحيد مواقف الحكومات المنتجة، فعقد مؤتمرًا في بغداد في أيلول/سبتمبر عام 1960 حضرته كل من السعودية والكويت وإيران وفنزويلا والعراق، وهي الدول الخمسة المؤسسة للمنظمة وحضرت قطر وقتها كمراقب فقط.
تمكن الطريقي من استرداد نصف ميزانية الدول وعمل على إلغاء الامتيازات وزيادة حصة الدولة في شركة أرامكو
وتمت الموافقة على إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط المعروفة باسم “أوبك” التي سمحت للحكومات بالتحكم بالإنتاج والأسعار بين الدول المنضوية تحت سقف المنظمة إضافة إلى التعاون في مجال استخراج النفط وتأمين وصوله إلى الأسواق العالمية بشروط عادلة، وأصبحت أهم منظمة أنشئت من قبل الدول النامية لرعاية مصالحها والوقوف كتكتل لكسر تحكم شركات النفط الكبرى بإنتاج وأسعار النفط، وفيما بعد انضمت دول أخرى إلى المنظمة وصل عددها إلى 12 دولة، وتحتضن فيينا المقر الرسمي للمنظمة.
وإلى الآن تعد المنظمة أحد أكبر محركات سوق النفط من حيث الإنتاج والأسعار، ولاعبًا رئيسيًا لا يستهان به من قبل الشركات والدول الكبرى في العالم، إذ توفر دول أوبك 40% من النفط العالمي ولديها احتياطيات أكيدة تمثل 80% من نفط العالم.
في ديسمبر/كانون الأول من 1960 تم تعيين الطريقي وزيرًا للبترول والثروة المعدينة كأول وزير يتولى حقيبة وزارة البترول في السعودية.
بعد إقالته من وزارة النفط في عهد الملك فيصل، نفي لخارج السعودية فتوجه إلى لبنان واستقر به، حيث يُذكر أن مكوثه في السعودية كان مثار إزعاج للأسرة الحاكمة بسبب آرائه المعارضة وكلامه عن الفساد المنتشر في بعض المؤسسات، وصوته العالي المسموع والمؤثر حيث كان مكتبه في الرياض يعج بالصحفيين دائمًا، وذكرت مصادر غير رسمية أنه من الأشخاص الذين كانوا يطالبون بالديمقراطية ويطالب ببرلمان منتخب وإطلاق الحريات العامة وهو ما أزعج أفراد الأسرة الحاكمة.
افتتح في لبنان مكتبًا لتقديم الاستشارات والخبرة لوزارة النفط العربية وشركات النفط الوطنية، وأصبح مستشارًا لعدد من شركات النفط العربية وبعض الحكومات مثل لبنان وسوريا والأردن والعراق والكويت وأبوظبي واليمن ومصر وليبيا والجزائر، ومن إنجازاته المهمة خلال فترة وجوده في الكويت المشاركة في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، حيث كان عضوًا مؤسسًا في مجلس أمنائه حتى وفاته.
بعد 19 عامًا على رحيله
مرت السعودية بعد وفاته بمراحل مهمة ومفصلية كانت بأمس الحاجة إلى تطبيق نهجه الوطني ونقده البناء الذي دائمًا ما كان يثيره في مقابلاته ومقالاته، واجهت السعودية أزمات انكمش بسببها الاقتصاد وفقد الكثير من قيمته.
بعد 19 عامًا على وفاته، أقرت الحكومة السعودية خطة لبيع 5% من شركة أرامكو في الأسواق العالمية، تعرضت البلاد لأزمة خانقة بعد هبوط أسعار النفط وعدم وجود سياسات للحؤول دون تضرر الموازنة العامة في حال هبوط أسعار الطاقة، وقد أدت تلك الأزمة لإيقاف الكثير من الاستثمارات والمشاريع الحكومية وتسببت بإفلاس كبرى شركات التطوير العقاري في البلاد “سعودي أوجيه” واتباع الحكومة سياسات مالية قائمة على خصخصة قطاعات عامة كالمطارات والتعليم والصحة وأمور كثيرة أخرى.
ولي العهد محمد بن سلمان أطلق رؤية 2030 للتخلص من إدمان المملكة على النفط وإيراداته
وتعرضت البلاد لخسائر كبيرة نتيجة استثمارات كبيرة في أسواق المال بعد الأزمة المالية العالمية، إذ اعتمدت البنوك المفلسة الأمريكية إبان أزمة الرهن العقاري 2008 على صناديق الثروة السيادية الخليجية، حيث تمتلك السعودية أحد أكبر تلك الصناديق على مستوى العالم.
بدأت مسيرة الطريقي في وزارة النفط بالدفاع عن أوضاع الدول المنتجة من شركات النفط الأجنبية التي كانت تستغل جهل الدول النامية وقلة حيلتها وخبرتها.
كما بقيت البلاد تعتمد على العمالة الأجنبية والخبراء الأجانب بشكل كبير أدى لطغيان العمالة الأجنبية على العمالة الوطنية على الرغم من توفرها، وعلى الرغم من مئات المليارات من احتياطي النقد الأجنبي وصناديق الثروة التي عملت الحكومة على تجميعها من فوائض الميزانية بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية، واجهت الحكومة مشاكل بنيوية بحيث لم تؤد تلك الأموال أي دور في حل تلك المشاكل.
لطالما حذر الطريقي من اعتماد الحكومات النفطية على الثروة النفطية بشكل مفرط، وأكد على الإنتاج والاهتمام بالإنسان لأنه الاستثمار الأضمن لغد أفضل، بعد 19 عامًا أدركت الحكومة أن عليها التخلض من إدمان النفط وترك الاعتماد على إيرادات النفط التي ثبت للحكومة أن الاعتماد عليها في نهضة الاقتصاد والتقدم أمر لا طائل منه وأن التوجه نحو الاستثمار والإنتاج في المجالات كافة هو السبيل الوحيد نحو التنمية الشاملة.