تبدأ محكمة العدل الدولية في 11 و12 يناير/كانون الثاني الحاليّ فعاليات مناقشة الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا ضد دولة الاحتلال بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي أودت بحياة أكثر من 22 ألف شهيد (أغلبهم من النساء والأطفال) ونزوح ما يزيد على مليون ونصف فلسطيني.
أودعت بريتوريا في دعواها مذكرة تقع في 84 صفحة تستعرض، بالأدلة والوثائق، أبرز الجرائم والممارسات والانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد سكان غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى اليوم، على مرأى ومسمع من العالم الذي لم يحرك ساكنًا.
يأتي هذا التحرك استنادًا إلى أن كلًا من جنوب إفريقيا ودولة الاحتلال طرفا في اتفاقية الإبادة الجماعية التي وقّعت عليها “إسرائيل” في 17 أغسطس/آب 1949 وأودعت صك التصديق عليها في 9 مارس/آذار 1950، فيما وقعت عليها الدولة الإفريقية 10 ديسمبر/كانون الأول 1998.
ومنذ إعلان بريتوريا عن تقديم دعوى ضد “إسرائيل” في المحكمة الدولية نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي التزمت الدول العربية والإسلامية الصمت حيال هذه الخطوة المهمة سياسيًا وأخلاقيًا، مكتفية بدور المتفرج، فيما لم يصدر أي رد فعل داعم لهذا التحرك إلا من الأردن مؤخرًا على لسان وزير خارجيته.. فلماذا هذا الصمت؟ وما مقاربات العرب في تجنب ملاحقة الكيان المحتل دوليًا؟
إلام استندت جنوب إفريقيا في دعواها؟
استندت الدولة الإفريقية في دعواها إلى سلوك دولة الاحتلال بصفة عامة تجاه الشعب الفلسطيني خلال فترة الفصل العنصري الذي دام 75 سنة، مرورًا باحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية لقرابة 56 سنة، وصولًا إلى حصارها المشدد لقطاع غزة منذ 16 سنة.
ترى بريتوريا أن الانتهاكات التي ارتكبتها دولة الاحتلال طيلة تلك السنوات والمتمثلة في جرائم الفصل العنصري والطرد والتطهير العرقي والاستيطان وحرمان الشعب من تقرير المصير، وما لها أذى عقلي وجسدي خطير على الفلسطينيين، وإخضاعهم عمدًا لظروف معيشية تهدف إلى تصفيتهم جسديًا، كلها لها طابع الإبادة الجماعية ومن ثم تخرق بشكل كبير اتفاقية جنيف الرابعة.
وأثبتت الدعوى المقدمة أن القصف الذي تعرض له قطاع غزة منذ ثلاثة أشهر وأدى إلى انهيار 335 ألف منزل فلسطيني وتجريف مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وتدمير المدارس والمستشفيات ودور العبادة والمواقع الأثرية والترفيهية، ونزوح 85% من سكان القطاع، علاوة على إصابة أكثر من 55 ألف، يستدعي التحرك العاجل لوقف تلك الإبادة في أسرع وقت.
خلصت الدعوى بتقديم حزمة مطالب يجب على دولة الاحتلال الالتزام بها أبرزها تعليق العمليات العسكرية في غزة فورًا، وضمان عدم اتخاذ أي وحدات عسكرية تابعة للاحتلال أي خطوات تتعلق بمواصلة العمليات العسكرية المشار إليها، كذلك على تل أبيب الكف عن ارتكاب أي وكل الأعمال التي تقع ضمن نطاق المادة الثانية من الاتفاقية، وأهمها: القتل، التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير لأي من سكان القطاع، التعمد بفرض ظروف حياة على الفلسطينيين تهدف إلى إحداث دمارها الجسدي جزئيًا أو كليًا.
هل يتفق العرب مع ما جاء في الدعوى؟
لم تتضمن الدعوى الجنوب إفريقية أمام محكمة العدل الدولية أي شذوذ عن المتعارف عليه عربيًا وإسلاميًا، فما تمارسه قوات الاحتلال بحق قطاع غزة لا يختلف عليه أحد كونه حرب إبادة تستهدف سكان القطاع بأكمله، إما قتلًا أو تهجيرًا أو نزوحًا داخليًا، لفرض معادلة جديدة وتموضع مغاير يخدم الأجندة الإسرائيلية.
جاءت كل الخطابات السياسية والإعلامية الرسمية الصادرة عن معظم البلدان العربية والإسلامية لتؤكد على هذا الموقف، وتحذر من تلك الحرب الإجرامية التي تشنها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني بأكمله والغزي على وجه الخصوص، بل إن بعض الخطابات جاءت أكثر وضوحًا حين اتهمت نتنياهو بأنه مجرم حرب كما جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
الخميس القادم سيكون يوما مشهودا،حيث تمثل إسرائيل الدولة المارقة لأول مرة في تاريخها أمام محكمة العدل الدولية فى لاهاي في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضدها متهمة اياها بالإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب ضد شعب فلسطين،حيث قدمت جنوب افريقيا قضية محكمة عميقة موثقة في أكثر من 80… pic.twitter.com/ikh1prmRR6
— A Mansour أحمد منصور (@amansouraja) January 6, 2024
يرى البعض أن الدعوى الإفريقية هي صوت الضمير الإنساني في معظم بلدان العالم، وهي الترجمة الفعلية للتظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها جل شوارع وميادين العواصم الأوروبية والغربية، كذلك تعد تعبيرًا عن موقف 163 دولة صوتت داخل الأروقة الأممية لصالح وقف العدوان، ومن ثم يمكن القول إنها مرآة المقهورين من ويلات الاستعمار والانتهاكات بصفة عامة وإن جاءت تحت عنوان فلسطيني ضيق.
وهنا يبقى السؤال: إن كانت جنوب إفريقيا – وهي البلد غير العربي وغير العضو في أي كيان إسلامي أو عروبي، ولم تتشارك حدوديًا مع فلسطين كما أنها غير متأثرة بمجريات الحرب الدائرة في غزة – لم تقدم في مذكرتها أي خروج عن سياق الواقع المعاش منذ 90 يومًا، وأن دعواها إنما جاءت تعبيرًا عن صوت الضمير الإنساني، وتنسجم شكلًا ومضمونًا مع المزاج الشعبي العربي والإسلامي، وتتفق من حيث السياق مع الخطاب الرسمي العربي والإسلامي.. فلماذا الصمت إذًا؟
بلادة عربية
يبدو أن الخذلان بات سمتًا عربيًا خالصًا، فكما خذلت الحكومات العربية الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضده على مدار أكثر من 3 أشهر كاملة، ها هي تخذل جنوب إفريقيا في دعواها المقدمة انتصارًا لحق الفلسطينيين في مواجهة جرائم المحتل، وهو الخذلان الأشبه بـ”البلادة” بحسب وصف الإعلامي المصري المعارض أسامة جاويش.
يسخر جاويش – المقيم خارج بلاده – من الموقف العربي بقوله إن حكومات العالم العربي ربما مشغولة بإنقاذ الشعب الفلسطيني بطرق أخرى غير تلك التي اتبعتها بريتوريا، مستشهدًا بواقع بعض الأطراف التي كان يعول عليها البعض في تحريك المياه الراكدة في هذا الملف، وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن والإمارات.
فمصر الجارة الأقرب لغزة والمسؤولة تاريخيًا عن القطاع الذي يرتبط أمنه بأمن المصريين القومي، لم تلتزم الصمت وفقط، بل ساهمت – بقصد أو دون قصد – في خنق أهل غزة من خلال مشاركة الاحتلال في تضييق الحصار عليهم إما بإغراق الأنفاق التي كانت المتنفس الوحيد أمام سكان القطاع، وإما الإبقاء على معبر رفح مغلقًا بأمر الاحتلال دون ممارسة الجانب المصري السيادة عليه، فيما يقبع مليونا غزي في العراء حيث لا طعام ولا ماء ولا وقوة لتشغيل المشافي والمراكز الصحية، هذا بخلاف ما يتردد بشأن نية جيش المحتل السيطرة على محور فيلادلفيا مع الجانب المصري لإحكام قبضته بشكل كامل على غزة وفصلها عن جانبها المصري بالكلية.
بعد مقاضاتها الاحتــ..ـلال أمام محكمة العدل..
الإعلامي أسامة جاويش: «درس جنوب أفريقيا كشف بلادة العالم العربي بحكامه وملوكه، وأكد حقيقة أن الانتصار للإنسانية وحرية الشعوب لا علاقة له بحدود جغرافية أو ديانة، يكفيك فقط أن تكون إنسانا»
لقراءة التفاصيلhttps://t.co/pBMW7rBvsc pic.twitter.com/xlHqfkjmmv
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 6, 2024
أما على المستوى السعودي فالأمر لم يختلف كثيرًا عن نظيره المصري، فبدلًا من بذل المزيد من الجهود لملاحقة الاحتلال قضائيًا أمام المنصات الدولية، إذ بولي العهد محمد بن سلمان وذراعه اليمنى رئيس هيئة الترفيه تركي آل الشيخ يركزان اهتمامهما على حفلات موسم الرياض الصاخبة، وتحويل المملكة إلى قبلة لمشاهير ونجوم الكرة والفن والغناء والإعلام، فيما اكتفت اللجان الإلكترونية السعودية بشيطنة حماس وتشويه صورتها والتقليل من انتصارات المقاومة.
أردنيًا، ورغم المزاج الشعبي الداعم لغزة وأهلها، والمطالب بموقف عربي موحد في مواجهة الاحتلال، فإن التبادل الاقتصادي والتجاري بين عمان وتل أبيب ما زال قائمًا بصورة مثيرة للجدل، حيث غزت البضائع والخضراوات الأردنية الأسواق الإسرائيلية عوضًا عن توقف حركة السفن والملاحة بسبب تهديدات الحوثيين في البحر الأحمر، وهو الموقف ذاته إماراتيًا حيث الجسر البري المحمل بالبضائع الذي يبدأ من دبي مرورًا بالسعودية والأردن وصولًا لأسواق الاحتلال عبر شركة مصرية.
وخلص جاويش إلى أن ما فعلته جنوب إفريقيا هو درس قاس فاضح للكل، درس عرى العالم العربي بحكامه وملوكه وأمرائه، فيما أكد على أن الانتصار للإنسانية وحرية الشعب مسألة لا علاقة لها بحدود أو دين أو عرق “يكفيك فقط أن تكون إنسانًا”.
مقاربات انبطاحية
لا يمكن قراءة الموقف العربي الصامت المتبلد إزاء دعوى جنوب إفريقيا بمعزل عن الخذلان العربي في مجمله منذ بداية الحرب، فهو سياق واحد وإن تشعبت فروعه، موقف يعكس إصرارًا عربيًا على الانبطاح وعدم الانتصار لأي معايير إنسانية، ناهيك بالمعايير العروبية والإسلامية التي تدشنها تشاركات الدين والعرق والتاريخ والجغرافيا.
تخشى الأنظمة العربية الوقوف وجهًا لوجه أمام حليفها الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكاني، إما حرصًا على مصالحها التي تتوهم أنها مرتبطة شكلًا ومضمونًا بتلك الشبكة من التحالفات، وإما تجنبًا لأي رد فعل معاكس في ظل ما تعاني منه تلك الأنظمة من هشاشة بنيوية وافتضاح حقوقي يمكن النفاذ منه نحو ضرب استقرارها.
د. عزام التميمي: #جنوب_أفريقيا فعلت ما لم يستطع العرب والمسلمين فعله ..🔻#حوار_لندن @AzzamTamimi pic.twitter.com/uShZghrZRM
— قناة الحوار – Al Hiwar TV (@alhiwarchannel) January 7, 2024
تتخذ الحكومات العربية سقفًا سياسيًا محددًا في خصومة الاحتلال، يتسم بالانخفاض الشديد، وعدم تجاوزه للحدود الدنيا من المواقف الجادة لنصرة القضية الفلسطينية برمتها، فضلًا عن الموقف المناوئ في الأساس لكل ما هو إسلامي، حتى لو كانت المقاومة ذاتها التي تدافع عن شرف وكبرياء العرب والمسلمين في العموم.
رغم أن بريتوريا بدعوتها تلك وضعت العرب في حرج كبير، فهم الأولى بهذا التحرك لاعتبارات عدة، فقد كانوا أمام فرصة تاريخية لترميم الصورة وذلك عبر دعم تلك الخطوة بكل قوة، والوقوف خلف الدولة الإفريقية بشتى السبل للحصول على حكم يدين الاحتلال أو على الأقل يضعه تحت تهديد كبير، لكن أبى العرب إلا أن يلتزموا مقاعدهم المعتادة في مسرح الأحداث، تاركين البطولة لأطراف أخرى.
وفي الأخير، كما أضافت جنوب إفريقيا بدعوتها تلك سطرًا جديدًا في كتاب الإنسانية المجردة من أي اعتبارات قومية أو أيديولوجية، أضاف العرب صفحة أخرى في مجلد الخذلان والانبطاح، لتواصل حرب غزة هوايتها المفضلة في إسقاط الأقنعة المزيفة والشعارات الجوفاء.