اختار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مركز الخليج للمؤتمرات بمدينة إسطنبول، ذات الرمزية الخاصة في البلاد، لمكاشفة الرأي العام التركي بمرشح حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم، لخوض انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وهي خطوة كانت محل تساؤلات وجدل، لما لها من أولوية كبيرة خلال الانتخابات المرتقبة في 31 مارس/ آذار المقبل.
وتعددت الأسماء المقترحة لخوض انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، قبل الإعلان عن اسم مرشح الحزب، الوزير السابق للبيئة والتطور العمراني والتغير المناخي مراد قوروم (47 عامًا)، لأهمية المقعد وفق خطط الحزب الحاكم والمعارضة على السواء، حيث يراهن العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، على انتزاع معظم المقاعد عبر مرشحيهم في 39 ولاية كبرى و29 مدينة تركية.
وقبل أيام من إعلان اسم قوروم، قال أردوغان إن “ترشيحات الحزب ستشهد مفاجآت” بالتزامن مع رواج تكهُّنات حول خوض أسماء شهيرة للانتخابات البلدية في إسطنبول، كرئيس مجلس إدارة شركة “بايكار” التركية سلجوق بيرقدار، ووزير الداخلية الحالي علي يرلي كايا، ووزير الداخلية السابق سليمان صويلو، ووزير النقل والبنية التحتية السابق عادل كارا إسماعيل أوغلو، ورئيس حزب العدالة والتنمية بإسطنبول عثمان نوري كاباك تيبه، ورؤساء بلديات إسنلر والفاتح وأوسكودار.
وترى مصادر “نون بوست” أن “قوروم الخيار النموذجي، رغم قدرة وزير الداخلية الحالي، علي يرلي كايا، على خوض معركة الانتخابات البلدية، لكن عملية ترشيحه على قوائم الحزب الحاكم كانت ستدفعه إلى ترك منصبه الرسمي، الذي يواصل من خلاله استكمال خطته الأمنية التي تركّز على مواجهة الجريمة المنظمة وتجفيف منابع الإرهاب، خاصة أنها تحظى بدعم حكومي ومؤازرة كبيرة من الرئيس أردوغان على وجه الخصوص، في ضوء ما تحققه من نجاحات حتى الآن”.
مشاورات وتقييمات
وفق ما شهدته دوائر صنع القرار في الحزب الحاكم خلال الشهور الماضية، مرّت عملية اختيار المرشحين للانتخابات البلدية بمعايير واستطلاعات منهجية، بينما أكد أردوغان مؤخرًا أن الاختيارات حسمتها “مشاورات وأبحاث وتقييمات”، قبل الدفع بأسماء قادرة على حسم المعركة سواء في المدن الرئيسية أو الأقل شهرة، والحرص على استرداد المدن المهمة التي فقدها الحزب في آخر انتخابات بلدية عام 2019 (إسطنبول، أنقرة، إزمير، أضنة، أنطاليا ومرسين) لاستكمال منظومة العمل، التي سيبدأ بها الحزب المئوية الثانية من عمر الجمهورية التركية.
وتعدّ إسطنبول أكبر المدن التركية وأهمها، فهي العاصمة الاقتصادية والتجارية في البلاد، كما يقطنها حوالي 16 مليون نسمة، وظل يحكمها حزب العدالة والتنمية منذ ربع قرن تقريبًا، قبل أن تؤول رئاستها إلى القيادي في حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو (52 عامًا) منذ عام 2019، وسط حالة عدم رضا من أردوغان: “سنخرج إسطنبول من فترة الفراغ في السنوات الخمس الماضية. لا يمكنها تحمُّل الضياع 5 سنوات أخرى. الناخبون مطالبون بالتصويت للأكفاء، ممّن لديهم القدرة على الوفاء بالوعود”.
وفور إعلان ترشحه، حدد قوروم ملامح البرنامج: “نحن نعرف إسطنبول ونعرف ما يتوقعه سكان إسطنبول منا. سنقوم بالقضاء على الفوضى الحالية في المدينة في أسرع وقت ممكن. سنواجه سوء التنظيم في الولاية مع إزالة مخاوف شعبنا بشأن الزلزال. سندير إسطنبول بطريقة منهجية ومخططة، لإعطاء المدينة الاهتمام الخاص الذي تستحقه في العصر الجديد. سيكون للمدينة الجميلة إدارة تركز تجربتها على إسطنبول بعد تركيا”.
Her zaman sahada Murat Kurum. pic.twitter.com/HYp92lIi6d
— Parasizceo (@parasizceo) January 8, 2024
تحديات واقعية
يشكّل ملف “الفوضى الحضارية” في إسطنبول، بحسب قوروم، أحد التحديات المهمة أمام رئاسة المدينة، بعد تحذيرات سابقة يطلقها أردوغان منذ زلزال 6 فبراير/ شباط: “مواصلة البناء غير القانوني سيجعل فاتورة الزلزال ثقيلة جدًّا، خاصة في إسطنبول التي تواجه زلازل محتملة.. ساعدونا في بناء منازل قوية.. حقوقكم محفوظة، نحاول حماية المصالح العامة بإعادة بناء المناطق العشوائية وسلامة أرواح مواطنينا وممتلكاتهم، واجهوا معنا من يعرقلون خطط التحول الحضري، كحزب الشعب الجمهوري وكيانات أخرى تحاول تخريب مشاريعنا”.
قضية مخاوف الزلازال التي أشار إليها قوروم ستكون حاضرة خلال المعركة الانتخابية، من واقع التذكير بمشروع إسطنبول للحدّ من مخاطر الزلازل والتجهيز لحالات الطوارئ (ISMEP) المطبّق منذ عام 2006؛ وهل يجري فحص المباني العامة ورفع كفاءتها، وتأهيل المواطنين لحالة الطوارئ وكيفية الاستجابة، فضلًا عن مدى تطبيق كود الزلزال على المباني الخاصة والعامة، وتقييم تصاريح البناء وعمليات التفتيش وتوافقها مع اللوائح من عدمه؟
القوة والضعف
لن تكون المعركة بين قوروم ومرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، حول قضايا سياسية، بل سيكون محورها ملفات خدمية-بيئية، بحكم تحديات مدينة إسطنبول، وتخصص الوزير السابق الذي كان يشرف على إدارات ووكالات بيئية-مناخية وتخطيطية-إسكانية، تهمّ جموع القاطنين في مدينة إسطنبول الذين يصل عددهم إلى حوالي 16 مليون شخص، ولكون إسطنبول ثامن أهم المدن السياحية عالميًّا، يصل أعداد الزائرين لها إلى أضعاف العدد المذكور.
كما أن موقع ولاية إسطنبول، شمال غرب إقليم مرمرة، بالقرب من الصدع الأناضولي الشمالي، سيخدم الأجندة الانتخابية لقوروم، في ظل تكرار اصطدام الصفيحتَين الأفريقية والأوراسية ببعضهما على الدوام، ما يؤدي إلى وقوع زلازل مدمرة تاريخيًّا.
ومن ثم فإن وجوده على رأس مجلس بلدية إسطنبول الحضرية، الذي يدير بلدية إسطنبول الكبرى المكونة من 39 مقاطعة، سيكون أحد المحفزات لانتخابه على حساب أكرم إمام أوغلو، صاحب الطموح السياسي الذي يتجاوز رئاسة البلدية لرئاسة الجمهورية في انتخابات عام 2028، وسقوطه في المعركة الحالية ستكون له تبعات سلبية على حزبه الأقدم والأكبر في تركيا، وعلى المعارضة نفسها التي ستكون من دون مرشح رئاسي قوي في المعركة المرتقبة.
أيضًا، يشكّل تولي قوروم في السابق لمهام التخطيط في الحكومة بندًا إضافيًّا لصالحه في إدارة ولاية إسطنبول مستقبلًا، حال إدارته لحملة انتخابية دعائية ناجحة قادرة على مدّ الجسور مع الناخبين، خاصة أنه يحظى على الصعيد الإنساني والإعلامي بمكانة متميزة خلال السنوات الأخيرة، لبُعده عن المعارك السياسية وخلافات وصراعات الأحزاب التركية.
من هو قوروم؟
ومراد قوروم هو المشرف على وضع خارطة الطريق لعملية إعادة الإعمار والتطوير في المناطق المنكوبة التي ضربها زلازل 6 فبراير/ شباط الماضي، وتطوير المناطق السكنية الجديدة وتوافقها مع كود الزلازل، بكل ما يتطلبه ذلك من عمليات فنية شاملة، لتحديد المواقع المناسبة للبناء، وكثافة المباني، وعدد الطوابق، وحظر البناء في المناطق الخطرة، خاصة قرب خطوط الصدع، واستعانة هيئة الإسكان الجماعي في كل تلك الخطوات بخبرات الجامعات والمعماريين ومخططي المدن من العلماء والمهندسين.
ولم تَعُق كل تلك الخطوات الفنية التي أقرها قوروم عملية شروعه السريع، كممثل للوزارة المعنية والحكومة، في وضع حجر الأساس للدفعة الأولى من الوحدات السكنية الجديدة الآمنة في المناطق المنكوبة، بإشراف هيئة الإسكان الحكومية التركية (TOKİ)، مع تزامن الخطوة نفسها مع عمليات الترميم الموسّعة للمباني المتضررة في الولايات الـ 11 ضحية الكارثة، مساهمةً في التخفيف من حدّتها وسرعة إيواء مئات الآلاف من ضحايا الكارثة.
وقوروم من مواليد عام 1976 في أنقرة، تخرج عام 1999 من قسم هندسة الإنشاءات بكلية الهندسة والعمارة في جامعة سلجوق بولاية قونية، وعمل مهندسًا في مؤسسات إنشاءات قطاع خاص حتى عام 2005، ثم خبيرًا في الإدارة العامة للإسكان الجماعي الحكومية، وفي إدارة تطوير الإسكان، ثم وزيرًا للبيئة والتخطيط العمراني منذ صيف عام 2018 حتى صيف العام الماضي.
أمل المعارضة
في المقابل، لا يمكن تجاوز مكانة وقوة رئيس بلدية إسطنبول الحالي أكرم إمام أوغلو، الذي سيقاتل من أجل استمرار قيادة حزب الشعب الجمهوري للبلدية منذ يونيو/ حزيران 2019، مستفيدًا من معاركه السياسية وشعبيته النسبية، وإن كانت لم تصل إلى ما حقّقه أردوغان خلال رئاسته للبلدية نفسها منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ومع ذلك يمدّ أكرم إمام أوغلو الجسور مع كتل تصويتية، سنّية وعلوية وكردية وفئات عمرية مختلفة، في إسطنبول.
وترجّح المصادر أن تشهد المعركة الانتخابية بين قوروم وإمام أوغلو ملف مخالفة مبانٍ للمواصفات القياسية الذي يحظى باهتمام كبير، حيث تنشط في قطاع العقارات التركي أكثر من 130 ألف شركة، وازداد عدد الشركات العاملة في القطاع بنسبة 43% خلال الـ 10 سنوات الأخيرة، وتشكّل استثمارات البناء نحو 50% من استثمارات رأس المال الثابت، وفقًا لجمعية مصنّعي لوازم البناء التركية.
ومع ذلك، لن تكون المنافسة مشتعلة بين قوروم وإمام أوغلو فحسب، إذ سيخوض أكثر من مرشح حزبي للمعارضة الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول، خاصة حزب الوطن بقيادة محرم إنجه، الذي يركز دعايته الانتخابية في المدن الكبرى كإسطنبول.
وأثبت إنجه أنه قادر على جمع الحشود الضخمة في المدن، خاصة المناطق ذات الطابع الأوروبي (نيشانتاشي وبيشكطاش وأورتاكوي) نظرًا إلى المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي للمناطق المذكورة، على عكس دعاية حزبه المحدودة في الفاتح وأسنيورت، ما يشكّل خطورة سياسية على إمام أوغلو حال الدفع بمرشح للحزب في الملعب نفسه، وهو حال الكثير من الأحزاب التي تنوي خوض الانتخابات بمرشحيها دون تحالفات.
خطوات إجرائية
في 15 يناير/ كانون الثاني الجاري، تشهد قاعة المؤتمرات الجديدة الإعلان عن برنامج واستراتيجية حزب العدالة والتنمية -وتحالف الشعب- للانتخابات المرتقبة، فيما تبدأ الحملات الدعائية للأحزاب المشاركة في الانتخابات خلال أيام، بعدما وافقت الهيئة العليا للانتخابات التركية، على خوض 36 حزبًا سياسيًّا للانتخابات بعد تحقيقها للنصاب القانوني، أشهرها العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، والجيد، والوطن الأم، والديمقراطية، والتقدم، واليسار الديمقراطي، والمستقبل، والسعادة، والعمال، والشيوعي، والنصر.
وتلزم اللجنة العليا للانتخابات الأحزاب السياسية المشاركة بإعلان قوائم مرشحيها حتى 31 يناير/ كانون الثاني الجاري، قبل إعلان القوائم النهائية للمرشحين في 3 مارس/ آذار المقبل، حيث تمرّ أحزاب المعارضة التركية بمرحلة مخاض عسير قبل الانتخابات البلدية بتداعياتها على التحالفات التقليدية، وتبدو هناك رغبة واضحة من معظم الأحزاب التي تأكد مشاركتها في الانتخابات على خوض المعركة بمرشحيها فقط.
Sabahı, Eyüp Sultan'da karşıladık.@osmannnurika pic.twitter.com/DUKB9bMKdt
— Murat KURUM (@murat_kurum) January 8, 2024
الدفعة الأولى
بدوره، أعلن أردوغان أسماء الدفعة الأولى من مرشحي البلديات، وهم: محمد كوجاتيبه لولاية أرتفين، مصطفى سافاش لولاية أيدن، يوجال يلماز لولاية بالكسير، أردال أنيكان لولاية بينغول، نصر الله تانغلاي لولاية بتليس، علي نور أكتاش لولاية بورصة، جليدي إسكندر أوغلو لولاية شناق قلعة، حسين فيليز لولاية تشانقيري، عثمان زولان لولاية دنيزلي، فاروق أوزلو لولاية دوزجة، بليغن ايبا لولاية إدرنة.
كما شملت قائمة الدفعة الأولى من المرشحين في الانتخابات البلدية عن الحزب الحاكم؛ شاهين شريف أوغلولاري لولاية إيلازيغ، محمد سكمان لولاية أرضروم، نبي خطيب أوغلو لولاية إسكيشهير، أيتكين شنليك أوغلو لولاية غيرسون، شكور باشدغيرمان لولاية إسبرطة، تحسين باباش لولاية كاستامونو، طاهر بيوك أكين لولاية قوجا ألي، أيدن أيايدن لولاية موغلا، محمد حلمي غولار لولاية أوردو، رحمي متين لولاية ريزه، خالد دوغان لولاية سامسون، يعقوب أوتشنجو أوغلو لولاية سينوب، أيوب إيروغلو لولاية توكات، ومصطفى توتوك لولاية يالوفا.
استحقاق حاسم
ورغم أن انتخابات البلديات التركية كانت في السابق لا تحظى بالاهتمام نفسه الذي تشكّله الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية، إلا أنها أصبحت من أهم محددات العملية السياسية، خاصة منذ التزام تركيا بتعزيز اللامركزية، عقب تصدُّر حزب العدالة والتنمية للسلطة، وحتى الآن جعلها محل اهتمام كبير، ومن ثم لن تكون معركة سهلة، خاصة في إسطنبول التي ترتبط مكانتها بكونها المسؤولة عن 27% من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا، فيما تسهم ضرائبها بنسبة 40% من ميزانية الدولة.
تتعدد تعهُّدات أردوغان بـ”بداية قوية في القرن الجديد لجمهوريتنا، ليس لدينا شك في أن شعبنا سيحمل مئوية تركيا إلى القمة، تمامًا كما فعل مع كل مسار جديد نفتحه”، وتأكيده قبل الانتخابات البلدية الماضية على “مواصلة تقديم الخدمات إلى مواطنينا عبر تطوير مجالات الاقتصاد والزراعة والصناعة والعمالة، لا يمكننا اتّباع سياسات قوية في الخارج دون أن نكون أقوياء في الداخل”، وأن “بقاء أي حزب في سدة الحكم مرتبط بنجاحه في البلديات، وكلما كنا أقوياء في إدارة البلاد، سنقدم الدعم أكثر في مجال الخدمات البلدية”.
Bugün İstanbul’daki aday açıklama toplantımızı teşrif eden kardeşlerime aşkı, sevdası, salonlara sığmayan muhabbeti için şükranlarımı sunuyorum.
Türkiye Yüzyılı Şehirleri İçin Hazırız, Kararlıyız! 🇹🇷… pic.twitter.com/jmBGLOqRT6
— Recep Tayyip Erdoğan (@RTErdogan) January 7, 2024
يقول أيضًا: “نحن جاهزون ومصمّمون على مدن القرن التركي. نحن نرى السياسة كمنافسة في الأعمال الخيرية والخدمة. من اليوم فصاعدًا، واجبنا الوحيد هو العمل، والعرق من أجل صديقنا -قوروم- الذي أُعلن عن اسمه، والكفاح من أجل نجاحه بكل إخلاصنا وبكل قوتنا. سنسير بنفس الصدق والإخلاص على هذا الطريق المبارك الذي انطلقنا فيه، حظًّا سعيدًا ونتمنى له التوفيق”.
فهل تتحقق طموحات الحزب الحاكم وحلفائه في معركة الانتخابات البلدية، أم يكون للناخبين رأي آخر؟