في العام الماضي في أثناء الحملة الانتخابية لصادق خان، عمدة لندن، وعد خان البريطانيين بحياة عادلة ومتناغمة دون النظر لخلفياتهم الثقافية أو الدينية أو العرقية، وتضمنت وعوده أيضًا إنهاء الحملات الدعائية التي تروج لأشكال غير واقعية لأجسام البشر، وسلوكيات غير صحية من شأنها أن تنشر أفكارًا خاطئة أو تسبب مشاكل نفسية وجسدية.
وتحقيقًا لكلامه أصدر خان قرارًا بمنع الإعلانات المسيئة للأجسام والتي تروج لأشكال غير صحية، وأمر بإزالتها من شبكات المواصلات العامة، وهذا بعد شهرين من توليه منصبه.
في عام 2015 وقع أكثر من 70000 شخص على عريضة تطالب بحظر إعلان يطرح سؤال: هل جسمك مناسب للشاطئ؟ الأمر الذي جعل الركاب يستاؤون من هذا النوع من الإعلانات، وتجاوبًا مع ردود الغضب العامة تم حظر نحو 12000 مساحة إعلانية في محطات المواصلات العامة، خاصة الدعايات المسيئة لصورة الجسم الحقيقية والتي تستخدم صورًا معدلة مثل عرض صور لعارضات بأجسام لا تشبه الأجسام الطبيعية، وحتى شمل الحظر صورًا لرجال مفتولي العضلات بشكل مبالغ فيه، إذ يذكر أن المواطن البريطاني يتعرض لنحو 130 إعلانًا في المواصلات يوميًا.
هذا النوع من الإعلانات يتسبب في مشاكل للجمهور من حيث الثقة في شكل أجسامهم، وخاصة بين الشباب
وفي هذا الشأن قالت هيئة معايير الإعلان في بريطانيا إن الشكاوى التي وصلت إليها وصفت الملصقات الإعلانية بالمسيئة وغير المسؤولة، بعد أن تم تحرير 400 شكوى إلى مكاتبها بسبب هذا الإعلان.
كما خرج المنزعجون إلى الشوارع للاحتجاج على هذا النوع من الإعلانات ووقفوا بملابس السباحة ليدللوا على الشكل الحقيقي للجسد وأن كل أشكال الجسم مقبولة، أما بالنسبة إلى شركة الدعاية فقالت إن الإعلان لا يسبب ضررًا كبيرًا، بل على العكس تمامًا ارتفعت مبيعات المنتج المروج له في الدعاية، ووصفت هذه الاحتجاجات بالتطرف، وفقًا لما جاء في تقرير نشرته الـ”بي بي سي” البريطانية.
وبجانب هذا، أصدرت هيئة النقل في لندن بيانًا تحدد فيه المعايير التي يجب أن تخضع لها الشركات الإعلانية وقالت: “يمكن للناس أن يعبروا عن استيائهم أو انزعاجهم من الإعلانات الملصقة في محطات المترو وأن يبلغونا بالأمر، لأنه من واجبنا التحقق من أن المحتوى المنشور يعكس المحيط من حولنا”.
وتعليقًا على هذه الحادثة، قال صادق خان: “هذا النوع من الإعلانات يتسبب في مشاكل للجمهور من حيث الثقة في شكل أجسامهم، وخاصة بين الشباب”، وأضاف “كأب لابنتين في سن المراهقة، أنا شديد القلق بشأن الأمور التي تحط من معنويات الناس، خاصة التي تجعل النساء يخجلن من أشكالهن الخارجية، وهذا الوقت الأنسب لوضع حد لهذا الأمر”.
اتهمت بعض الجهات عمدة لندن خان أنه متسلط ويحاول فرض القيم الدينية وأسلمة المجتمع البريطاني
كما رحب قطاع الصحة بهذا القرار، وقالت ماري جورج المتحدثة باسم جمعية “بي إييت” المختصة في الصحة الغذائية إن هناك علاقة بين الإعلانات ومشاكل التغذية، فما تروج له الكثير من الإعلانات عن الأجسام النحيفة وأنها الشكل المثالي الذي يجب على الجميع أن يسعوا إليه، هو ما يزيد من التأثير الخطير لبعض صور الإعلانات على أفكار الناس ومشاعرهم، وتؤكد حديثها بوجود دراسات عديدة أظهرت أن الأجسام النحيفة التي تظهر بصورة مثالية في الصور لها تأثير كبير على نظرة الشخص لنفسه، وخاصة النساء اللاتي تتكون عندهن عادات غذائية غير صحية بهدف تغيير بنيتهن الجسمية أو شكلهن الخارجي بما يتناسب مع ما تروج له الإعلانات.
اتهمت بعض الجهات عمدة لندن خان أنه متسلط ويحاول فرض القيم الدينية وأسلمة المجتمع البريطاني، إذ قالت جورجينا ديني، مستشارة لإحدى الشركات التجارية: لم تعتبر التمرينات الرياضية تشويهًا؟ السبب الرئيسي لاستمراري في التمرينات هو الشعور بالكبرياء، أريد أن يكون مظهري جيدًا، فلم يعتبرها البعض أمرًا مخزيًا أو مناهضًا للنسوية؟ خاصة أن بريطانيا تعمل على اتخاذ إجراء جديد يمنع الإعلانات المثيرة جنسيًا أو التي تروج للمشروبات الكحولية.
عنصرية جنسية واضحة
تقول الهيئة المشرفة على رقابة الدعاية والإعلان إن على بريطانيا إيجاد حل للإعلانات التي تظهر دور المرأة والرجل في صور نمطية، كعرض إعلانات عن المرأة وهي في ملابس المطبخ وتقوم بالمهام المنزلية، وأن الرجال هم من يخرجون إلى العمل لتحقيق الرفاه المادي للأسرة، وأشارت إلى أن هذه الإعلانات تصدر أفكارًا غير صحيحة عن الأدوار الفعالة الحقيقية لكلا الطرفين وتنشر انطباعات غير صحية عن مهام الأفراد في الاقتصاد والنشاط الاجتماعي.
ومن الأمثلة على هذه الإعلانات، إظهار الرجل بإطار الفرد القوي الذي يمارس رياضيات عنيفة معينة، على عكس المرأة التي غالبًا ما تحصر في المهام المنزلية أو الأمومية والأمور الجمالية، وهذه الدعايات التي تكرس افتراضات اجتماعية على أدوار الجنسين في المجتمع بطريقة غير حقيقة وسلبية، إذ إنها تخلق فجوة بين ما يريد أن يكونه الشخص وما تعرضه الإعلانات له.
مدن تستغني عن الحملات الإعلانية منذ 2006
لم تكن العاصمة لندن أول مدينة تعلن عن قرار حظر الإعلانات التي تجدها غير مناسبة للمحيط العام ومؤثرة بشكل سلبي على المواطنين.
خلال سنة واحدة قررت المدينة البرازيلية ساوباولو إزالة 15.000 ملصق إعلاني من الشوارع وإبدالها برسمات فنية احترافية، وذلك قبل 10 سنوات، وتعد أول خطوة جريئة تقوم بها البرازيل، ومن بعدها أقرت عدة مدن هذه الخطوة مثل مدينة تشيناي الهندية وجرونوبل الفرنسية وطهران العاصمة الإيرانية ومن ثم باريس، كما أن مدينة نيويورك الأمريكية بدأت باتخاذ إجراءات تخفف من هذه الإعلانات.
في محاولة إضافية للفلبين، التي حاول المسؤولون فيها حظر اللوحات الإعلانية، بسبب زيادة عدد الوفيات التي حدثت نتيجة للأعاصير والكوارث الطبيعية الأخرى وكانت هذه اللوحات سببًا في موتهم.
أما الجهات التجارية المعارضة لهذا القرارات فعبرت عن رفضها لهذا النوع من الإجراءات واعتبرت أنه يقلص من حرية التعبير، ويجعل الشوارع أقل أمانًا بسبب الأضواء المصاحبة للوحات الإعلانية، وأكدت أن هذا القرار سيحرم الكثيرين من العمل، لكن على الرغم من هذه الاعتراضات قام 70% من سكان ساوباولو بالتصويت مع قرار المنع بسبب تقديرهم وميلهم إلى الفنون الجمالية أكثر من الدعائية.
كما ادعى المعترضون بحجة ما إن كانت هذه القضية مهمة لدرجة التي يصل فيها قانون رسمي بالمنع، وردًا على هذه الشكوى قالت مؤسسة البحوث العالمية “وورلد وواتش” إن هذه اللوحات الدعائية تؤثر على موارد البيئة الطبيعية “ليست الغازات الدفيئة هي من تسبب في التغيرات المناخية، بل طريقة استهلاكنا هو ما يسبب هذه الغازات التي تضر بالبيئة، وإن لم نضع نهاية للسلوكيات الاستهلاكية التي تدفعها الإعلانات، فإننا لن نحل مشكلة التغير المناخي”.
هذا القانون الجديد سيعطي لساوباولو هوية جديدة ومظهرًا فريدًا بعيدًا عن التصنع
ويذكر أن البرازيل عانت من زيادة في عدد الإعلانات بين عامي 2004 و2005 بنسبة 15%، وبالسنوات السابقة زادت بنسبة 20% بالتناقض مع النمو العالمي في مجال الدعاية الذي كان 4.7% فقط مقارنة مع البرازيل، وهذا بحسب تقرير “يونفيرسال مككانز إنسايدرز”.
يقول عمدة ساوباولو فينجيوس جالفو: “ساو باولو مدينة قديمة وعريقة، ولها طراز خاص بها يجعلها مميزة، وما كنا سنلاحظ فراداتها وعراقتها بوجود هذه الشعارات واللافتات والإعلانات الضخمة التي كانت تغطي جدرانها من كل ناحية، وبلا أي معايير تحكم هذه الدعايات، وهذا القانون الجديد سيعطي لساوباولو هوية جديدة ومظهرًا فريدًا بعيدًا عن التصنع”، ويضيف “في السابق كانت ساوباولو مدينة مغطية باللوحات التجارية المضيئة، أما الآن تحمل الوجه الحقيقي للثقافة البرازيلية، ونأمل أن تقوم الدول الأخرى بتبني هويتهم الثقافية أيضًا والتركيز على الجوانب التي تميز مدنهم، بدلًا من إغراقها في اللافتات والإعلانات”.
من خلال هذه القواعد الجديدة يمكن أن تقل الأفكار السلبية عن شكل الجسد الاعتيادي أو الصور التي تكون مثيرة جنسيًا بطريقة لا تتطابق مع قيم المجتمع
ولم تكن ساوباولو المدينة التي حاولت منع هذا الضرر النفسي والصحي، فانضمت عاصمة الصين بكين إليها، وقررت أن تخفض عدد اللوحات الإعلانية والأدوات الفاخرة المبالغ في استخدامها عند تصنيع هذه اللافتات، إذ قال عمدة المدينة وانج تشيشان: “استخدام هذه الأدوات المزينة الباهرة قد تكون مزعجة بالنسبة إلى أصحاب الدخل المتدني، ومن مسؤوليتنا أن نخلق تناغم وانسجام في أجواء العاصمة”، وهذا وفقًا لما نشرته “ذا وول ستريت جورنال”.
إضافة إلى مدينة تروندهايم النرويجية التي منعت الصور السلبية التي تؤثر على الشكل الحقيقي للجسد ومنعت نشر صور العارضات بشكل علني في المدينة، إذ قال كايلتين روبر، مسؤول الحملات في إحدى الجمعيات النوية في النرويج، إن هذه الخطوة رائعة، خاصة أن الجهات المعلنة لم تكن تعمل ضمن معايير معينة أو ضوابط، ومن خلال هذه القواعد الجديدة يمكن أن تقل الأفكار السلبية عن شكل الجسد الاعتيادي أو الصور التي تكون مثيرة جنسيًا بطريقة لا تتطابق مع قيم المجتمع، هذا خلال تصريحاته لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية.
مخاوف اقتصادية وأزمات بيئية
تقوم قطارات الأنفاق في لندن بـ1.34 مليار رحلة في العام الواحد، و2.4 رحلة تقوم بها الحافلات، وبحسب مكتب عمدة المدينة فإن المساحات الإعلانية في شبكة المواصلات تحمل 12 ألف إعلان في السنة، وبهذا تعد الدعاية داخل محطات المواصلات العامة الأكثر ربحًا في العالم، إذ يتوقع أن تدر هذه الإعلانات أرباحًا تزيد على مليار ونصف جنيه إسترليني خلال السنوات القادمة.
التقليل من اللافتات والإعلانات لن يكون صحيحًا من الناحية السياسية، فهل ستنفذ هذه المدن قانون حظر الإعلانات في أوقات الانتخابات
كما تستخدم هذه العوائد الربحية في صيانة المواصلات والتحسين من خدماتها وبنيتها التحتية، لهذا يعتبر قرار حظر الإعلانات المسيئة، وتشكيل لجنة للموافقة على الإعلانات أو رفضها مخاطرة مادية قد تهدد بخسارة الملايين.
قال أريك نيونهام الرئيس التنفيذي في كينيتيك غلوبال: “الفوائد المالية العائدة من الإعلانات صعب أن تُرفض، فهي تمثل حركة نشطة من الإيجارات والصفقات التجارية، كما أن معظم خدمات النقل مدعومة من خلال الإعلانات”، وتابع قائلًاً “التقليل من اللافتات والإعلانات لن يكون صحيحًا من الناحية السياسية، فهل ستنفذ هذه المدن قانون حظر الإعلانات في أوقات الانتخابات”؟