أنا سيدة تركية محجبة” هكذا عرفت عن نفسها، معاناتي ومواجهتي الحكومات العلمانية، وإصراري على حجابي فتحت الباب لدخول محجبات للبرلمان التركي”
هكذا كانت بداية حديث النائبة التركية السابقة “مروة قاوقجي” في إحدى لقاءاتها مع قناة الجزيرة، عن قصة حصولها على لقب نائبة برلمانية وصولًا بفُقدانها ذلك اللقب، بل ومنعها من الحصول على لقب برلمانية سابقة، انتهاءًا بحرمانها بأكثر من ذلك، ألا وهي جنسيتها التركية لمدة قاربت العقدين من الزمان.
في العادة لا يكون خبر تعيين سفراء الدول موضع اهتمام الصحافة والإعلام بشكل كبير، فلا يحمل نفس قدر الاهتمام الذي يُصاحب التغيير الوزاري أو التغيير الرئاسي، إلا أن خبر تعيين سفيرة تركية جديدة في ماليزيا كان محل اهتمام كبير من كل وسائل الإعلام بمختلف لغاتها، ذلك لأن لتلك السفيرة قصة خاصة.
وافق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تعيين “مروة قاوقجي” سفيرة لتركيا في ماليزيا بعد شهرين من استردادها لجنسيتها التركية التي حُرمت منها لمدة طويلة، والتي تم سحبها منها بعد طردها من منصبها البرلماني في عام 1999.
بالعودة إلى الخلف إلى بداية قصة بنات عائلة “قاوقجي” في البرلمان التركي، سنجد أنها قصة للدفاع عن مبدأ قبل أن تكون سياسية، والتي عرفتها “مروة” بنفسها قائلة أنها قصة طويلة من المعاناة والمواجهة مع الحكومات العلمانية، وبأن إصرارها على إتمام تلك المواجهة حتى النهاية مهما كانت النتيجة، كان حجر الأساس لبداية دخول المحجبات إلى البرلمان التركي وغيره من الأماكن التي مُنعوا من دخولها عقود طويلة.
لم تبدأ معاناة “قاوقجي” مع قوانين العلمانية حين دخلوها البرلمان فحسب، بل بدأت قبل ذلك بكثير، حينما نالت “قاوقجي” مقعدًا في كلية الطب إلا أنها لم تستطع الدراسة مع احتفاظها بحجابها، الأمر الذي دفعها هي وعائلتها إلى السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتخلي عن حلمها بأن تكون طبيبة.
لم يرضى التيار العلماني بتلك الخطوة إطلاقًا، بل كان رد الفعل عنيفًا وغير متوقعًا، ليتُطرد “مروة قاوقجي” من البرلمان، و تُمنع حتى من أداء اليمين، واعتبار سلوكها سلوكًا “يعارض الوفاء للوطن”
طرد من البرلمان وسحب للجنسية
أثناء طرد “مروة قاوقجي” من البرلمان عام 1999
في عام 1999، تم انتخاب “مروة قاوقجي” نائبة في البرلمان في الثلاثين من عمرها عن حزب “الفضيلة” الذي كانت تنتمي إليه في مدينة إسطنبول، لتكون أصغر عضوة في البرلمان، وكذلك أول امرأة محجبة في البرلمان التركي تؤدي اليمين بدون خلعها لحجابها وذلك في الثاني من مايو/آيار من العام نفسه.
لم يرضى التيار العلماني الشرس بتلك الخطوة إطلاقًا، بل كان رد الفعل عنيفًا وغير متوقعًا، ليتُطرد “مروة قاوقجي” من البرلمان، و تُمنع حتى من أداء اليمين، واعتبار سلوكها سلوكًا “يعارض الوفاء للوطن”، لتستخدم الحكومة التركية آن ذاك ذلك حجة لإسقاط الجنسية التركية عنها، ويصدر بعد ذلك عدة أحكام ضدها وضد أسرتها أيضًا، لتعود للولايات المتحدة مرة أخرى، ولكن هذه المرة مهاجرة، لتعمل في كلية جورج واشنطن محاضرة في مجال العلاقات الدولية.
فقد ألقى رئيس الوزراء حينها، ورئيس حزب اليسار الديمقراطي، “بولنت أجاويد”، خطابًا غاضبًا منتقدا “قاوقجي”، قائلا جملته المشهورة: “البرلمان ليس مكانا لتحدي الدولة”.
ضحية انقلاب 28 شباط
وصفت “مروة” ذلك الانقلاب في حديثها مع صحيفة تركية أن انقلاب 28 شباط هو “محاولة من النظام لإنتاج قيم جديدة تابعة للاستشراق
لم يختلف موقف “مروة قاوقجي” من الحكومة التركية في ذلك الوقت عن كثير من المحجبات التركيات، فقد وجدن أنفسهن يُعاملن من قبل الحكومة العلمانية قبل مجئ حزب العدالة والتنمية بعد ذلك على أنهم مواطنات من الدرجة الثانية، ولا يمكنهن العيش بكرامة، ليجدن أنفسهن أمام خيارين، إما الالتزام بالحجاب، أو التمتع بحقوق المواطنة.
تعدّ قاوقجي من أبرز المتضررين ممّا يعرف بـ “انقلاب 28 شباط”، الذي أجبر به الجيش حزب الرفاه المحافظ على تقديم استقالته تحت التهديد، وشهدت به البلاد حينها علمنة للمؤسسات والأحزاب والإعلام، كان أبرز مظاهره منع الحجاب للموظفين.
حينها وصفت “مروة” ذلك الانقلاب في حديثها مع صحيفة الجزيرة التركية أن انقلاب 28 شباط هو “محاولة من النظام “الذى يعدّ الأساس في إنشاء الجمهورية التركية” من أجل إنتاج قيم جديدة تابعة للاستشراق، 28 شباط هو انقلاب من أجل المحافظة على معايير الاستشراق وقيمه”.
تمثل أول رد اعتبار لـ “مروة قاوقجي” في عام 2015، حينما عُينت أختها “روضة قاوقجي” نائبة برلمانية عن حزب العدالة والتنمية، لتؤدي اليمين الدستوري بالحجاب ذاته الذي ارتدته أختها يوم طردها
محجبات في المناصب الحكومية الرسمية
استفادت المرأة من حق التصويت والترشح، بعد تولي حزب العدالة والتنمية للحكم، في تاريخ 13 من نوفمبر 2013 تم دخول 4 نائبات محجبات عن حزب العدالة والتنمية للبرلمان
تغير الوضع بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى مرتبة الحزب الحاكم، فلم يتم اعتبار المواطنات المحجبات وكأنهن مواطنات من الدرجة الثانية، بل صار مقبولًا من كل من الحكومة والشعب رؤيتهن في المناصب الحكومية الرسمية، ليكون ذلك رد اعتبارًا لهن بعد مرور عقود طويلة من العنصرية والإهانة.
تمثل أول رد اعتبار لـ “مروة قاوقجي” في عام 2015، حينما عُينت أختها “روضة قاوقجي” نائبة برلمانية عن حزب العدالة والتنمية، لتؤدي اليمين الدستوري بالحجاب ذاته الذي ارتدته أختها يوم طردها من البرلمان وحرمانها من أداء اليمين، لتعتبر كل من “مروة” و “روضة” ذلك الحدث بمثابة انتصار رمزي ورد اعتبار وتضميد لجراح شقيقتها.
على الرغم من أن خطوة دخول المحجبات البرلمان التركي قد جاءت بعد سنوات طويلة، إلا أنها تمثل جزءًا أساسي من المنظومة الديموقراطية في نظام الحوكمة التركية، فقد كانت النائبة “روضة قاوقجي” هي واحدة من بين 21 نائبة (18 منهن عن حزب العدالة والتنمية، وثلاث عن حزب الشعوب الديمقراطي)، أدّين القسم البرلماني مرتديات الحجاب لأول مرة في التاريخ السياسي التركي.
رفع الحظر أيضًا عن المحجبات، والسماح للمجندات التركيات وطالبات المدارس العسكرية بارتداء حجابهم أثناء أدائهم للخدمة العسكرية
“روضة قاوقجي” بعد تعيينها نائبة في البرلمان التركي
لم تكن تلك الخطوة الأولى لرفع حظر الحجاب في المناصب الرسمية، بل تم رفع الحظر عام 2013 رسميًا والسماح للموظفات في الحكومة بارتداء الحجاب أثناء ساعات العمل، باستثناء الجيش والشرطة ومجالات الفضاء، إلا أن المجالات الأخيرة ظلت مجالًا للشد والجذب انتهى برفع الحظر أيضًا عن المحجبات، والسماح للمجندات التركيات وطالبات المدارس العسكرية بارتداء حجابهم أثناء أدائهم للخدمة العسكرية، وذلك عقب للتغييرات السياسية التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي.
أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق قد أشار في تصريحات سابقة، “إن تركيا تقوم بإجراء بعض التعديلات القانونية التي تضمن مشاركة المرأة في الحياة السياسية بشكل فعال وعملي”، مشيرًا إلى ضرورة وجودها في القطاعات الأخرى كافة، حيث قام أوغلوا عندما كان وزيرًا للخارجية قبل نحو 6 أعوام، بتعيين 37 سفيرة في عدة دول حول العالم، مؤكدًا حينها أن المرأة أصبحت تمثل 38% من القوة العاملة في وزارة الخارجية.
في إحدى اللقاءات مع “مروة قاوقجي” اعتبرت أن الشعب التركي في مرحلة جديدة من الإدراك السياسي والاستنارة بما حوله، كما آمنت بأن حزب العدالة والتنمية لا يحكم من أجل القضاء على العلمانية، بل يعمل من أجل تصحيح مسارها، بما لا يضر أي شريحة في المجتمع التركي.