سجّلت المقاومة الفلسطينية، على رأسها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، إحدى أبرز محطات الكفاح والنضال ضد المستعمر الإسرائيلي، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في سبيل تحرير أرض الأنبياء وأولى القبلتَين للمسلمين.
أعادت حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى الذاكرة محطات نضالية سابقة لعدة شعوب، قاومت أنظمة وإمبراطوريات إمبريالية استعمرت أرضها ونهبت ثرواتها، وفي خضمّ تلك المعارك برز قادة كبار عُرفوا بقوتهم وحنكتهم السياسية والعسكرية، وصلابة جأشهم ودفاعهم المستميت عن أرضهم، كما برزت دول لأهمية دورها في دعم حركات التحرر في أغلب المناطق المحتلة.
نخصّص في “نون بوست” ملفًّا كاملًا عن محاولات الشعوب في التحرر من قيود الاستعمار والاضطهاد في العالم، خاصة تلك التي برزت عقب الحرب العالمية الثانية، على أن تكون البداية بالحديث عن عوامل يقظة الشعوب المستعمَرة، وميلاد هذه الحركات التي مهّدت للاستقلال.
التحرر من المستعمر
برزت عوامل كثيرة في أربعينيات القرن العشرين، أدّت إلى يقظة الشعوب المستعمَرة وميلاد حركات التحرر في العالم، أبرزها التغيرات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، فقد تشكّلت خريطة قوى دولية جديدة، وبرزت الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل رئيسي في النظام الدولي الجديد، كما برز الاتحاد السوفيتي الذي ضمَّ بلدانًا من أوروبا الشرقية أو جعلها تحت وصايته، فيما تراجع الدور الأوروبي.
تضاف إلى ذلك الجرائم التي ارتكبتها القوى الاستعمارية بحقّ الشعوب، إذ ارتكبت أغلب الدول المستعمِرة مذابح ضد السكان المحليين في مختلف مناطق العالم، وأبادت قرى بأكملها، تحت حجج ومسمّيات فارغة تتعلق بالحماية والتطوير.
بدأت بوادر العمل السياسي المنظَّم تظهر في العديد من الدول المستعمَرة، في شكل أحزاب سياسية وجمعيات، تحديدًا في دول المغرب العربي
فرضت القوى الاستعمارية آنذاك قيودًا على القيادات السياسية في مستعمراتها، شملت الإقامة الجبرية وحجب منشوراتها، ومحاولات أخرى لاستمالة بعض العناصر الوطنية للعمل في صفوفها، إلى أن تراجعَ نفوذ الدول الاستعمارية في العالم وانتهى وجودها بنيل بعض الدول استقلالها.
في غضون ذلك، حدث تطور فكري كبير لدى الشعوب المستعمرة التي لم تَنَل استقلالها، خاصة أن منظمة الأمم المتحدة نصّت على ذلك، وكذلك باقي اللجان التي تفرعت عنها، وأكدت على حق تقرير المصير لجميع الدول دون استثناء، فبرزت فئة متعلمة وفية لقضايا التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش بحرّية وكرامة، فعملت طوال حياتها على فضح جرائم المحتل أو المستعمر، وإنارة الرأي العام وحثّه على المقاومة وعدم الاستسلام.
بفضل هذه الفئة، بدأت بوادر العمل السياسي المنظَّم تظهر في العديد من الدول المستعمَرة، في شكل أحزاب سياسية ذات توجهات فكرية مختلفة وجمعيات ومنظمات وشخصيات عامة، قدمت عرائض ومطالب تعكس اهتمامات الشعوب المضطهدة وترفض وتندد بالسياسات الاستعمارية، تحديدًا في دول مثل تونس والجزائر والمغرب وفيتنام.
حركات التحرر
برز الحزب الدستوري الحر القديم والجديد (1920-1934) في تونس، على يد عدة قادة آمنوا بضرورة الاستقلال، على غرار الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة والطاهر صفر وعلي بلهوان، نظموا حركة الكفاح والمقاومة بشكلَيها السياسي والعسكري، وحصلوا على مبتغاهم يوم 20 مارس/ آذار 1956.
أما في الجزائر، برز حزب الشعب وجبهة التحرير التي قادت الحركة الوطنية في خمسينيات القرن الماضي، وأجبرت المستعمر الفرنسي الذي دخل البلاد عام 1830 على إنهاء الاحتلال بعد 132 عامًا.
تشكّلت أيضًا حركة اجتماعية سياسية حضرية في المغرب لمناهضة الاستعمار الفرنسي والإسباني، لكن تعنُّت سلطات الاستعمار دفع المغاربة إلى خوض معركة الاستقلال عسكريًّا، حتى استرجع المغرب أرضه عام 1956.
عندما بدأت مطالب الاستقلال تتصاعد، أطلقت القوى الاستعمارية العنان لجنودها حتى يتخلصوا من زعماء الحركات التحررية إما بالاعتقال وإما بالاغتيال
شهدت فيتنام كذلك حركة تحررية قوية، في البداية ضد المستعمر الفرنسي والتي استمرت 8 سنوات (1946-1954)، ثم ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية التي ساهمت في تقسيم البلاد وإثارة الفوضى والفتن.
كما برزت في أنغولا عدة حركات تحررية، منها الاتحاد الوطني من أجل الاستقلال الكامل لأنغولا التي أنشأها جوناس سافيمبي، والحركة الشعبية لتحرير أنغولا بزعامة أوغيستينو نيتو، واتحاد شعوب شمال أنغولا، وكان هدفها طرد الاستعمار البرتغالي.
ظهرت قيادة سياسية وطنية في غانا أيضًا ضد الاحتلال البريطاني من أجل تحقيق الاستقلال، وبرز هناك كوامي نكروما مؤسّس حزب المؤتمر الشعبي، الذي استطاع أن يقود مقاومة الشعب الغاني ضد السيطرة البريطانية ويحقق الاستقلال عام 1957.
فضلًا عن هذه الحركات الوطنية، ظهرت حركات إقليمية جامعة تؤمن بضرورة الوحدة واستقلال الشعوب، وإنهاء الاستعمار الذي دمّر البشرية وأذاقها الويلات، مثل “حَمَلة الحقائب” التي أسّسها الفيلسوف فرانسيس جانسون لدعم ثورة الجزائر.
محاولات القضاء على حركات التحرر
وعد المستعمرون الشعوب المحتلة أثناء الحرب العالمية الثانية بالاستقلال مقابل مساعدتهم في الحرب، لكن عندما انتهت الحرب وبدأت مطالب الاستقلال تتصاعد، كشفت القوى الاستعمارية عن بشاعتها، فأطلقت العنان لجنودها حتى يتخلصوا من زعماء الحركات التحررية إما بالاعتقال وإما بالاغتيال، كما حظرت مكاتبهم وفعالياتهم وجمّدت الصحف والمجلات الداعمة للاستقلال.
استهدفت تلك الاغتيالات أبرز الشخصيات والزعماء السياسيين، مثل النقابي الذي أسّس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد، يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952 بإشراف منظمة “اليد الحمراء”، حيث عُثر على جثته في طريق بمنطقة نعسان قرب تونس العاصمة، وعليها آثار طلقة نارية في الرأس ووابل من الرصاص في الجسم.
رغم أن رحلة الشعوب إلى الحرية شاقة ومكلفة، وتأتي بأثمان باهظة، إلا أنها كانت دومًا غاية كل الدول مهما طال بقاء المستعمر ومهما حاول تغيير ديموغرافية وهوية الشعوب
كما اُغتيل القيادي البارز مؤسس الحزب الدستوري الجديد الهادي شاكر في 13 سبتمبر/ أيلول 1953، إضافة إلى اغتيال أحد زعماء الحركة الوطنية عبد الرحمان مامي يوم 13 يوليو/ تموز 1954.
عمدت سلطات الاحتلال الفرنسي إلى اغتيال الناشطين السياسيين في المغرب كذلك، وبعضهم من المدافعين الفرنسيين عن استقلال المملكة، مثل جاك ليمايي دوبريويل الذي جرت تصفيته يوم 11 يونيو/ حزيران 1955 في الدار البيضاء، حيث الساحة التي تحمل اسمه الآن، عند سفح مبنى الحرية الذي كان يعيش فيه.
فضلًا عن ذلك، استهدفت القوى الاستعمارية سفنًا تجارية ادّعت أنها تعمل لصالح المقاومة في دول شمال أفريقيا، بهدف إضعاف حركات التحرر والحدّ من نشاطها، مع ذلك لم تفلح الدول الاستعمارية في تحقيق أهدافها، إذ تواصلت حركات التحرر في النشاط وازداد انتشارها أكثر في الداخل وفي المنفى، معتمدة على أساليب مختلفة للوصول إلى الاستقلال الكامل.
رغم أن رحلة الشعوب إلى الحرية شاقة ومكلفة، وتأتي بأثمان باهظة قد لا يشهد لحظة تحققها من دفعوا مقابلها أرواحهم، إلا أنها كانت دومًا غاية كل الدول مهما طال بقاء المستعمر ومهما حاول تغيير ديموغرافية وهوية الشعوب، وللوصول إلى هذه اللحظة المنشودة، كان لا بدَّ أن تعي الشعوب أهمية النضال المنظَّم والمتواصل، وهو ما قادته حركات تحررية في مناطق مختلف من العالم من أجل تحقيق هدف واحد: الحرية.