حظيت الجزائر بمكانة دبلوماسية كبيرة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، خاصةً عندما حكم البلاد أحمد بن بلة (1963-1965) وهواري بومدين (1965-1978)، وحتى في الأيام الأولى لرئاسة العقيد الشاذلي بن جديد (1979-1992)، وذلك رغم حداثة عهدها ونيلها الاستقلال عقب عقود من التضحيات المؤلمة، ففي تلك الفترة أقام الجزائريون ثورة ضد المستعمر الفرنسي، وثورة أخرى في سبيل بناء دولة حديثة متينة الأركان.
تجلّت قوة الدبلوماسية الجزائرية في تلك الفترة بحلّ عدد من القضايا الإقليمية الشائكة والمشتعّبة، مثل وساطتها بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية عام 1979، حين جرى إطلاق سراح موظفين أمريكيين عقب احتجازهم في السفارة الأمريكية في طهران، وحين أبرمت اتفاقية حدودية بين العراق وإيران عام 1975، نصّت على تسوية النزاعات الحدودية المشتركة بين البلدَين.
والسؤال هنا: كيف تمكنت الجزائر من كسب هذه القوة الإقليمية والدولية، وهي لم تتعافَ بعد من حربها ضد المستعمر الفرنسي؟ والحقيقة تكمن في استثمارها بالعلاقات التي أقامتها زمن الاستعمار.
عاصمة الثوّار
غداة الاستقلال مباشرة، قال الغيني أميلكار كابرال، زعيم الحزب الأفريقي لتحرير غينيا وجزر الرأس الأخضر، أحد أبرز الثوار الأفارقة وملهم حركات تحريرية في مختلف أنحاء العالم، إن “الجزائر مكة الثوّار”، وعندما طلب منه أحد الصحفيين، وهو في أحد مؤتمراته التي كان يترأّسها بالجزائر العاصمة، تفسير هذه العبارة، أجابه قائلًا: “المسلمون يحجّون إلى مكة والمسيحيون إلى الفاتيكان والحركات التحررية إلى الجزائر”.
تُظهر مقولة المناضل أميلكار كابرال مدى أهمية الجزائر عند حركات التحرر في العالم، فبعد الاستقلال مباشرة سارع الدبلوماسيون الجزائريون في الانتشار حول العالم، لدعم وتشجيع وإسداء المشورة للأنظمة والعواصم الشقيقة الراغبة في التحرر، في إطار مواصلة نهج جيش التحرير الذي قدّم الدعم الكبير لكلّ طالب له أثناء الاستعمار.
في السياق ذاته، يقول مروان البرغوثي، أحد قادة فتح المسجون حاليًّا في معتقلات الاحتلال، في حوار صحفي عام 2010، إن “الملهم الأول لفكرة تأسيس حركة فتح كان الثورة الجزائرية”، وإن “جبهة التحرير الوطني الجزائري شكّلت نموذجًا يحتذى به لقادة فتح المؤسسين”.
كانت زيارة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة إلى كوبا عام 1962 لحظةً مفصلية في تنصيب الجزائر كقاعدة مهمة لحركات التحرر حول العالم
وفي السنوات الأخيرة للاستعمار وبداية الاستقلال، مثّلت الجزائر حاضنة مهمة ومحفزًا كبيرًا للثوار والمقاومين، ليس في أفريقيا والوطن العربي فقط، إنما في أنحاء كثيرة من العالم، وكانت زيارة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة إلى كوبا عام 1962 لحظة مفصلية في تنصيب الجزائر كقاعدة مهمة لحركات التحرر حول العالم.
إذ تحدّى بن بلة الولايات المتحدة الأمريكية وزار كوبا انطلاقًا من نيويورك، وهناك التقى مع فيديل كاسترو وتشي جيفارا، وتباحثوا حول ممكنات التعاون فيما بينهم في دعم حركات التحرر ضد الاستعمار حول العالم، ليزور بعد ذلك تشي جيفارا الجزائر.
قادة التحرر يتوافدون إلى الجزائر
زار الثوري الكوبي تشي جيفارا الجزائر في المرة الأولى عام 1963، لتتوالى بعدها اللقاءات الدبلوماسية، ولم يكن “التشي” أول قائد ثوري يزور الجزائر للتعرُّف إلى مشروع التحرر الجزائري الذي نال من الاستعمار الفرنسي الهمجي، إذ سبقه إلى ذلك عدد من الثوار من مختلف أنحاء العالم، وعلى رأسهم المحارب الشرس من أجل الحرية الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.
خلال زيارة مانديلا للجزائر، تأثرت الشخصية البارزة في الكفاح ضد نظام الأبارتايد وأول رئيس من أصل أفريقي لجنوب أفريقيا، بشكل كبير بتاريخ المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، واستلهم منها في مقاومته لنظام التمييز العنصري الذي كان سائدًا في بلده.
ومن باب الاعتراف بالجميل، كانت الجزائر أول بلد يزوره مانديلا بعد إطلاق سراحه من السجن عام 1990، وفي تلك الزيارة أراد مانديلا الاعتراف بالإلهام الذي منحته إياه ثورة الجزائريين، والدعم الذي قدمته ضد نظام الفصل العنصري.
كما استقبلت الجزائر عام 1964 النواة الأولى لحركة فتح الفلسطينية، المشكّلة من ياسر عرفات (أبو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وأحمد وافي (أبو خليل)، حينها كان المؤسّسون الأوائل لفتح يسعون لتفجير ثورة فلسطينية مستقلة عن القيادتَين المصرية والأردنية اللتين تسيِّران قطاع غزة والضفة الغربية.
فضلًا عن هؤلاء، فتحت الجزائر أبوابها أمام أوليفر تامبو المناضل ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وجوشوا نكومو المناضل والقائد الزيمبابوي العريق، وسام نجوما مؤسس ناميبيا، والناشط الأمريكي من أصول أفريقية ستوكلي كارمايكل، القيادي في حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة والحركة الأفريقية العالمية.
استقبلت الجزائر أيضًا منفيين هاربين من جحيم ديكتاتوريَّي إسبانيا والبرتغال العسكريَّين فرانكو وسالازار، ومناضلين هاربين من أنظمة البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وأمريكا الوسطى، ومعارضين سياسيين.
دعم دبلوماسي وعسكري
مدّت الجزائر حركات التحرر بالسلاح والتدريب العسكري، وشاركت بعض الثوار بالقتال، كما حدث في تونس حين انتسب عدد من المناضلين من جيش التحرير الجزائري إلى صفوف المقاومة التونسية، في سبيل التخلُّص من المستعمر الفرنسي.
كما دعمت الجزائر مانديلا بالسلاح أيضًا، فخلال زيارته الجزائر عام 1961، في خضمّ جولة أفريقية مخصّصة لتأسيس الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي المسمّى “أوم كونتو في سيزوي” أي “رمح الأمة”، شارك مانديلا في تدريبات مشتركة بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية والمؤتمر الوطني الأفريقي.
حاولت الجزائر دعم حركات التحرر على مسارح السياسة الدولية، وبفضلها استطاعت عدة حركات تدويل قضاياها في المحافل الدولية، خاصة في منابر الأمم المتحدة
وضعت الثورة الجزائرية وجيش التحرير بين يدَي الأيقونة الجنوب أفريقية نيلسون مانديلا السلاح، وعلّماه إطلاق النار لأول مرة وألهماه القوة والبصيرة، قبل أن يعود إلى بلاده في جنوب القارة ويخوض ثورة ضد نظام الأبارتايد في بلاده.
تضاف إلى جنوب أفريقيا حركة فتح الفلسطينية، التي أرسلت في بداية عهدها 57 متطوعًا فلسطينيًّا للتدريب بالأكاديمية العسكرية في شرشال بالجزائر، وشكّلوا النخبة التي قادت الكفاح المسلح ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
إذ يقول مروان البرغوثي إن أول دفعة من الأسلحة الجزائرية وصلت إلى حركة فتح بعد 3 أشهر من إطلاقها أول رصاصة مطلع يناير/ كانون الثاني 1965، وتزن شحنة الأسلحة 12 طنًّا، نقلتها طائرتا أنطونوف إلى مطار المزة العسكري في سوريا.
ضمّت الشحنة حينها مسدسات شارلينغ البريطانية مع ذخيرتها، ومسدسات طاحونة بلجيكية وفرنسية مع ذخيرتها، وقنابل يدوية هجومية ودفاعية، وألغام مضادة للأفراد والآليات، وبنادق كلاشنكوف، ورشاشات خفيفة دكتريوف، وبنادق بورسعيد مصرية الصنع وغيرها.
يذكر أن الأكاديمية العسكرية بشرشال احتضنت مقاتلين من دول أفريقية وعربية عديدة، وفيها تلقوا تدريبات متقدمة على استعمال الأسلحة، وتعتبر هذه الأكاديمية إحدى أبرز الأكاديميات التي يتدرّب فيها الجيش الجزائري حاليًّا، وإلى جانب جنوب أفريقيا وفلسطين، تضامنت الجزائر كذلك مع حركات المقاومة في البرتغال وجزر الكناري والبرازيل وحتى الولايات المتحدة.
توازيًا مع أهمية الدعم العسكري، حاولت الجزائر دعم حركات التحرر على مسارح السياسة الدولية، لمنحها ما تستحقه من مكانة واهتمام عالميَّين، وبفضلها استطاعت عدة حركات تدويل قضاياها في المحافل الدولية، خاصة في منابر الأمم المتحدة.
ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 1974 في الدورة 29 للأمم المتحدة، منحت الجزائر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لأول مرة فرصة مخاطبة العالم من منبر الأمم المتحدة، وهو ما مثّل انتصارًا كبيرًا للقضية الفلسطينية، التي حاول الاحتلال الإسرائيلي تغييب صوتها عن الساحة الدولية.
ألقى عرفات خطابًا تاريخيًّا في تلك الدورة التي ترأّسها عبد العزيز بوتفليقة، بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، أكّد فيه أن القضية الفلسطينية تدخل ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني الظلم والاضطهاد والاحتلال البشع، وقال مقولته الشهيرة: “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”.
إذًا، بدأ احتضان الجزائر لحركات التحرر منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها بمقاومة الاستعمار الفرنسي، إذ كانت جميع الدول التي لجأت إليها لاحقًا للاستفادة من الدعم السياسي والعسكري، تقتفي أبجدية ثورتها وآثار مقاوميها الذين باتوا رموزًا للحرية والوطنية.